كيف نفهم العقيدة العسكرية الروسية العصية على الفهم
مقالات ودراسات -
ترجمة وإعداد الدكتور سعود المولى: - 4:26 - 16/07/2024
-
عدد القراء : 229
ترجمة وإعداد الدكتور سعود المولى: زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية- قطر
–
Phénix —14 mars 2024
فينيكس هو الاسم السري لكاتب روائي ومتخصص في عالم الجيوش والمخابرات لا يكشف عن صورته أو عن هويته، وهو مؤلف كتاب: Code Némésis الذي يحكي قصة محاولة اعتداء فاشلة على جهاز المخابرات الفرنسي، ثم Hubris و L’Enlèvement de Whitney وآخر رواياته الصادرة عام 2023 هي Z وتدور أحداثها حول محاولة الروس اغتيال فلوديمير زيلينسكي في الأيام الأولى للحرب في أوكرانيا.
على مدى عقد من الزمن، ومنذ بدء عملياتها العسكرية في أوكرانيا، نفذت روسيا إستراتيجية تسميها الحرب الهجينة. كان ذلك في البداية من باب الانتهازية ومن دون أي تنسيق حقيقي. لكن هذه الديناميكية تحولت إلى أن تكون عملية إعادة هيكلة كاملة.
في عام 1903، ظهرت في روسيا مقتطفات من كتاب صغير بعنوان “بروتوكولات حكماء صهيون” أو “البرنامج اليهودي للغزو العالمي”. النص، الذي يُفترض أنه سجل الاجتماعات السرية التي قام فيها الحكماء اليهود بتفصيل خطة للهيمنة العالمية، اكتسب شهرة عالمية في عشرينيات القرن العشرين. يقتبس أدولف هتلر منه في كتاب كفاحي للتحذير من “الخطر اليهودي”. وخصصت صحيفة التايمز البريطانية اليومية المحافظة مقال افتتاحي لها في عام 1920 وتحقيقًا في عام 1921 للتنديد بزيفها. وبمجرد صدورها، أثارت الترجمة الفرنسية الحماس في أوساط اليمين المتطرف.
في الفترة نفسها، وبين عامي 1903 و1905، بدأت موجة ثانية من المذابح في روسيا أدت إلى مقتل آلاف اليهود. وفي الوقت عينه، أطلق القيصر الحرب الروسية اليابانية الكارثية (فبراير 1904 – سبتمبر 1905)، والتي كانت الهزيمة فيها واحدة من مسببات الثورة الروسية في عام 1905.
لكن تأثير النص لا يقتصر على أوروبا. “بروتوكولات حكماء صهيون” ذكرها رجل الدولة المصري جمال عبد الناصر، ويشار إليها في السعودية كمثال على “الازدواجية اليهودية”، بل وقد وردت في الميثاق الأول لحماس…
المشكلة هي أن هذا المنشور هو اختراع محض. في بعض الأحيان، ينتحل الكتاب سطرًا تلو الآخر من كتيّب فرنسي مناهض لنابليون الثالث من العام 1864، وهو من إنشاء مكتب باريس للأوخرانا، الشرطة السرية للقيصر وللإمبراطورية الروسية. وعلى الرغم من إدانتها باعتبارها خدعة منذ بداية القرن العشرين، إلا أن بروتوكولات حكماء صهيون تظل وثيقة أصلية لجميع المعادين للسامية في جميع أنحاء العالم. ويمكن اعتبارها أحد مصادر الإلهام للحرب الروسية الهجينة.
قصة عقيدة غيراسيموف في الحرب الهجينة؟
لقد كان التضليل الإعلامي والاستخباراتي قطاعًا مهمًا في جهاز المخابرات الروسي، منذ نقولا الثاني آخر قياصرة روسيا (1894-1917). وفي عهد ستالين، وخلال الحرب الباردة، كانت الميزانيات المخصصة للأعمال “الهجومية” لتشويه سمعة السكان الأوروبيين، أو تخويفهم، أو توهين معنوياتهم، أو “تكييفهم” تمثل جزءًا كبيرًا من الميزانية السوفييتية.
لكن منذ فبراير 2013 انتشر مصطلح جديد هو “الحرب الهجينة”، وهي صيغة أحدث تجمع بين الدعاية والتضليل والحرب السيبرانية والهجمات غير المتكافئة والإجراءات التقليدية، وذلك بعد نشر مقال بقلم فاليري غيراسيموفValeri Guerassimov، رئيس أركان القوات المسلحة الروسية، بعنوان “في أن قيمة العلم تكمن في الاستشراف The Value of Science is in the Foresight “.
ووفقًا له، تتطلب الممارسات العسكرية الآن نهجًا غير خطي، يعتمد على مزيج من الوسائل غير التقليدية (التضليل، والدعاية، والهجمات السيبرانية، والدبلوماسية، والعمليات التخريبية، والاغتيالات، وما إلى ذلك)، والوسائل غير المتكافئة (استخدام الوحدات الخاصة، وتدمير منشآت البنية التحتية للطاقة والاتصالات والصواريخ عالية الدقة وغيرها)، والتقليدية (الوسائل العسكرية التقليدية وغيرها)، بنسبة واحد إلى أربعة بين غير الخطية وغير التقليدية .
تتلخص فكرة فاليري غيراسيموف العامة في تقويض قدرة المجتمعات على الصمود من خلال حملات التضليل الهجومية، من أجل توسيع الانقسامات المجتمعية، وتأليب السكان المدنيين ضد حكامهم، وتعديل حرارة المواجهة السياسية في البلاد، وما إلى ذلك. ولكن ضم شبه جزيرة القرم، في فبراير ومارس 2014، في أعقاب ثورة الميدان الأوروبي Euromaïdan (نوفمبر 2013- فبراير 2014)، هو الذي رسّخ قوة “عقيدة غيراسيموف” في أذهان المحللين العسكريين الغربيين.
في غضون حوالى عشرة أيام، ومن خلال الجمع بين إنزال القوات الخاصة الروسية spetsnaz والقوات الروسية المحمولة جواً VDV في سيباستوبول، والاستيلاء على برلمان القرم من قبل “القوات الخاصة من دون شارات” («الرجال الخضر الصغار» المشهورين)، والتشويش الإلكتروني والهجمات المعلوماتية، سيطر الكرملين على شبه جزيرة القرم من دون إطلاق رصاصة واحدة أو ما يقرب من ذلك. منذ عام 2014، بدأ جميع الاستراتيجيين العسكريين الغربيين يتحدثون عن “الحرب الروسية الهجينة”. وفي الوقت نفسه كانت الأفعال الروسية تتعدد وتتمدد (التدخل في الانتخابات الأمريكية، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الانتخابات الفرنسية 2017، اغتيالات المعارضين، وغيرها). وهكذا وجد المحللون الغربيون أنفسهم عالقين في شباك لعبتهم الخاصة.
فاليري غيراسيموف، الذي عينه فلاديمير بوتين في ذلك الوقت في منصب القائد العام للجيوش الروسية والمسؤول عن إعادة النظر في الجهاز العسكري، كان يكتفي بوصف تطور البيئة العملياتية، مقتنعًا، مثل كل الروس، بأن الثورات العربية وكل الثورات ذات الألوان، هي من صنع وكالة المخابرات المركزية. وما تم تقديمه للغرب كعقيدة كان في الواقع محاولة لتنظير تصرفات العدو، سواء كانت حقيقية (العراق عام 2003) أو مفترضة (الربيع العربي، الثورات الملونة).
ومن المؤكد أن الأمثلة على الأعمال الهجومية غير الخطية كثرت خلال الخمسة عشر عامًا الماضية. وذلك قبل وقت طويل من تعيين فاليري غيراسيموف في منصبه: الهجمات الإلكترونية (إستونيا في عام 2007، وجورجيا في عام 2008، وأوكرانيا منذ عام 2014، وما إلى ذلك)، والتضليل (التدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، و”قضية ليزا” في ألمانيا ). ، وما إلى ذلك)، وعمليات التسميم (ألكسندر ليتفينينكو في عام 2006، وسيرغيي سكريبال في عام 2018، وما إلى ذلك)، والعمليات التخريبية (وضع علامة نجمة داوود في نهاية أكتوبر 2023 في باريس وضواحيها)، والتهديدات (ألمح فلاديمير بوتين عشرات المرات إلى احتمال استخدام الأسلحة النووية)، أو “تحويل الغذاء إلى سلاح” (مثال الحبوب في أوكرانيا)، أو المهاجرين (زعزعة استقرار منطقة الساحل، حوادث عام 2021 على الحدود بين بولندا وبيلاروسيا).
لكن لا شيء من هذا كله يشكل عقيدة جديدة متماسكة، أو خطة محددة تؤدي إلى النصر من خلال الاستخدام المبهر للقوة المسلحة بعد استنزاف العدو معنويًا. وعندما تعمل المخابرات والجيش معًا، فإن هذا يؤدي إلى غزو أوكرانيا، وهو مثال على الافتقار إلى التنسيق بين فيالق الجيش وأجهزة المخابرات، ويكشف عن ضعف القدرة التحليلية لدى الاستخبارات الروسية، مما يحكم على “الحرب الهجينة” بالفشل.
والحال أن جهاز المخابرات الروسي عبارة عن نظام متعدد القطاعات، غالبًا ما يكون له مصالح متضاربة، وصلاحيات متداخلة، وإدارات أو وكالات تسعى للحصول على الميزانيات والخدمات على أساس نجاح عملياتها. والنتيجة: عدد من الإجراءات والنواقل غير الخطية التي تجعل الحكومات الغربية في حالة من الدوار، ولكنها تسجل عددًا متساويًا من النجاحات والإخفاقات.
إن الحرب الهجينة أكثر من مجرد عقيدة، فهي منظومة بيئية تهدف إلى إرباك العدو وتضليله وتوهين عزيمته، والكرملين هو الذي يحدد مبادئه التوجيهية، في حين أن عملياته تُترك في أيدي وكالات مختلفة، جميعها حريصة على إظهار قوتها وفعاليتها. لذا، لا يوجد عقيدة، بل سلسلة من الجهات الفاعلة، المجزأة والانتهازية، والتي توحدها رؤية حربجية وقومجية، وهو ما يفسر تكاثر الأعمال التخريبية وضعف التنسيق بين العمليات.
بعد الإخفاقات في أوكرانيا، بدأت المخابرات الروسية ثورة جديدة. ووفقاً لتقرير نشره المعهد الملكي للخدمات المتحدة (RUSI) في فبراير ، وهو مركز أبحاث بريطاني متخصص في الدفاع والأمن ، فقد حددت المخابرات العسكرية الروسية (GRU) العديد من نقاط الضعف.
• تعرّض عملاؤها لتقنيات المراقبة الغربية، وخاصة فيما يتعلق بتحديد الموقع الجغرافي لهواتفهم المحمولة.
• قطعت رؤوس شبكاتها الأجنبية في أعقاب الطرد الجماعي للعملاء الروس، الرسميين منهم كما غير الشرعيين، في بداية الحرب في أوكرانيا.
• تزايدت صعوبة إدارة العملاء السريين عن بعد، في سياق عالمي من المراقبة الإلكترونية المعممة.
ردًا على ذلك، قام زعيمهم الجديد، أندريه أفريانوفAndreï Averianov، القائد السابق للوحدة 29155 في المخابرات العسكرية والزعيم الجديد المفترض لمجموعة فاغنر في إفريقيا، بتنفيذ الإصلاحات التالية:
• إعادة هيكلة المركز 161، أو الوحدة 29155، المسؤولة عن العمليات السرية للاستخبارات العسكرية الروسية في الخارج: هيكل تنظيمي جديد، وطريقة تجنيد جديدة، تركز على الجلود النظيفة cleanskins (الذين ليس عندهم أي ارتباط بالجهاز العسكري أو الدولة) من أجل جعلهم أكثر فعالية وغير مرئيين، والتخلي عن الهواتف المحمولة، والتدريب يتم في منازل آمنة سرية ولم يعد في مراكز مخصصة، وما إلى ذلك.
• إنشاء الوحدة 54654، ومسؤوليتها بناء هياكل الدعم التي تعمل بموجب توجيهات شخص واحد ، وتطوير الشبكات غير القانونية وجمع المعلومات الاستخبارية البشرية.
• اختراق شبكات الطلاب الأجانب الذين درسوا في روسيا، أو شبكات الجاليات الروسية المنتشرة في جميع أنحاء العالم، أو إسناد مهام معينة إلى شبكات إجرامية (جهاز الأمن الفيدرالي يخترق بقوة وفعالية المافيا الروسية) أو حتى تعبئة المجتمع الشيشاني ( كما في ديجون عام 2020)، وما إلى ذلك.
أما بالنسبة إلى جهاز الأمن الفيدرالي FSB (المخابرات الداخلية الروسية)، فإنه وفقاً لجامعة كينغز كوليدج في لندن، بالكاد تعافى من إخفاقاته، وأعاد توجيه الغالبية العظمى من موارده نحو الحرب وشرع في اعتقال واستجواب مئات الآلاف من الأوكرانيين؛ وذلك من أجل تنظيف شبكاته المخترقة، وهو ما قد يفسر سبب إسناد مهمة تجديد الهجمات ضد الغرب إلى المخابرات العسكرية الروسية.
المسار الجديد لفلاديمير بوتين
على المستوى التقليدي، يعتبر الجيش الروسي قوة متوسطة: عيوب كبيرة في جودة المعدات، والتنسيق بين الفيلق والفرق، وتحفيز الجنود، ولكن مطواعية كبيرة في القوات، وفي إنتاج المعدات، وفي مخزون الذخيرة (غير محدود تقريبًا). ودرجة عالية جداً من قبول الخسائر.
ومن ناحية أخرى، على المستوى غير الخطي، فإن القدرة الروسية على الإزعاج هي عند الحد الأقصى. بهذه الاستنتاجات تصبح إستراتيجية فلاديمير بوتين الجديدة واضحة:
• إثارة شبح الأسلحة النووية لتخويف ومنع أي هجوم وقائي على الأراضي الروسية.
• إنهاء الحرب في أوكرانيا في أسرع وقت ممكن، قبل البدء في العمل على إعادة بناء الجيش، ثم التوجه إلى مولدوفا ودول البلطيق، وهي الأهداف التالية منطقيًا.
• إطلاق العنان للدعاية، والهجمات الإلكترونية، والمعلومات المضللة، والعمليات السرية، من أجل عزل الغرب عن الجنوب العالمي، وأوروبا عن حليفتها الأمريكية، وتقسيم الرأي العام بطريقة تؤدي إلى اضطرابات مدنية وانتخاب حكومات “من أقصى اليمين”؛ وإثارة أزمة تلو الأخرى في أوروبا لإبطاء أي جهود لإعادة التسلح؛ وجعل الوضع القائم غير المقبول مقبولاً، أي قبول فترة جديدة من الهيمنة الروسية، مع أنها دولة تعاني من تدهور ديموغرافي متسارع، مع جيش ضعيف التدريب وسيئ التجهيز، واقتصاد في حالة جمود، ولكنه يستفيد من ترسانة نووية، وأجهزة استخبارات بميزانيات ضخمة، والأهم أنها تتمتع برضا خصومها الأوروبيين.
ومع ذلك، فإن الحلول واضحة على الجانب الغربي: مضاعفة ميزانيات الدفاع (مثل بولندا أو إستونيا)، وإعادة بناء الجهاز الصناعي العسكري، وتقديم القروض للشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا العسكرية، وتسريع الاستثمار في مكافحة التجسس، ونزعة إرادوية في العمليات السرية المضادة والعمليات والأنشطة غير المتكافئة. وفيما يتعلق الأمر بالحرب الهجينة أيضًا، فالمطلوب هو الكلام أقل والعمل أكثر.