أمتازت العاصمة بغداد وبعض المحافظات على مدار قرون عديدة بالتصاميم الجذابة والمباني المستوحاة من التراث البغدادي. الا ان تلك المعالم اختفت خلال السنوات الماضية، ولا سيما بعد 2003، نتيجة الحروب والإهمال التي طالها، حيث تحولت بعض تلك البيوت التي تحتوي على “الشناشيل” إلى مخازن لمختلف البضائع أو بيوت مهجورة ومتهالكة. والشناشيل تحفة معمارية تمتد فوق الشارع أو الزقاق أو داخل الفناء الداخلي للمنزل (الحوش)، وتبنى بالخشب المنقوش بالزجاج الملون، حتى تتيح للنساء مشاهدة الحي بالخارج من داخل بيوتهن، وخصوصا عندما كان الحي منغلقا وتصميم البيوت موجه للداخل وليس الخارج.يحرص البغدادي، محمد علي (47 عاماً) الذي اشترى عقارا في إحدى مناطق العاصمة، على تحويله لبناية تصاميمها مستوحاة من البيوت التراثية التي كانت تشتهر بها العراق في القرون الماضية، معللاً ذلك بأن تلك التصاميم جزء من الهوية التراثية العراقية التي يفتخر بها كل عراقي.وشهدت السنتان الأخيرتان إقبالا كبيرا من المواطنين على تصميم بنايات وبيوت مشابهة لتلك الموجودة في المناطق العريقة، مثل الكاظمية والأعظمية وشوارع بغداد كشارعي الرشيد والمتنبي.تقول المهندسة أسيل علوان (31 ربيعاً) “في فترة ما بعد 2003 سادت الواجهات العشوائية بألوان وتصاميم ومواد لا تمت بصلة للبيئة والتراث العراقي، وكثرت واجهات مكسوة بألوان مزعجة في وسط بغداد وشارع الرشيد، بهدف طمس التراث والتاريخ العريق لأغلى البنايات هناك”.كما أوضحت المهندسة المعمارية زينب شعبان أن “الشناشيل البغدادية لها معايير تراثية وحضارية وجمالية قيمة، فقد بدأت من زمن العصر العباسي (750-1258) وبناء مدينة بغداد بشكل معماري جميل، إلا أن أوج انتشارها كان بالعهد العثماني (1517-1805) حيث وصلت لأبهى صورها وانتشرت بشكل كبير بالعراق والشام ومصر والجزيرة العربية، وحتى في مالطا حيث حكم العرب 400 سنة، وظلت شاهدة على التراث العراقي إلى غاية اليوم”.وتابعت زينب شعبان أنه “على مر العصور سميت الشناشيل بعدة تسميات، المشربيات والمشرفيات، والشنشول كلمة ليست عربية، وربما تكون فارسية الأصل، ولكنها عراقية المنبع بعملها البنائي وفنها المعماري والبيئي، والكلمة من (شاه) يعني ملك و(شن) معناها المقصورة فسميت شنشول”.وأضافت أن وظيفة الشناشيل ليست جمالية فقط، إذ لها وظيفة معمارية لتنقية الهواء حتى تسمح بدخوله عبر المشربيات والفتحات الصغيرة إلى داخل غرف المنزل، مما يساعد على تبريد الهواء وتنقيته، ويسمى بالتبريد التبخيري، ومن المتعارف عليه أن توضع في المشربيات جرار فخارية لتبريد الماء من خلال الهواء المار بالشنشول من الخارج.وبحسب حديث المهندسة المعمارية فإن للشنشول وظيفة أساسية أخرى هي إدخال النور بكفاءة عالية دون زيادة درجات الحرارة في الداخل.والخشب هو المادة الرئيسية لبناء الشنشول، وهو مادة خفيفة ومتوفرة، وأسهمت في تخفيف وزن الأبنية آنذاك، كما يسهل تشكيله وإدخال النقوش به.والشناشيل البغدادية كانت المنفذ الوحيد الموجه للخارج للمحافظة على خصوصية الناس، وساعدت وجود مثل هذه الشناشيل في تقارب أهل الحي الواحد وتبادل الأحاديث بين العوائل العراقية، بحسب زينب شعبان.ووصفت شعبان الشناشيل بأنها “تمثل تحفة معمارية ومزيجا من الفن والعمارة والحضارة والإرث المعماري ومن الواجب الحفاظ عليها وصيانتها”، مشيرة إلى أنها “قد تعرضت خلال السنين إلى الكثير من التخريب والهدم، وهي مهددة بالاندثار ولم تبق منها إلا القليل”، داعية في الوقت ذاته إلى “تحويل هذه البيوت إلى متاحف ومزارات للسياحة”. وطالبت الجهات المسؤولة بأن تحافظ عليها وتمنع تحويلها بأي شكل إلى أغراض أخرى.في حين، رأت أسيل علوان أن “عودة انتشار واجهات يصممها وينفذها مهندسون معماريون وفنيون بلمسات تراثية تعيد إلى ذاكرتنا أيام الزمن الجميل وتراث أجدادنا حيث الشناشيل البغدادية والأقواس العباسية المدببة أو النصف دائرية والطراز الملكي الكلاسيكي الفخم”.وأضافت “كلفنا أستاذنا بالجامعة بالبحث عن البنايات المعروفة في بغداد التي تشوهت واجهاتها وتوثيقها في تقارير وإرفاقها إلى الجهات المختصة، ومن ضمنها بنايات في شارع الرشيد وبناية البنك المركزي العراقي، واستمر السعي من خلال المناشدات وإعداد التصاميم وتوعية الناس، وبالفعل أوقفت أمانة بغداد عمليات التشويه”.وأكدت أسيل التي تمتلك مكتبا معماريا في بغداد، أن المجتمع اليوم أصبح أكثر تمسكا بالطراز التراثي العراقي، وقالت إن دور المعماريين والأكاديميين مهم في إظهار الملامح المعمارية التراثية وإبرازها للذائقة لتظهر بأبهى صورة لها ويزداد الطلب عليها.وتعاني معظم البنايات التي تحتوي على شناشيل من الإهمال خصوصا في المناطق والشوارع القديمة كشارع الرشيد، رغم بعض الحملات التي تحاول المحافظة عليها.وحصلت وزارة الثقافة والسياحة والآثار، قبل أيام، على حكم من رئاسة محكمة استئناف بغداد الرصافة برد دعوى قضائية تمنع هدم وتجديد بناء عقار في شارع الرشيد، معتبرة أن شارع الرشيد من معالم التراث العراقي، حسب الإعلان المستند عليه بدفع قانونية الوزارة لدعوى المدعي عليه الصادر عام 2017 .وأوضح مدير قسم الشؤون القانونية كرم حسين أن الآثار محمية بموجب الدستور والاتفاقيات الدولية ذات الصلة، كما أن السعي مستمر للحفاظ على الآثار والتراث بالتنسيق مع التشكيلات المختصة بالوازرة والجهات الرسمية الأخرى، وتعقب المخالفين أمام كافة السلطات لإيقاع العقوبات بحقهم واتخاذ التدابير والحماية المقررة قانوناً للحفاظ على الآثار والتراث العراقي.