مقالات ودراسات -
ترجمة وإعداد الدكتور سعود المولى - 5:49 - 21/07/2024
-
عدد القراء : 245
كلوي دانيال Chloé DANIEL
حائزة على ماستر في التاريخ والعلاقات الدولية من الجامعة الكاثوليكية في ليل-فرنسا، 2023
ترجمة وإعداد الدكتور سعود المولى: زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية- قطر
يدعي فلاديمير بوتين امتلاك حق “لا جدال فيه” على دول البلطيق بسبب “تفسيره” لتاريخ روسيا مع هذه الدول. وتعتبر موسكو أن مدن تالين Tallin وريغا Riga وفيلنيوس Vilnius هي جزء مما تسميه “الأجنبي القريب” من الكرملين، أي المنطقة التي يفترض أن تشعر بالحنين إلى العظمة السوفييتية، والمطلوب حمايتها من تأثير “الغرب الجَمْعِيّ” . وتذهب موسكو إلى حد تجريم شخصيات من دول البلطيق ترفض “الرؤية التاريخية” لفلاديمير بوتين. وتتجاوز استراتيجية الضغط والنفوذ الروسية المجال العسكري والاقتصادي والإنساني والإعلامي ، لتضم تحت جناحها كل الأقليات الناطقة بالروسية. وفي هذا السياق، فإن الأحزاب السياسية مثل حزبي الاتحاد الروسي والديمقراطي الاشتراكي “الوئام” في لاتفيا، وحزب الوسط في إستونيا، تعتبر قوى موالية لروسيا بما أنها تدافع عن الناطقين بالروسية وتدعو إلى الحفاظ على الثقافة الروسية في بلادها. وعلى الرغم من تورطه في الحرب العسكرية والأيديولوجية ضد أوكرانيا، إلا أن الاتحاد الروسي لا يخفي خطته للحفاظ على نفوذه لا بل وتعزيزه داخل دول البلطيق.
تمثل إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، بحسب ميشيل فوشيه Michel Foucher “منطقة خفقان ملتهب، ودائمًا ما تكمن المسألة الحقيقية لروسيا في عملية السيطرة […] على برزخ البلطيق/البحر الأسود” . وهذا في الواقع ما حفز أولاً الإمبراطورية الروسية بداية، ثم الاتحاد السوفييتي (1922-1991)، ثم روسيا المعاصرة للحفاظ على نفوذها في المنطقة. وعلى الرغم من انهيار الاتحاد السوفييتي في ديسمبر 1991، فقد ظلت الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية السابقة من دول البلطيق تحتل مكانة فريدة بين أهداف موسكو. ذلك أن “أصالتها” ضمن “الخارج القريب” الروسي ترجع إلى تجربتها السوفييتية، وإلى الصدمات والآثار التي خلفتها فترة الاحتلال هذه. ومنذ انضمامها في عام 2004 إلى حلف شمال الأطلسي ثم الاتحاد الأوروبي، أصبحت خصوصيتها تتمثل أيضًا في انتمائها إلى ذلك “الغرب الجَمْعِيّ”. وبالتالي، تستخدم موسكو أدوات نفوذ مختلفة ومتطورة ولا سيما “قوتها الناعمة” . ويأمل الكرملين أن يتمكن من الاعتماد على الأقليات الناطقة بالروسية في دول البلطيق الثلاثة ومن خلال استخدام الأحزاب السياسية التي تمثلها، على المستوى الوطني كما الأوروبي. تندرج هذه الأحزاب الممثلة في الخريطة أدناه في الإستراتيجية السياسية الروسية؛ فهل هم حلفاء فعليون لفلاديمير بوتين، كما يتهمهم الأوروبيون منذ فترة طويلة؟ وماذا عن شعبيتهم في السياق الحالي للحرب في أوكرانيا؟ باختصار، إلى أي مدى تشكل دول البلطيق أدوات للنفوذ السياسي الروسي؟
دول البلطيق بين أقليات ناطقة بالروسية وأحزاب قريبة من موسكو.
خريطة من إعداد ك. دانيال 2023 Daniel/Diploweb.com
تسمح لنا هذه الخريطة بفهم: 1- عملية استخدام موسكو لهذه الأقليات. 2- فهم الأحزاب السياسية التي لها علاقات ملتبسة، لا بل مشبوهة مع موسكو. وأخيرًا 3- فهم الإستراتيجية الروسية في تعاملها مع الوسائل والطموحات البلطيقية والأوروبية.
نذكر هنا أن فنلندا ولاتفيا وليتوانيا وإستونيا أعضاء في الاتحاد الأوروبي وأن عدد سكان فنلندا 5.5 مليون، ولاتفيا 1.87 مليون، وليتوانيا 2.8 مليون، وإستونيا 1.33 مليون.
1- استغلال روسيا للأقليات البلطيقية الناطقة بالروسية
“مواطنونا، أو بنو جلدتنا” في “العالم الروسي”: هذان المفهومان هما في أصل استغلال الأقليات الناطقة بالروسية من قبل الكرملين.
في 19 ديسمبر 2013، استعاد فلاديمير بوتين، خلال مؤتمر صحفي نقلته قناة روسيا 24، ذكرى سقوط الاتحاد السوفييتي بالقول: “في يوم من الأيام، استيقظ الناس، لم يسألهم أحد عن أي شيء، واختفت البلاد. لقد أدركوا فجأة أنهم كانوا يعيشون في الخارج…”. وهؤلاء كانوا في معظمهم من
“العرقيات الروسية”(russkiy)، وهو مصطلح يختلف عن مصطلح “المواطنين الروس” (روسيسكي)، ويوصفون عادة بأنهم “مواطنونا- ابناء جلدتنا” (sootechestvennik) الذين ينظم وضعهم القانون الاتحادي “في سياسة دولة الاتحاد الروسي تجاه مواطنيه في الخارج”. ويشمل المصطلح: المواطنين
الروس خارج الإقليم؛ والمواطنين السابقين في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتتية؛ والمهاجرين من الدولة الروسية ومن الاتحاد السوفييتي؛ وأحفاد فئات الأشخاص الذين سبق ذكرهم، باستثناء
أحفاد الأشخاص الذين حصلوا على جنسية جديدة. في عام 2014، أحصت أكاديمية العلوم الروسية ما يقرب من 30 مليون شخص ينتمون إلى هذه الفئة من الناس. وفي إستونيا ولاتفيا، ستكون نسبتهم 24.8% و24.5% من سكان هذين البلدين ، على الرغم من أن هذه الأرقام ترتفع أحياناً
لتصل إلى 26.2% في لاتفيا.
وبصورة أعم فإن هذا الشتات الروسي ينتمي إلى “العالم الروسي” ( (russkiy، كما تصوره فلاديمير بوتين: (إن “العالم الروسي” هو فكرة محددة فقط على أساس التعريف الذاتي للهوية) . وهذا هو مجال النفوذ الذي يتخيله الكرملين على أساس ثقافي ولغوي يتجاوز الحدود الجغرافية والعرقية الروسية . والفكرة الرئيسة هنا هي التالية: جعل مجال ما بعد الاتحاد السوفيتي منطقة عازلة، أو بمعنى آخر، منطقة تقع بين كيانين جغرافيين، بحيث يفصل، في هذه الحالة، بين قوتين لهما “تقاليد وأعراف” مختلفة. وهكذا فإن مفاهيم “مواطنينا في الخارج” و”العالم الروسي” تعكس مستوى التوتر بين الحدود الحقيقية للاتحاد الروسي والخرائط الذهنية لـ”روسيا” الموجودة في أذهان الكثيرين من الروس “. كما أن استخدامها يسمح لفلاديمير بوتين أن يخلق فكرة “هوية مشتركة” عمادها ببساطة اللغة الروسية. إنها اللغة الأولى لـ 30% و34% من السكان الإستونيين واللاتفيين على التوالي . ومع ذلك، وكما توضح سيلين بايو: “[…] يجب أن نفهم هذه الأقليات [الروسية] بشيء من التمييز الدقيق. فمن بين هؤلاء “المتحدثين بالروسية”، نجد أن بعضهم […] هم من المعارضين الروس أو البيلاروسيين أو غيرهم وقد استقروا على شواطئ البلطيق هرباً من الأنظمة غير الديمقراطية؛ لا بل ويوجد أيضًا بينهم عدد ممن نزحوا من أوكرانيا منذ بداية الحرب، وبالتالي فهم يتحدثون الروسية بحكم الأمر الواقع. وضمن هؤلاء “المتحدثين بالروسية” أيضًا نجد أن بعضهم هم مواطنون ليتوانيون أو لاتفيون أو إستونيون؛ والبعض الآخر مواطنون من بلدان أخرى؛ وآخرون، هم أخيراً، “غير مواطنين” […]” . والحال أن مسألة اندماج الأقليات الناطقة بالروسية هي مسألة سياسية بامتياز. ولقد كانت محل جدل منذ اليوم التالي للاستقلال وهي لا تزال تطرح المزيد من التساؤلات في سياق الحرب في أوكرانيا. ففي فيلنيوس، حيث عدد السكان الروس صغير وعدد السكان البولونيين أكبر قليلاً ، نجد أن المدينة اختارت “صيغة الصفر” منذ 2022. وهذا يعني أن “الجنسية الليتوانية كانت تُمنح من دون أي شروط مسبقة لجميع السكان المحليين الذين يرغبون في الحصول عليها”. وبالتالي فإنه جرى تجنيس98% من الناطقين بالروسية . لكن إستونيا ولاتفيا أظهرتا تشددًا أكبر في سياساتهما تجاه الأقليات الناطقة بالروسية وهي هنا أكبر . وقانون الجنسية الإستوني لعام 1992 يميز بين الأقليات التاريخية “والمهاجرين” الجدد من خلال وضع شروط معينة. وجرى استحداث فئة “غير المواطنين” بالنسبة للآخرين. ويتمتع هؤلاء الأخيرون بحقوق أقل من السكان المتجنسين إنما لا يزال يحق لهم التصويت في الانتخابات المحلية. هذه الفئة من غير المواطنين تستفيد من الحصول على جوازات سفر محددة. ومن دون أن يكونوا عديمي الجنسية apatrides ، إلا أن وضعهم استثنائي. فهم ليس لديهم الحق في الوصول إلى وظائف معينة في الإدارة العامة ولا الحق في التصويت في الانتخابات، باستثناء الانتخابات المحلية في إستونيا. وهذا يطرح مشكلة قانونية بديهية.
إن هؤلاء الناطقين بالروسية هم الذين تأخذهم موسكو بعين الاعتبار، ولا سيما “غير المواطنين” في إستونيا ولاتفيا،و تعتبرهم “مواطنينا، من أبناء جلدتنا” في “العالم الروسي” حُكم عليهم بالتمييز، وتدافع عنهم بعض الأحزاب السياسية، وخصوصًا اللاتفية والإستونية. ومع ذلك، والحال أن هذا يندرج ضمن الخطاب الروسي، مما يترك مجالاً لانتقاد العلاقات القائمة بين الأحزاب المذكورة، والشخصيات السياسية التي تمثلها ، وحزب روسيا الموحدة بزعامة فلاديمير بوتين.
2- الأحزاب السياسية في منطقة البلطيق التي تقيم ، في بعض الأحيان، علاقات غامضة، بل ومشبوهة، مع موسكو.
الحزب الديمقراطي الاشتراكي “الوئام” (SDPS) والاتحاد الروسي في لاتفيا (LKS)، فضلًا عن
عن حزب الوسط في إستونيا ، ينمن استخدامهم رسلًا للدعاية الروسية. فهم يدامفعون عن مصالح الناطقين بالروسية الموجودين في الإقليم، ما يمكنهم من الحصول على عدد معين من الأصوات.
وفي الواقع، توجد علاقة اجتماعية مكانية بين عدد الأصوات المخصصة للأحزاب وعدد الروس والناطقين بالروسية الذين يعيشون في بعض مناطق لاتفيا، كما تظهر ذلك دراسة أجريت في عام 2022 . وعلى سبيل المثال، فإن مدينة دوغافبيلس Daugavpils في لاتفيا، حيث ما يقرب من 75٪ من السكان يتحدثون اللغة الروسية كلغة أم وحوالى 50٪ هم روس عرقيًا ، تشكل قطاعًا كبيرًا من ناخبي حزبي SDPS أو LKS. ومثلها مثل نارفا Narva في إستونيا ، تعتبر دوغافبيلس منطقة جغرافية عند خط التوتر، ومسرحًا مهمًا للدعاية الروسية، التي تجمع السكان الأقرب ولكن أيضًا الأكثر بعدًا خلال هذه الفترة من الحرب في أوكرانيا. وكدليل على القلق الحالي بشأن الأقليات الناطقة بالروسية في هاتين المنطقتين، أخرج غابرييل رينج Gabriel Range في عام 2016 الفيلم الوثائقي “هذا العالم، الحرب العالمية الثالثة: داخل غرفة الحرب”؛ وهو يتخيل مصير
دوغافبيلس: فبسبب الشعور بالتمييز بسبب وضعهم، يتمرد الناطقون بالروسية ضد حكومة لاتفيا يدعمهم الكرملين الذي ينتهز الفرصة لغزو لاتفيا.
الدفاع عن الأقليات الناطقة بالروسية، والحفاظ على اللغة الروسية، والثقافة الروسية، أو على نصب تذكاري لمجد الاتحاد السوفييتي، كلها عناصر تناولتها الأحزاب و شخصيات سياسية ديمقراطية اشتراكية لاتفية وإستونية، تنحاز إلى خطاب الاتحاد الروسي. ويواصل حزبا LKS وSDPS، أكان ذلك عبر في تعاون رسمي مع موسكو أم لا، الدفاع عن مصالح الكرملين على أراضي لاتفيا، مشاركين بذلك في خلق
خصوصية لاتفية حول هذا الموضوع. وقد فقد كلا الطرفين شعبيته بشكل كبير في الانتخابات البرلمانية لعام 2022، بسبب الهجوم الروسي على أوكرانيا في 24 فبراير 2022، ومع ذلك، فإن خطهما السياسي لم يتغير. وعلى الرغم من أن كلاهما نفى بشكل أكثر أو أقل جذرية أي علاقة مع روسيا، إلا أن كونهما يمكنهما الحصول على التمويل من الكرملين، أو أن يكون 40% فقط من الناطقين بالروسية يدينون الحرب التي تقودها روسيا في أوكرانيا ، هو ما يسمح للحزبين بالحفاظ على جمهور انتخابي.
الحزب الديمقراطي الاشتراكي(هارموني)، الذي تأسس عام 2010، هو الحزب الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد في البرلمان في أعوام 2011 و2014 و2018 . نيلس أوساكوف، ممثل الحزب، هو عمدة ريغا منذ عام 2013 حتى عام 2019، قبل عزله في فضيحة فساد. ومع ذلك، “في الفضاء اللاتفي الإعلامي، يتمتع الحزب” بسمعة ثابتة باعتباره “الذراع المسلحة للكرملين.” أما “اتحاد لاتفيا الروسي” الذي تشترك في رئاسته تاتيانا جدانوكا وميروسلافس ميتروفانوفس، فهو “موجَّه بقوة نحو روسيا أكثر من حزب هارموني، ويقوم بشكل خاص بحملات لإدخال اللغة الروسية كلغة ثانية رسمية للاتفيا، وكذلك لمنح الجنسية – ومن ثم الحق في التصويت – لجميع المقيمين في لاتفيا” .
ويختلف هذا الوضع في إستونيا، حيث يحمل حزب “الوسط الإستوني”، الذي يتعرض للانتقاد، خطًا سياسيًا أكثر اعتدالًا بكثير من الأحزاب اللاتفية المذكورة أعلاه. وهذا الموقف مرتبط بانخفاض الشكوك حول صلاته بموسكو ما زاد من شعبيته. ولأن الحزب عرف كيف يتخذ موقفًا انتقاديًا من السياسة الخارجية الروسية في عدة مناسبات، فإنه ظل برغماتيًا . أخيرًا، تعتبر ليتوانيا استثناءً مقارنة بدولتي البلطيق الأخريين على المستويات التاريخية والتشريعية والديموغرافية وبالتالي السياسية. في الواقع، لا يشكل الناطقون باللغة الروسية (وعددهم قليل وينتشرون في جميع أنحاء الإقليم) مجمعًا انتخابيًا مطلوب إرضاءه والدفاع عنه سياسيًا. ويظل موقفهم مؤيداً لأوروبا. والتهديد الروسي الرئيسي هو بالتالي عسكري، خصوصًا أن ليتوانيا متاخمة لمنطقة كالينينغراد الروسية وبيلاروسيا. وتُدرك إدارة أمن الدولة الليتوانية هذا الأمر: “لا تزال منطقة كالينينغراد تشكل التهديد الأكبر في المنطقة المجاورة لليتوانيا” ، هكذا ورد في تقريرها لعام 2023 . والحال أن منطقة كالينينغراد وبيلاروسيا متصلة بممر سووالكي Suwalki الذي يبلغ طوله 64 كيلومترًا، والذي ليس سوى الحدود بين ليتوانيا وبولندا، وهي منطقة ذات كثافة سكانية منخفضة. ستكون هذه “نقطة الضعف في أوروبا الناتو” في حال استولت عليها روسيا بقواتها، فاصلة بذلك دول البلطيق تمامًا عن بقية أوروبا. نقاط الضعف هذه في سووالكي أبرزها الجنرال بن هودجز Ben Hodges ، القائد السابق للقوات الأمريكية في أوربا، في تقرير نشره منذ عام 2018 نبّه فيه إلى أن على “أعضاء الناتو ألا يكون عندهم أدنى شك في أن القوات الروسية تهدد السلامة الإقليمية للتحالف عبر الأطلسي برمته. كل نقاط الضعف في إستراتيجية الناتو وتموضعه العسكري تلتقي عند حالة ممر سووالكي” . لكن قوات الناتو تتمركز في محيط ذلك المكان.
أكثر من الأحزاب السياسية نفسها، هناك شخصيات سياسية معينة هي مصدر القلق أكثر. على العكس من السياسي الجيرداس باليكيس Algirdas Paleckis في ليتوانيا، الذي حوكم على أفعاله، فإن نيلز أوساكوف (SDPS) وتاتيانا جدانوكا (LKS) ممثلان في البرلمان الأوروبي. ونايلز أوساكوفس، الناطق باللغة الروسية و”غير المواطن” اللاتفي إلى أن بلغ 23 عامًا، لا يزال يدافع عن مصالح الناطقين بالروسية، برغم أنه يدحض صلاته المزعومة بموسكو. تظهر تاتيانا جدانوكا أقرب ما يمكن إلى موسكو، بوصفها رسول الدعاية الروسية داخل البرلمان الأوروبي، بالإضافة إلى المستوى الوطني. وعلى سبيل المثال، في عام 2019، قارنت الناطقين بالروسية في لاتفيا باليهود قبل الحرب العالمية الثانية، وهو إعلان جعل جهاز أمن الدولة في لاتفيا يطلق بحقها قضية جنائية بتهمة التحريض على الكراهية العرقية . كما أنها أيدت في السابق الضم الروسي غير القانوني لأراضي شبه جزيرة القرم عام 2014 والدعم الروسي لنظام بشار الأسد في سوريا .
ولأنها وحيدة نسبياً في معركتها داخل الاتحاد الأوروبي، فإنها ليست سوى مناوبة عابرة مع تأثير ضئيل اليوم. ويمكن تفسير افتقار هذه الشخصيات الحالي إلى النفوذ بالنضال التاريخي الحقيقي الذي تخوضه دول البلطيق ضد روسيا التي تشكل برأيها خطرًا على الديمقراطية. وهذا يحدث من خلال الوسائل الإقليمية، ولكن
أيضًا الأوروبية، لمواجهة نفوذ وتوسع الخطاب الروسي.
3-الإستراتيجية الروسية في تعاملها مع الوسائل والطموحات البلطيقية والأوروبية.
بالنسبة إلى موسكو، لا يتعلق الأمر فقط بالتمتع بنفوذ معين داخل دول البلطيق مع وجود جهات فاعلة أخرى أيضًا، ولكن بالحفاظ على درجة من السيطرة فيها. ولهذا فهي تحتاج أن تزعزع مصداقية هذه الدول عند المؤسسات الأوروبية. ولهذا السبب يحب الكرملين التأكيد على النزعة النازية المزعومة عند دول البلطيق وعدم احترامها حقوق الإنسان حيال السكان الناطقين بالروسية. لا بل أن روسيا تطلق على دول البلطيق اسم “الدول الفاشلة”. وهذا التصور لدول البلطيق، خصوصًا بسبب عضويتها في لاتحاد الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، نجده في الوثائق الرسمية وخطب الكرملين، أكثر من كونها منشورة على نطاق واسع. إن السرد الذي تستخدمه موسكو هو جزء من إستراتيجيتها في التأثير والنفوذ. وقد فهم فلاديمير بوتين ذلك جيداً: “نحن لا نقبل بيانًا اعتمادًا على مجرد دقته الواقعية ، وإنما بناءً على اندراجه ضمن سردية جذابة، أو يرويه شخص أو كيان له جاذبية “.
هذه الإستراتيجية نفسها تستخدمها الصين، حيث يكون هدف أعمال التأثير أيضًا نشر خطاب “بديل” في مواجهة القضايا الجيوسياسية الكبرى . تشكل الأجهزة الإعلامية في البلدين ركائز مهمة في حرب المعلومات التي ينفذانها، كما هو الحال مع كوفيد-19 أو الحرب في أوكرانيا. في عام 2020، كتب تشاو ليجيان، المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الصينية: “ربما يكون الجيش الأمريكي قد جلب الوباء إلى ووهان” . والهدف من هذا الكلام ذو شقين، وفقًا للأخصائي أنطوان بونداز: إلقاء اللوم على الغير والتقليل من الأخطاء في مواجهة مثل هذه الأزمة الصحية، التي هي فعليًا ذات أصل صيني . وينطبق الشيء نفسه على روسيا. في خطاب 30 سبتمبر 2022 ، والذي أعلن فيه فلاديمير بوتين عن ضم مناطق دونيتسك ولوغانسك، وكذلك مقاطعتي خيرسون وزابوروجي إلى روسيا بعد غزوه أوكرانيا في 24 فبراير 2022، ندد الرئيس الروسي بالهيمنة الغربية. فهي بحسب قوله من شأنها أن تشكل تهديدًا ، ليس فقط من حيث السيادة (الإقليمية، الاقتصادية والعسكرية) ولكن أيضًا من حيث القيم. فأفكار “الليبرالية المتطرفة” من شأنها أن “تُضعف القيم الروحية والأخلاقية الروسية التقليدية”. وللحفاظ على “روسيا التاريخية العظيمة”، يجب علينا حماية الأجيال القادمة من غرب “استعماري جديد” يريد “كسر روسيا”. وباختصار فإن هذا الخطاب الذي يضع مسؤولية الغزو الروسي لأوكرانيا على الغرب، هو من أعراض كل الشرور المنسوبة إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي وقد جرت شيطنتهما.
لكن دول البلطيق، في مواجهة العملاق الروسي، كانت دائماً، وبالأخص منذ عام 1991، متشككة حيال روسيا وترغب في البقاء بعيدًا عنها. وبالفعل ففي 25 فبراير1994 ألقى أول رئيس لإستونيا لينارت ميري خطابًا تنبؤيًا خلال حفل العشاء التاريخي الشهير Matthiae-Supper في هامبورغ (جمهورية ألمانيا الفدرالية) ، أوضح فيه أنه قلق بشأن تطبيع العلاقات الروسية الأوروبية و”غياب التدبر، بل وحتى أدنى تلطف ورعاية” من جانب الاتحاد الأوروبي حيال “دول البلطيق الصغيرة” التي عانت من الاحتلال الروسي . رفضت فرنسا وألمانيا على سبيل المثال، فرض عقوبات على روسيا برغم الحرب التي خاضتها ضد جورجيا في عام 2008. ولكن في الوقت نفسه، تعمل السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي على صد النفوذ الروسي من خلال المنظمات الإقليمية التي تقودها. وتهدف سياسة الجوار الأوروبية التي قامت عام 2004، إلى تعزيز العلاقات السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية بين الاتحاد الأوروبي وجيرانه الجدد المباشرين أو القريبين . في البداية كانت هذه السياسة مصممة أيضًا لتنطبق على روسيا، إلا أن موسكو رفضت الانضمام باعتبار عدم احترام مرتبتها المفترضة في عملية اتخاذ القرار، كما رأت في هذه المبادرة محاولة من جانب الاتحاد الأوروبي لتقليص نفوذه في الدول المجاورة المشتركة. ثم أنشأت موسكو حينها الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU)، وهو حل محل المجموعة الاقتصادية الأورآسية القديمة التي أعلن عنها في 10 أكتوبر 2000. ويهدف هذا الاتحاد إلى “أن يصبح جسرًا بين الاتحاد الأوروبي والصين” . لم يكن هناك أي دعوة لدول البلطيق للانضمام إلى مثل هذه المنظمات. وتماشيًا مع تطرفها ضد روسيا،
وبعد ضم شبه جزيرة القرم من قبل روسيا في 2014 أعلنت رئيسة ليتوانيا داليا غريباوسكايتي Dalia
Grybauskaité أن “الدولة التي تطلب من قواتها إزالة شاراتهم العسكرية، والتي تنشر جيشاً ومعدات ثقيلة من دون أي علامات تعرّف ، إن دولة كهذه تحمل كل علامات الدولة الإرهابية” . والحال أن هذا يسمح للكرملين ، في ظل مواجهة مستمرة بين السرديات ، بإدانة “رهاب روسيا” الذي تشعر به دول البلطيق التي ترى نفسها بالمقابل مهددة بشكل كبير من قبل روسيا.
باختصار، ووفقًا لسيلين بايو، “فإن الغزو الروسي لعام 2022 بالنسبة لدول البلطيق، ليس سوى استمرار لسياسة روسيا القديمة، وعلى وجه الخصوص عدوان عام 2014 […]. إنهم ملتزمون إلى جانب أوكرانيا […]، ويعتبرون أنفسهم سعداء برؤية أوروبا (المجموعة) وقد استعادت أخيرًا بصيرتها وتعبأت وتوحدت” . نادراً ما كان الاتحاد الأوروبي ، في الواقع، موحدًا وإجماعيًا كما هو اليوم، في اتخاذ القرارات المتعلقة بالحرب في أوكرانيا، وضد روسيا، وهذا يعزز خطاب دول البلطيق. ومع ذلك، فإن هذه الدول لا يغمرها الفرح والارتياح، لسبب بسيط هو أنها كانت تتوقع مثل هذا الهجوم وتعرف أن عواقبه ستكون زيادة التهديد الروسي لها . ولهذا، فإن دول البلطيق، ومعها بولندا، لا تتخلى عن حذرها: فهي تخشى وقوع الغرب ضحية “الإرهاق”، ما يعني أن عليها أن تستمر في حمل راية الدفاع عن التزام يرون أنه لا بد أن يكون أسرع وأكثر كثافة وأكثر اشتباكًا على المدى الطويل . تمكن الاتحاد الأوروبي، حتى الآن، من التكيف مع التهديد الروسي المتزايد، خصوصًا بعد 2014، وبشكل أكثر تحديدًا منذ 2022، لا سيما مع آلية العقوبات. وأخيرًا، تدرك الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مدى عدوانية روسيا وهي تنظر إليها وفق هذا الاعتبار. ومع ذلك، دافعت دول البلطيق ، منذ عام 2004، عن هذا الموقف بالتحديد، الذي يمنحها “انتصارًا حزينًا” وفق كلمات سيلين بايو.
خاتمة
تطالب روسيا فلاديمير بوتين بحق “لا جدال فيه” في دول البلطيق بسبب تفسيرها لتاريخها مع هذه الدول. وتعتبر موسكو أن مدن تالين Tallin وريغا Riga وفيلنيوس Vilnius هي جزء مما تسميه “الأجنبي القريب” من الكرملين، أي المنطقة التي يفترض أن تشعر بالحنين إلى العظمة السوفييتية، والمطلوب حمايتها من تأثير “الغرب الجَمْعِيّ”. وتتجاوز استراتيجية الضغط والنفوذ الروسية هذه المجال العسكري والاقتصادي والإنساني والإعلامي ، لتشمل كل الأقليات الناطقة بالروسية. وفي هذا السياق، فإن الأحزاب السياسية مثل حزبي الاتحاد الروسي والديمقراطي الاشتراكي “الوئام” في لاتفيا، وحزب الوسط في إستونيا، تعتبر قوى موالية لروسيا بما أنها تدافع عن الناطقين بالروسية وتدعو إلى الحفاظ على الثقافة الروسية في بلادها. لكن الأكثر إثارة للقلق من بينها هو حالة ممثليهم ، وخصوصًا حالة اللاتفية تاتيانا جدانوكا، عضو البرلمان الأوروبي. ومع ذلك، وفي سياق الحرب العدوانية الروسية في أوكرانيا، فإن روسيا التي تعتبر عند الأغلبية عدوًا لا ينبغي للمرء أن يظهر في الصورة إلى جانبه، سواء داخل دول البلطيق أو الاتحاد الأوروبي، فإن خطر بحصول تدخل روسي عبر الوسائل السياسية، داخل دول البلطيق ومن خلالها، قد انخفض في عام 2023. فالأحزاب والشخصيات السياسية في منطقة البلطيق، وعلى الرغم من اصطفافها أحيانًا خلف خطاب موسكو، وعلى الرغم من أن الأرض قد تكون مواتية لبروزهم، في لاتفيا وإستونيا في المقام الأول، إلا أنها لا تشكل آنَئِذٍ أدوات مهمة للنفوذ الروسي.
على الرغم من تورطه في حربه العسكرية والأيديولوجية ضد أوكرانيا، لا يزال الاتحاد الروسي عصيًا على التنبؤ بخطواته، مع أنه لا يخفي خطته للحفاظ على، أو حتى تعزيز، نفوذه داخل دول البلطيق. ولهذا السبب يجب أن نبقى حذرين في عام 2024.. وما يليه.
ويظل التهديد الرئيسي هو خطر حصول تصعيد في الصراع الدائر في أوكرانيا الموجودة عند أبواب الاتحاد الأوروبي. إن احتمال وقوع دول البلطيق في مثل هذا الوضع، على الرغم من وجود مضيق سوالكي، يبدو ضعيفًا بسبب عضويته في حلف شمال الأطلسي. وقد يكون من حسنات الظروف المقلقة للحرب في أوكرانيا أنها ستسمح لهذه الدول الثلاث أن تتحرر أكثر قليلاً من روسيا وأن تزيد – ولو متأخرة وفي ظل ظروف درامية – الاعتراف بها داخل الاتحاد الأوروبي. وهذا ينطبق في آن على الكيان الذي يشكلونه وعلى كل دولة منها منفردة. من كان يتخيل هذا السيناريو عندما دخلت هذه الدول حلف الناتو والاتحاد الأوروبي في عام 2004؟