إن النقد الذي قام بتوجيهه ابن خلدون إلى التاريخ أتى في مرحلة كان التأريخ العربي قد خطا خطوات فسيحة أدت إلى ترسيخ ما يمكن تسميته “تقليد” في الثقافة العربية، وبالتالي كان نقده نقداً جذرياً شمولياً لا يكتفي بنقد عمل هذا المؤرخ أو ذاك بل شمل كل المجال المعرفي للتاريخ وذلك بتوجيه النقد إلى الأسس التي قام عليها هذا العلم إلى ذلك الحين، فكان مشروعاً يهدف إلى إحداث تحول في المجال المعرفي لعلم التاريخ بأكمله ثم إنه لم يكن يتعلق بتجديد منهج العلم وحسب بل بتجديد التصور عنه، فقد كانت وضعية التاريخ في تصنيفات الفلاسفة العرب للعلوم تتأرجح بين وضعيتين؛ فهناك تصنيفات لا تذكر التاريخ على الإطلاق كتصنيف الفارابي في كتابه إحصاء العلوم ثم تصنيف إخوان الصفاء وتصنيف الخوارزمي وتصنيف ابن النديم، حيث إن هؤلاء عملوا على ذكر التاريخ ضمن تصنيفاتهم كعلم ثانوي، وقد خصص إخوان الصفاء فصلاً في الرسالة السابعة للبحث في أجناس العلوم ذكروا فيها التاريخ ضمن العلوم الوضعية وليس ضمن العلوم الفلسفية، أما الخوارزمي فقد قسم كتابه مفاتيح العلوم إلى قسمين يذكر في القسم الأول المعارف النقلية وما يتعلق بها وضمنها علم الأخبار وهو ما يقصد به علم التاريخ، كذلك خصص ابن النديم المقالة الثالثة من كتابه “الفهرست” لفنون الأخبار والآداب والسير والأنساب التي وضعها أيضاً ضمن المعارف النقلية كما نجد الغزالي أيضاً قد أكد في أبحاثه مبدأ هذه التصنيفات.وبالتالي كانت تلك هي بشكل عام وضعية علم التاريخ في تصنيفات المفكرين العرب قبل ابن خلدون الذي عمل جاهداً على الإثبات والبرهنة أن علم التاريخ هو علم عقلي بالدرجة الأولى وقد تم وصف تصرفه هذا من قبل النقاد والباحثين على أنه تثوير للتصور الذي كان قائماً عن ذلك العلم كما أنه تثوير للتصور الذي كان عن نسق المعارف الإنسانية.