ليس المخرج الأمريكي سبايك لي في صف المخرجين العظام، كفرانسيس فورد كوبولا وستانلي كوبريك، وبنسبة أقل مايكل تشيمينو، والحديث هنا عن مخرجين لأفلام تناولت الحرب الأمريكية في فيتنام. لكنه حاور هؤلاء وغيرهم في الزاوية التي نظر من خلالها إلى تلك الحرب، وكانت ضرورةً سردياً لكل تلك الحكايات في أفلام هؤلاء، وإن أتى الفيلم بمستوى أقل سينمائياً.الإشارة لفيلم «أبوكاليبس ناو» 1979، لكوبولا في بداية فيلم «دا فايف بلودز» كانت مباشرة، ولكونها أتت في بدايته، أحالت بشكل مقصود وصريح إليه، ونحن في الفيلمين أمام رحلة بحث أمريكية ومأساوية عن «كنز» ما في فيتنام.لا يُطلب من سبايك لي صناعة فيلم بمستوى أفلام المخرجين الكبار المذكورين، فإضافة لفيلم كوبولا، لدينا «فل ميتال جاكيت» 1987، لكوبريك و«دير هنتر» لتشيمينو. وهي ثلاثة أفلام أمريكية تناولت حرب فيتنام، هي الأهم برأيي سينمائياً، وإن كان آخرها، فيلم تشيمينو، عنصرياً وكولونيالياً بشكل واضح، لكن هذا مَبحث آخر.سبايك لي، صاحب أفلام تناولت قضية السود في أمريكا بأشكال مختلفة، أتى فيلمه معاكساً لفيلم تشيمينو، أتى بمضمون سياسي وبيّن، مناهض للحرب ومنتقد لها، وبشكل فني وسردٍ حكائي أقل بالمقارنة مع مستوى تلك الأفلام. لا يمكن لأفلام تتناول الحروب أن تكون بمضمون قومي يمجد الجيش، ويُظهر الآخرين، سواء أكانوا مدنيين أم مقاتلين، بتلك الصورة النمطية التي بنى عليها المستعمِر، وقبله المستشرِق نظرياته وأفعاله، وأن يكون في الوقت ذاته استقبالُ أحدنا لفنيةَ صناعتها مستقلاً عن ذلك المضمون، وهذا حال فيلم تشيمينو. ومقابل ذلك، هنالك فيلم سبايك لي، الذي أتى إلى تصوير الحرب من الموقع الحقوقي الأمريكي الأسود الرافض (بعبارات لمارتن لوثر كينغ ومحمد علي كلاي) لحرب الأمريكي الأبيض على أناس (فيتناميين) لم ينادوه بالزنجي، كما قال كلاي في بداية الفيلم، المبني كذلك على مشاهد أرشيفية لهؤلاء.معزل عن فيلم تشيمينو، وهو المقابل لفيلم سبايك لي، أسوأ منه سياسياً وأفضل فنياً. يمكن أخذ فيلمنا اليوم (Da 5 Bloods) المعروض على نتفليكس، كاستمرارية موضوعية لفيلم كوبريك، كزاوية نظر أخرى تتشارك معه في رفض الحرب، وهي زاوية الأمريكيين السود، فاقدي الحقوق في الدولة، التي يحاربون من أجلها في فيتنام. والفيلم كذلك أتى متوازياً مع فيلم كوبولا، حيث تتمحور الحكاية حول رحلة بحث عن «كنز» يكون إيجاده مأساة للباحث، وهو ترميز لهذه الحرب وقد يكون لكل حرب.هنالك العديد من الأفلام الأمريكية التي تناولت الحرب، الثلاثة المذكورة هي أفضلها، وقد نضيف إليها، لأسباب سردية وليست فنية، فيلم سبايك لي الأخير. وكي نطيل اللائحة قليلاً يمكن إضافة «بلاتون 1986 لأوليفر ستون، و«كَمينع هوم» 1978 لهال أشبي، بطولة جين فوندا الناشطة آنذاك ضد الحرب، لكن الربط بين قضية السود والحرب أتى في فيلم سبايك لي، كما لم يأتِ من قبل، فإن لم تكن للفيلم تلك القيمة الفنية العالية، كانت له إضافته العالية، سردياً، لمجمل ما صنعت السينما الأمريكية حول الحرب.إدخال مَشاهد أرشيفية خلال الفيلم، من الحرب ومواقف السود آنذاك، روى الفيلم قصة خمسة جنود سابقين في الحرب، يعودون إلى فيتنام للبحث عن صندوق من الذهب، كانوا قد وجدوه أثناء الحرب، وكذلك عن رفات رئيسهم الذي قُتل من قبل أحدهم بالخطأ في إحدى المعارك.بإدخال مَشاهد أرشيفية خلال الفيلم، من الحرب ومواقف السود آنذاك، روى الفيلم قصة خمسة جنود سابقين في الحرب، يعودون إلى فيتنام للبحث عن صندوق من الذهب، كانوا قد وجدوه أثناء الحرب، وكذلك عن رفات رئيسهم الذي قُتل من قبل أحدهم بالخطأ في إحدى المعارك.تنتهي رحلة البحث هذه بعبثية في ما يخص الرفات، وبمأساوية في ما يخص الذهب، كأنهم أكملوا برحلتهم هذه معركة أخيرة، كي يأتوا إلى فيتنام لنيل ذهبها والعودة به إلى الولايات المتحدة، وهي عملية نهب يقوم بها أمريكيون سود مثلوا، بها، الرغبة الأمريكية البيضاء، ذاتها، التي أتت قبل أعوام طِوال إلى هذه البلد، وليست قبعة «لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً» التي اعتمرها أحد العائدين، والتي كانت شعاراً انتخابياً لدونالد ترامب، ليست إلا سخرية سوداء من عودة هؤلاء، وهم يمثلون الفئة «الأكثر اضطهاداً» في الولايات المتحدة آنذاك، ويكملون بجشعهم (الذي شاهدناه في «أبوكاليبس ناو» كذلك) رحلة السلب التي بدأت مع الحرب، وهي رحلة استعمار واحتلال، ممتلئٌ التاريخ الأمريكي الحديث بها، وهي رحلة «بيضاء» أضخمُ ممثليها اليوم هو ترامب ذاته، بيضاء يمارسها جنود سابقون سود، إذ يمارسون في فيتنام ما يزيد من امتيازات مضطهدهم في بلادهم. كان من الضروري أن نشاهد فيلماً عن حرب فيتنام تكون شخصياته الرئيسية أمريكيين سودا، لكن، وهذه نقطة لا تقل جوهرية، من ضروري أن يكون الفيلم، صاحب النظرة السياسية المناهضة للحرب، بقيمة أعلى فنياً وسينمائياً وحكائياً.