الصورة واضحة.. كان العراق في مسار خلاصته الاعتماد على النفط،. الذي دخله مخيراً، فلقد كانت امامه (دولة وشعب) عدة خيارات، فاختار الاسوء. فبدل ان يستثمر موارده الريعية لتطوير القطاعات الحقيقية كالزراعة والصناعة والخدمات والبنى التحتية (مجلس الاعمار)، اختار الكسل والاموال السهلة (المرض الهولندي) فانهارت تلك القطاعات لمصلحة الدولة والمجتمع الريعيين. وبعد التطورات الاخيرة، بدأ بالدخول في نفق مسدود خلاصته عجز الثروة النفطية عن القيام باعباء المجتمع والدولة
سيخرج العراق مرغماً، عاجلاً او آجلا، من المعادلة والمسار القديم. فمع تراجع اسعار النفط تراجعت الموازنات، فاضطررنا لتقنين النفقات برشد وبدونه. وباستمرار الوضع ستكفي الموارد بالكاد لدفع الرواتب، او بعضها.. وتسديد الاساسيات والديون وخدماتها، او بعضها. وسيزداد الضغط على الانفاق العام للزيادة السكانية والحرب، الخ.. فالصورة واضحة، ولن ينفع التسويف والاجراءات الترقيعية والتمنيات المخادعة. فنحن في مفترق طرق.. فاما ان تستمر قراراتنا واولوياتنا هي ذات التي كنا نمارسها طوال نصف القرن الماضي، او ان نغير مناهجنا واولياتنا بالكامل. وما يؤسف له ان ثقافات الماضي والسياسات المترددة والمتناقضة والمصالح الضيقة اقوى بكثير من الاستعداد لتحديات المستقبل، ووضع القاطرة على سكة التغيير الجذري والشامل.
كان التصور لفترة قصيرة مضت ان اسعار النفط سترتفع مجدداً، لذلك ستكفي الاحتياطات والفائض النقديين او اللجوء للاستدانة او تقليص النفقات لمواجهة الازمة وازدياد الموارد مجدداً، كما حصل مراراً.. لكن دخول التكنولوجيا المتطوراً جداً لقطاع استخراج النفط خاصة والطاقة عموماً، غير كلياً من معطيات عرض النفط وخارطته واحتياطاته.. وما لم تظهر حقائق جديدة او تطورات مفاجئة، كالحروب او انهيار التكنولوجيات، فان عودة الاسعار للارتفاع قد يأخذ وقتاً اطول مما نتصور، وقد لا تحصل بالمستوى المطلوب، بل قد لا تحصل اطلاقاً. فمن اين سنأتي بالاموال الضرورية لسد حاجات الدولة المتزايدة اعبائها، والشعب المتزايدة اعداده وحاجياته؟
على الحكومة ومجلس النواب والشعب اتخاذ قرارات شجاعة.. فاما البقاء عند حواضن الهدر والفساد الحقيقية، اي السياسات والاولويات الحالية، والشعارات وسياسات التشدد والقيود والاجراءات المعقدة والمتطلبات المرهقة المعرقلة للمشاريع والاستثمارات.. او تغيير اللغة والمفاهيم والممارسات والاوليات جذرياً. سابقاً اعتمدنا على النفط الذي تتحكم به الدولة، ومن الان فصاعداً، يفترض -للخروج من النفق- اعتماد الدولة والنفط على المجتمع وانطلاق النشاطات الاقتصادية فيه. فاولويات السياسة الاقتصادية الراهنة يجب ان تتجه نحو عنوانين كبيرين، في ظلهما تنظم بقية العناوين والاصلاحات والمستلزمات:
ان اعاقة هذه العملية هي استمرار منظومة الفساد ومنع الاصلاحات.. فلابد من ازاحة كافة الممارسات والتشريعات والتعليمات الكثيرة والمتناقضة التي تبقي العراق في المسار الاول، وتمنع عليه الانتقال للمسار المنقذ الثاني. ففي ظل العنوانين وتطبيقاتهما تتكامل اجراءات تقليص النفقات وترشيد السياسات والرقابة واستجذاب الاموال والديون الميسرة والمنتجة.. فتتكامل سياسة المبادرة والتقدم، وسياسة الدفاع والرقابة ومنع الهدر والفساد. فالصورة واضحة، وما لم نقم بذلك اختياراً، فستفرضها الوقائع فرضاً بعد ضياع الفرص وازدياد الفوضى والعنف. بذلك نعيد للمجتمع حيويته ودوره، ليصبح هو الاساس للنشاطات الاقتصادية والخدمية، ولاحتواء العاطلين الحاليين والجدد، ولتتعاظم الجبايات وموازنات الدولة. فان تحسن سعر النفط فسيكون دخلاً اضافياً، وان استمر على وضعه، فنكون قد اتخذنا الاجراءات اللازمة قبل فوات الاوان.