بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم
في 1998 بدعوة من منتدى الاقتصاديين العراقيين في لندن، قدمت محاضرة تحت عنوان “الزراعة نفط دائم”. وحسبما اتذكر، ادار المحاضرة الدكتور سنان الشبيبي، وحضرها لفيف من كبار الاقتصاديين العراقيين منهم، مع حفظ الالقاب، المرحوم عباس النصراوي وصلاح الشيخلي وسعد عبد الرزاق وفلاح العامري وشاكر لطيف وعلي حنتوش وكامل عباس مهدي ومحمد كبة وعشرات الشخصيات المتخصصة.. وذكرت في المحاضرة ان العراق لو كان شركة لاعلن افلاسه.. كيف لا..والنفط صار رهن اتفاق “النفط مقابل الغداء”.. والزراعة والصناعة في اسوأ ظروفها.. وعدد الموظفين والمتقاعدين يقارب 1.5 مليون مواطن.. وانتاج النفط في ذلك العام2 م.ب.ي، يقتطع منه 30% لدفع تعويضات الكويت ومصاريف الامم المتحدة، ويذهب 550-600 الف برميل للاستهلاك المحلي..ومستوى دخل الفرد السنوي قد انهار ليصل 400 دولار/فرد/سنة، ونفوس البلاد يومها يدور حول 25 مليون نسمة (الاحصاءات غائبة يومها).. والديون الخارجية اكثر من 120 مليار دولار.. واحتياطات البنك المركزي معدومة وخزانة الدولة خاوية.. وقيمة الدينار انهارت حوالي 1000% مقارنة بالدولار، وبات التعامل معه بالوزن.. واجر الموظف كاستاذ الجامعة حوالي 6000 دينار، اي2-3 دولار.. وما يتسلمه المتقاعد اقل من اجرة النقل لاستلامه.. والبضائع مفقودة، والغالبية الساحقة تعتمد البطاقة التموينية.. فهل نسينا ذلك؟ رغم ذلك لم يعلن العراق افلاسه، لانه ليس بشركة بل هو دولة، والدول لا تعلن افلاسها.. ورغم ذلك عاش الناس وتجاوزوا الصعوبات. وقد يتذكر بعضهم تلك الايام بحلاوة المكافحة، والسعي لتدبر اموره.. فتوجه بعضهم للزراعة والحرفة والمهنة فنشطت شيئاً ما.. وبدأت عقول الناس تتفتق عن حلول لمشاكلهم، وابدعوا في امور كثيرة، قاوموا بها الصعوبات المادية والظروف القاسية.
فاذا لم يفلس العراق يومها، فكيف سيفلس اليوم؟ والناتج الوطني الاجمالي بتقديرات “صندوق النقد” و”البنك الدولي” لعام 2015هو 522 مليار دولار سنوياً، باسعار القدرة الشرائية (Purchase power parity (PPP محتلاً المرتبة 37 عالمياً، وللفرد 14571 دولار/سنة، محتلاً المرتبة 88 عالمياً.. وبالاسعار الجارية 240 مليار دولار بالنسبة للناتج الوطني محتلاً المرتبة 47 عالميا، و6491دولار/سنة/فرد، محتلاً المرتبة 88 عالميا.. وتجاوز عدد الموظفين والمتقاعدين 7 مليون مواطن.. واحتياطات البنك المركزي ما زالت سليمة ومرتفعة.. وما زال العراق يصدر النفط بمعدل 3-4 مليار دولار شهرياً حسب اسعار النفط، وسيتسلم حوالي 5.8 مليار دولار شهرياً بمعدلات تصديره الحالية، لو استقر السعر على 45 دولار/برميل، دون حساب كردستان.. وتوجد كتلة نقدية بيد الناس وخارج المصارف تتجاوز 30 مليار دولار.. ومثلها في المصارف.. وتعمل في البلاد مئات الشركات الاجنبية والاف الشركات العراقية.. وهناك 35-37 مليون مشترك في الهواتف الجوالة، اي بمعدل 6 هواتف لكل عائلة، كاحد المؤشرات لحقيقة مستويات المعيشة.
نعم كشف الهبوط السريع والعنيف لاسعار النفط عن هشاشة النظام الاقتصادي، الذي من نتائجه انهيار معايير التوازن الاجتماعي وعدالته، وبروز صعوبات اقتصادية كبيرة، وتشوهات بنيوية خطيرة ونقص خطير في الخدمات وفي البنى التحتية.. فالبلاد تركت نفسها تعتمد على النفط.. فعندما انهارت اسعاره، انهارت معه معادلات اساسية.. فانهارت امكانيات الاستمرار بسياسات البذخ والهدر والاموال السهلة والحصول على المداخيل دون عمل حقيقي، خصوصاً في القطاع العام،الذي معدل العمل المنتج فيه –حسب الدراسات- 17 دقيقة/يوم، مما يعني بمعايير (اجر/عمل) ان الرواتب في العراق هي من الاعلى عالمياً.. فتوجهت اليه الجموع، وهذا امر طبيعي، فالناس تتوجه للاكثر مردوداً والاقل جهداً، فتضخمت الدولة وترهلت وباتت موازناتها التشغيلية تستهلك الجزء الاعظم من موازنة الدولة، المرتهنة تماماً باسعار النفط.
يدور معدل اجر العامل غير الماهر في السوق العراقية حول 25-30 الف دينار/يوم، اي ما يعادل 20-25 دولار/يوم.. وان عملاً بمعدل 25 يوماً في الشهر سيعني مورداً مالياً بحدود 500-625 دولاراً في الشهر.. ويكفي مقارنة الامر بالعمالة الاجنبية غير الماهرة المستقدمة للعراق، والتي يتم التعاقد معها على نصف هذه المبالغ، ليدرك المرء ان الازمة ليست ازمة افلاس ورواتب، بل هي ازمة فشل النموذج الريعي للاقتصاد، وانماط العيش والعمل التي يقدمها.. والطموحات والاهداف التي يقود اليها.. والانقسامات والفساد والصراع الذي يولده.
