Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

التعددية: الاعتراف بالآخر قسرا أم الاعتراف به تأسيسا؟

التعددية: الاعتراف بالآخر قسرا أم الاعتراف به تأسيسا؟
الصفحة الاولى - عادل عبد المهدي/ لندن 2002 - 0:01 - 21/11/2021 - عدد القراء : 1578

عادل عبد المهدي/ لندن 2002
عنى التعدد تاريخيا الفرقة والانقسام، اما في الفترة المعاصرة فهو يعني التنوع والاختلاف.. سنتعامل في هذه الورقة مع المعنى الايجابي الذي تطورت عليه مفردة التعددية، والتي تقود الى الازدهار والانفتاح، دون ان يكون ثمن ذلك الصراع والانقسام والتمزق. والتعددية كما نستخدمها اليوم نقلت الينا من مفهوم «البلورزيم».. وهذه فكرة نمت في رحم فكرتين رئيسيتين هما:
اولا: المركزية في داخل التشكيلات السياسية الاجتماعية المعاصرة.
وثانيا: فكرة وحدة المجال الجغرافي الاقتصادي السياسي، الذي جعل العالم، بل الاكوان، هدفا ونشاطا ومصلحة واحدة، تتجه نحو الاستقطاب والمركزة، وتضغط لتجعل العالم حضارة وثقافة وقيما واحدة، وصولا الى مفهوم محدد يطرح اليوم باسم العولمة.
فالديمقراطية المعاصرة التي نمت في ظل الدولة الحديثة هي اولا وقبل كل شيء نظام حكم وبالتالي تحكم، وان التعدديات والحريات يصرفها ويحتويها نظام التحكم ولا يطلقها او يقوم عليها، كما ان اتصال الحضارات في المرحلة المعاصرة ليس اتصال تعارف وتبادل، بل استظل منذ البداية بالانماط الاستكبارية، والاستعلائية، والفوقية، والقسرية، والاستغلالية، والكولونيالية، التي وضعت للمرة الاولى اشكالا جديدة للعلاقات، لم تعرفها البشرية من قبل، وذلك من حيث شموليتها وسرعتها، وجذرية استئصال الآخر ماديا او قيميا، وسرعة بناء الانا او الجديد على حد سواء.
ما نود الاشارة اليه في هذه المقدمة السريعة هو ان التعددية نشأت في الممارسات الحديثة كفكرة دفاعية قبل ان تكون فكرة تأسيسية. كفكرة استكمالية وعلاجية، وليس كفكرة ابتدائية تنطلق منها البناءات والرؤى الاولى، فالتأسيس يقوم على المركزة والاستقطاب لتأتي الحماية مدافعة قدر ما يسمح به نظام التحكم بالتنوع والتعدد، لان اكبر خطأ يمكن ان نرتكبه ــ في مجال الابحاث العلمية ــ هو ان نتجاهل المسارات التي انشأت المفاهيم، فلا نفهم المفردات التي تفرزها الممارسة، بل نبدأ بدراسة المفاهيم عبر المفردات ومداليلها العامة. فندخل في عملية نفاق فكري، تشوش وتعطل قبل ان توضح وتبني، بل الاخطر من ذلك ان نبدأ بتدمير المرتكزات التي يمكن ان تقوم عليها حقيقة فكرة وممارسة التعددية، لنبني مكانها اشباه افكار واشباه ممارسات، سنكتشف لاحقا انها دفعتنا الى طريق اللاعودة في اتجاه آخر تماما. وهذا امر مهم لفهم خلفيات النشأة المعاصرة لفكرة التعددية. فهناك اليوم مركزة واستقطاب على كافة الاصعدة القيمية والاقتصادية والتكنولوجية والسياسية والاجتماعية، تقود الى علمنة الحضارات والثقافات والافكار، بل وحتى الديانات على هدي الحضارة والثقافة والفكر والديانة السائدة.
1ـ تنوع الانساق الحضارية
يجب ان نطرح على انفسنا سؤالا مركزيا وهو: هل تطور مفاهيم الاجتماع المعاصر ومفاهيم انظمة التحكم والاجتماع والدولة والكولونيالية والامبرياليزم والاقتصاد والسيطرة على العالم، نقول هل نأخذ هذه الممارسات كحقائق قدرية او نهائية كان يجب للانسانية ان تمر بها، ام هناك مسيرة ــ بل بالضرورة مسارات اخرى ــ قد تكون اقل سرعة او ثورية في انجازاتها، لكنها اكثر توازنا في ادائها، واكثر عدلا في مردوداتها، واكثر رسوخا ودواما في عطائها؟
ودون ان نزج انفسنا في نقاش مفصل حول هذه الموضوعة الرئيسية ــ التي يمنعنا من نقاشها بشكل صحيح الاسلوب الكاسح للحضارة السائدة ــ نجيب بان نظرة موضوعية لتاريخ الحضارات يشير الى ان مسيرة الانسانية لم تكن مسيرة قدرية او حتمية، باي شكل من الاشكال، وهي بالتالي اليوم ليست مسيرة قدرية او حتمية بل تحتمل تحولات جذرية ونوعية في طبيعتها. فالبلاد الاسلامية مثلا كانت تقف في مطلع القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلادي امام تراكمات تنظيمية واقتصادية وعلمية، توفر من الناحية الموضوعية كل الشروط التي احتاجتها اوروبا لبناء تجربتها الليبرالية والرأسمالية والكولونيالية، والتي سمحت لاحقا بهذه النهضة الهائلة، التي تحققت لها على حساب تدمير حضارات ومسارات الامم الاخرى. ما كان يمنع من تطور البلاد الاسلامية ــ ونعتقد امما وحضارات اخرى ــ الى تجربة شبيهة بالتجربة الليبرالية الغربية المعاصرة هو عامل الضبط والكبح الداخلي الذي يوفره العامل الديني في التجربة الاسلامية.(1)
وهذه فضيلة يجب الحفاظ عليها والاعتراف بها، رغم ان ثمنها التاريخي اذا ما نظر اليها من زاوية اخرى كان كبيرا وخطيرا. انها فضيلة تسير في نفس البناءات التي منعت تقوى علي من ان تنتصر على سياسات وحيل معاوية يومذاك، ولم تكشفها وتنتصر عليها ــ في حسابات الواقع ــ الا بعد وقت، او حتى قرون من ذلك. فالاستثناء الذي انفردت به التجربة الغربية في مساراتها التاريخية المعاصرة عما غيرها هو كسر كل الحواجز والضوابط الداخلية لتحقيق منافعها المباشرة والملموسة، وهو ما سمح لها بان توفر لنفسها منظومات فكر وسلوك يوفر لنفسه الكفاءة والسرعة والثورية في تحقيق المنجزات الكبيرة التي تمنح قدرات التفوق، حتى ولو كانت على حساب الغير من شعوب اخرى او اجيال قادمة. وان رؤية هذه المسألة والاتفاق عليها هو امر مهم في مواقفنا الحالية، اذ سنتوقف عن رؤية الانجازات التنظيمية والعلمية الغربية بعين واحدة بل سنراها بعينين. سنتوقف ان نعتبر ان مهمتنا اللحاق بمنجزات الرأسمالية والكولونيالية، بل سنعتبر ان مهمتنا تجاوزهما، باستثمار الطاقات الهائلة التي قامتا بتفجيرها، مع اعادة ادخال انظمة السيطرة والكبح والضبط الداخلي، لكي لا نحارب الجبرية في نطاق العقيدة لندخل في جبرية المنفعة الحسية والحياتية فقط. امام الجبرية الاخيرة ينعدم المعنى الحقيقي للتعددية، ويصبح اختلاف الالوان هو ليس اختلاف المناهج والمدارس والخيارات، بل اختلاف النهج السائد عن بعض بقايا الماضي السائرة الى زوال، او اختلاف النهج السائد عن مظاهر فوضاه وبذور تطوراته المستقبلية.
2ـ الحضارة الغربية تنتمي الى منظومة الفلسفات المغلقة
تنتمي الحضارة العالمية السائدة اليوم (وهي الحضارة الغربية) الى منظومة الديانات او الفلسفات المغلقة وليس المنفتحة، وذلك خلافا لما يعتقده الكثيرون. صحيح هناك انفتاح كبير وحريات واسعة داخل بنى هذه المنظومة، لكنه بالمقابل هناك تعصب وانغلاق كبير في امور كثيرة، وبالاخص بكل ما يتعلق بالمنظومة في خارجها. فهذه فلسفات وديانات، وما تؤسسه من بنى او ردود فعل في خارجها تدور تأسيساتها حول الـ «انا» او العنصر او العرق او اللون، وغير ذلك من تأسيسات. فالانسان هو ليس كل البشر، بل هو انسان ينتمي الى طبقة معينة، او قوم معينين، او دين خاص، او قارة خاصة، او عرق خاص، او قيم خاصة. فهو الرجل الابيض دون غيره. انه شعب الله المختار لدى اليهود.. و«الانتكريست» او ما صار يترجم بالاصوليين لدى المسيحيين.. و«الجبريون او الغلاة» لدى المسلمين.. ان تفجير طالبان تماثيل بوذا تحركها نفس العوامل التي تقود الاسرائيليين لتفجير بيوت الفلسطينيين، او ابادة الاوروبيين لشعوب وحضارات امريكا الشمالية. كل هذه الافعال تصنعها ديناميكيات الحضارة والفلسفة العالمية وما تبنيه في مراكزها او في مرافقها ومجالاتها التي اصبحت العالم كله من بنى وردود فعل.. فالاعتقاد الديني يغلق الباب على الاعتقاد اللاديني، والعكس صحيح.. ففي التحليل النهائي فان الدول والمنظومات الرئيسية، من قيم وبنى رسمية، والتي قامت في الشرق مثلا بعد دخول الكولونيالية، لا تحمل اساسا شحنتها الرئيسية من الشرق ذاته وتجربته التاريخية وقيمه واشكال تنظيمه، او من الاسلام، او معتقدات وفلسفات اخرى، بل تحمل في جزء كبير منها مصادر فاعليتها من انماط التعليل والتسبيب والفعل التي انشأتها الحضارة الحديثة، بما لها وما عليها، فمعتقدات ومذاهب وافكار وحضارات الآخر محكوم عليها بالموت ولا تستطيع الحياة الا بمدى قدرتها على الدفاع والمقاومة والموت من اجل افكارها. فالصراع والموت من اجل الحياة هو القاعدة، وليس التكاثر والعمران والنماء والتواصل للبقاء والتجدد والانتشار. هنا تفقد الحياة فطريتها وتبدو وكأن مهمة الانسان على الارض تتلخص ابتداء بقتل اخيه الانسان،(2) ليصبح القتل او النفي والالغاء، هو المنهج والتأسيس، وليس العلاج او الدفاع، والوقوف بوجه الانحراف عن الفطرة وقوانين الحياة.. فالتعدد والتنوع والاختلاف ــ لدى هؤلاء ــ هو ليس فلسفة او عقيدة او من حكمة الخلق وآياته، بل هو تصارع قوى في لحظة توازنها.. وهذا امر قلق في الفكرة والواقع. مما يجعل الصراع هو القاعدة. اما اللقاء والتعايش فهو الاستثناء، الذي لن يمثل سوى فترات هدنة بين حربين، فهو لا يرتب لها ــ قيميا وعمليا ــ مكانا للنمو واعادة تجديد الهوية والذات، لتحيا وتموت بما تحمله من زخم ومقومات حياة وعوامل موت وفناء، فعوامل الاحياء والافناء عوامل طبيعية قسرية ليس الا.
أ ــ عندما يصبح الهدف المركزي للحضارة السائدة هو ايجاد الجنة ونعمها ولذائذها على الارض، فلا طريق آخر سوى نزول جهنم على الارض ايضا.. عندما يصبح الانتماء الى جغرافيا معينة او قوم معينين هو المنهج او السراط الذي يسمح للبعض في دخول جنة الارض، فلا طريق آخر سوى ان تتولد مناهج او سراطات اخرى لن تجد امامها من مجال سوى ان تشعل نيران جهنم على الارض ايضا. فهذا من ذاك، ولا يمكن رؤية الاول دون الثاني او العكس. لذلك نقول بان البناءات الاولى للحضارة الحديثة لا تحمل في منطلقاتها وتأسيساتها فكرة التعددية، بل تشكل فكرة الانوية، والنفي، وإلغاء الآخر حلقاتها ودوائرها الاولى، وهو ما منحها قوة التحرك وزخمه، الذي سمح لها باختراق الآخرين، وتوسيع دوائر وقواعد المكاسب التي تحققها لنفسها على حساب غيرها. وهذا كله يحملها المسؤولية الاساسية لما يجري في العالم. فاذا كانت المكاسب جزءا من انجازاتها ورصيدها، رغم مساهمة الآخرين بها، فاننا لا يمكننا الا ان نحملها اعمال الاستبداد والجنون والغلو والتعصب، رغم مسؤولية الآخرين فيها ايضا. فالنقاش لا يجري عن المسؤولية القانونية، بل يجري عن المسؤولية الموضوعية التي صنعت خيارات ومسارات الجميع في هذه الحقبة من التاريخ. وهذا كله يتطلب جهدا في عمق المسائل وما يصنع حقائقها الموضوعية، وليس البقاء عند الاشكال وحقائق السطح فقط. فعندما تصل البشرية اليوم الى حقائق تهدد وجودها بالمطلق، بسبب التطور المنفلت الذي صرنا عليه، فان النقاش الذي لا يربط المسائل الجزئية بالحقائق الكلية سيصبح كالنقاش الذي يدور على ظهر مركب افقدته الرياح الهوجاء اية قدرة للسيطرة عليه.
ب ــ الديمقراطية كما تمارس اليوم هي نظام تحكم، يسعى لتصريف التعددية لا لتأسيسها، لتقنينها وضبطها لا لانفلاتها. فاذا كان الاستبداد والدكتاتورية هي نظام النمط الواحد فان الديمقراطية كما تطورت عليه في الانظمة المتقدمة هي اساسا نظام الاثنينية داخل المركب الواحد. فهي في النهاية تقنين الحياة السياسية والاجتماعية لكي يتسنى للنخبة الحاكمة او للطبقة السائدة احتواء ما عداها، وتصريف شؤون المجتمع في اتجاه قيمها ومصالحها وسياساتها. بالتأكيد ستحمي الديمقراطية حرية الرأي والتعبير لشرائح اجتماعية او لجماعات معينة. وستضمن حرية الاحزاب والتيارات وتداول السلطة وغيرها. وسيسمح ذلك في ازدهار الحياة وحماية تياراتها المختلفة. ولكن بحدود سقف التأسيس الصلب في بناه ومكوناته والذي هو ليس حصيلة الالوان، بل هو الساعي لتلوين الآخرين في داخل الكيان وفي خارجه ايضا بلونه وصبغته. فالديمقراطية هي نظام تحكم اي نظام دولة. والدولة بمفهومها المعاصر ان لم تكن هي المؤسسة للا «اجتماع» او «الاجتماعات» فانها تسعى لوضع اليد عليه او عليها. فهي ليست حصيلة ونتيجة بل هي بداية تأسيس «المجتمع»(3) كمفهوم يقنن الاجتماع او الاجتماعات، ويضمن عملية السيطرة عليها من «فوق» بتنشيف مصادر ولادتها وحياتها، وتولد عناصر تجديدها. فـ «الاجتماع» او «الاجتماعات» تحمل الكثير من عوامل الطبيعة والولادة او التطور التلقائي، وتسعى لان تتناغم عوامل الفطرية ــ بمفهومها القرآني ــ مع عامل التنظيم الحياتي، بينما تحمل فكرة «المجتمع» ــ كمفهوم معاصر ــ الكثير من عوامل الغرس والثتقيف (culture) والقولبة والتدخل لنشر وتقنين رؤى ومصالح خاصة، ونقلها من مساحات محدودة الى المساحة الاجتماعية للكل. وفي مجمل هذه العملية تلعب الدولة (او المؤسسة، او العصبية، او النخبة، او الحزب) دورا مركزيا. فالدولة لها ثقافتها ومنطقها ومصالحها وسياساتها. وهي ستشعر ان مهمتها هي نشر هذه الامور، عبر السياسة، والاقتصاد، والمدرسة، والاعلام، والثقافة، والجيش، وغير ذلك من وسائل منظورة وغير منظورة. فمهمتها الاولى والانشائية هي صهر المناهج او السراطات وليس تعددها، رغم ان الدولة الحكيمة العاقلة ستدرك بالوعي او بالفطرة بان الوئام الاجتماعي للاغلبية، وبالتالي القبول العام للدولة لن يتحقق ان لم تحترم التعدديات «المقهورة» والتي ستصوغها بمفهوم الاقلية. فمفهوم الاقلية احتقار صريح او مضمر للفكرة، وتغليب لقانون القوة والعدد، وجعله البديل لقوانين النوع في العلاقات الانسانية، سواء داخل الاطار الواحد او بين الحضارات والكيانات. لذلك قلنا ونقول بان التعددية في الاشكال السياسية والاجتماعية التي تطورت عليها مثل هذه الممارسات الكاسحة اليوم هي ليست افكارا تأسيسية بل هي افكار ثانوية وملحقة تكشف طبيعة البناءات الاعتقادية او الفلسفية.
ج ــ وعليه لا تأتي الديمقراطية كقيمة مطلقة، وان القبول بها لا يعني سوى انها افضل الخيارات في ظل التطورات التي حصلت في مفاهيم الدولة والاجتماع، وبعد ان اعيد تنظيم العالم والمجتمعات البشرية وفق اسس اختلفت كثيرا عن الاسس التي كانت تسمح ببناء اجتماعات، وبالتالي تعدديات تستطيع ان تعيش متجاورة او متواصلة لتكتسب مقومات عيشها ونموها ليس من عمليات توازنات القوى (كاغلبيات واقليات في لعبة الصهر والصراع) بل من المقومات الذاتية التي يحملها كل مركب اجتماعي وقدرته الذاتية اولا وقبل كل شيء. فعندما يكون للاجتماع مساحاته المستقلة، وعندما يؤسس البناء العقيدي والكياني والتشريعي واحيانا الجغرافي على قدسية وجود الآخر وحقه، وامتلاك مقومات نمائه بعوامل يحملها في داخله ويستطيع تجديدها بقدراته، فان نمو هذا المركب وبقاءه سيختلف عن تلك الحالة التي تصبح فيها المركبات الاجتماعية منصهرة في كيان مركزي مهيكل لا تمتلك من مقومات البقاء سوى لعبة توازن القوى، ولعبة الدفاع امام قوى الافناء والسحق. لقد اختلفت قواعد العملية بالكامل ــ او ما يسمونه باصول اللعبة ــ عندما تغيرت الكيانات الحاوية للمركبات الاجتماعية. فنظام التحكم الذي تقوم عليه امتلكت زخما وقوة لم تعد الاجتماعات الاخرى القائمة على الكثير من التقوى والتحفظ والاعتماد اساسا على قدراتها وقواها وليس على قدرة وامكانيات غيرها، بقادرة في الحفاظ على ذاتها ناهيك عن التجاوز؛ لذلك تعثرت ــ بل وفشلت ــ كل المحاولات لتجاوز التجربة الديمقراطية كارقى وسيلة في ظل الظروف الراهنة لحكم البلاد والعباد. فالمسألة ليست فوقية فقط بل هي اساسا تكوينية وتدور في رحم حيز يجب ان نعرف جيدا طبيعة هيكليته وحقيقة الدوافع والمحركات التي تدير دواليبه. ولعل سبب بقاء التجربة البريطانية كارقى تجربة ديمقراطية هو لانها الاكثر قدما وعراقة. فهي ما زالت تحمل بذور التأسيسات الاولى حيث كان تأثير «الاجتماعات» ما زال قويا ولم يكن «المجتمع» قد صهر الآخرين في لعبة الاقلية والاغلبية بشكل كامل ونهائي بعد؛ لذلك تستطيع اليوم في بريطانيا ان تؤسس وزارة وحكومة وبرلماناً وتقيم سلسلة من المؤسسات الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية في ظل الدولة الرسمية، وفي اطار احترام قوانينها، دون ان تتهم بانك تسعى لان تقيم دولة داخل الدولة.
د ــ لا تستطيع التجارب الاسلامية في عالمنا المعاصر العودة الى حكم البلاد والعباد، اذا لم تؤسس على ممارسات تتقدم من حيث القيم العليا في اعلاء قيمة الانسان، ودور الامة في تحديد خياراتها الحياتية، على ممارسات البلدان الاخرى. لقد دمرت مقومات تنظيم الجماعات القديمة ودخلنا ــ او ادخلنا بوعي او جهل منا ــ في اطار تنظيمات جديدة لها بناءاتها ومقوماتها، وان لا سبيل امامنا لتصحيح المسارات الا بتجاوز التجربة. لا البكاء على الماضي ينفع، ولا الخضوع للحاضر سينقذنا وينقذ البشرية معنا. فكما دمرت انظمة التحكم الحالية اشياء عزيزة، الا انها ساهمت ببناء اشياء قد تساهم ببعث مقومات اعادة الاجتماعات لحيويتها. وان الانطلاق من الديمقراطية لتجاوزها قد يكون الطريق الذي نسير عليه، ليس فقط لتصحيح المسارات، بل الارتقاء بالحركة بما يمكن به تجاوز الماضي والحاضر في آن واحد. وان هذا قد اصبح ممكنا بعد التحولات الخطيرة التي اجرتها التجربة الغربية في العالم كله، والتي تسمح بعد قرون طويلة من التحكم بتفكك النظام من خلال الرد المضاد لأدواته ذاتها، وكذلك من خلال الوعي المتزايد المتولد لدى مختلف الامم والشعوب، مما قد يسمح بادخال عناصر قوة اضافية للبنى المحلية لم تكن ممكنة من قبل. وهذا ممكن تماما لحملة العقيدة والفكرة الاسلامية، المزودين تماما من حيث الاساس بكل المقومات للمساهمة بهذه المهمة. فالفكر الاسلامي فكر انساني بطبيعته، وهو فكر منفتح على الحقائق وعلى الآخرين، وليس فكرا صنميا يحبسه عرق او جغرافيا او هيكلية مقدسة. اما في المجال الاجتماعي فان الرؤية الاسلامية منفتحة تماما على الآخر، وتعطيه مكانا يحميه المقدس والشرع، وليس توازنات القوى، او الرغبات الذاتية. فهي تحمل في بذورها التأسيسية فكرة الاجتماعات اكثر مما تحمل فكرة المجتمع المركزي الواحد، ليس بالمعنى التفكيكي والانعزالي، بل بالمعنى البنائي والعماري للكيان الاجتماعي في حركيته الداخلية، وفي علاقات مركباته بعضها بالبعض الآخر. وليس عبثا ان يندفع تفكيرنا الى الدائرة (او القِبة) عندما نفكر بالبناءات التي افرزتها القيم والتجارب العملية الاسلامية لنفكر بالهرم (او بالمستقيم وتقاطع المستقيمات ــ الصليب) عندما نفكر بالبناءات التي افرزتها القيم الغربية. فالدائرة التي لا اضلاع لها تستطيع ان تضم سلسلة غير متناهية من الاشكال المضلعة، اما العكس فغير ممكن. فالدائرة رمز الوحدة يمكن ان تقوم داخلها مستقيمات كثيرة، لكننا لا نستطيع داخل المستقيم، رمز الاحادية ان نقيم دوائر متعددة. فالهرم او المستطيل لا يستطيع ان يضم الدوائر او الاشكال غير المضلعة دون ان يترك مساحات شاغرة. انه لا يستطيع الا ان يضم اشكالا من طبيعته وبناءاته. ليس بدون مداليل ان تصل الدعوة اليومية عبر الناقوس (الحبل، الحديد بمعنى البأس من جهة، والاكثر قدرة على الابتعاد من جهة اخرى، الآلة، التجريدية التي تخفي ليس فقط من يمسك بالحبل، بل التي تخفي من ينادي، ومن ينادى، ولمن ينادى)، وبين ان تصل الدعوة عبر الاذان (اي الكلمة، الانسان، شفافية الحضور ورمزية المشهد (الشهادة) بين المنادي، ومن ينادى، ولمن ينادى). الاول يحتوي بالطبع على الكثير من مظاهر القوة والبأس والسعي لتجريد الواقع واخفائه، في حين سيحمل الثاني قدرات الانسان او الناس الحقيقية وتمايزاتهم فيما بينهم، وسيحمل ايضا رمزية لا تلغي المباشرية والشفافية، ولا تسمح بالكثير من التدليس والتخفي. من هنا نقول بان اعادة فكرة الاجتماع، واحياء مفهوم البيعة والعقد، وحق الامة ورفعة مقام الانسان، ونزع الالوهية او العصمة الصريحة او المضمرة عن الحاكم دون الانبياء والائمة، ستجعلنا ندخل موضوعة الديمقراطية ونحن على حصانة عظيمة فيما يخص المفاهيم التي نحملها والممارسات التي نستطيع اقامتها، وعلى معرفة كاملة بحدود وابعاد هذه الممارسة (الديمقراطية) التي اصبحت جزءا من علم الاجتماع والسياسة، بعد ان تطورت الحياة والمجتمعات الى ما تطورت عليه.
بكلمات اخرى لا يوجد ما يمنع النظام الاسلامي من تبني الاسلوب الديمقراطي او الشوروي، كما تطور اليه عالميا، وفي مفاهيمه واساليبه المقبولة في ادارة الحكم، واعتماده كعلاقة بين الحكومة والشعب تضمن عبره حقوق الناس كل الناس، وتمارس ضمنه واجبات الناس كل الناس.
اننا يجب ان نعمل على تطوير فهمنا للممارسة الديمقراطية. ليس عدم حجز الطريق امامها فقط، بل على العكس توسيع مساحاتها، ورفع الحواجز الطبقية والاجتماعية او السياسية والقيمية، لتتمكن التجربة الاسلامية من استثمار كل التجارب المتقدمة، وهو الذي سمح لها ويسمح لها بالتجديد والتقدم ومواكبة حقائق الحياة، ضمن نظرة اصولية تسمح لثوابت الخلق في احتواء متغيرات الحياة. نظرة واعادة بناء وتركيبات تسمح للحياة لان تعود الى طبيعتها الدائرية التوحيدية التي تتعدد داخلها الصور والاشكال والاجتماعات. ملايين الالوان التي لا تخل بعمل الحزمة. يقابل ذلك جهد يسعى لسيطرة النوع الواحد، والفكرة الواحدة، في اطار هرمية المجتمع التي يشدها حبل الدولة وقوتها وبأسها واساليبها المباشرة والتجريدية لنشر نفوذها ودعواتها، والتي تقنن حدود الاقليات والاغلبيات، او حدود الرأي والرأي المضاد، او حدود «التعدديات» بضوابط فوقية آنية او جزئية فقط.
هـ ــ ان عملية احتواء فكرة او ممارسة جزئية او ناقصة ــ او حتى منحرفة ــ صنعتها حقائق الحياة، والتي برهنت الايام انها تمتلك طاقة او زخما او اسلوبا جديدا هو ليس بالامر الغريب على الفكر والممارسة الإسلاميين. يمكننا الكلام مفصلا عن تعايش غير منافق بين المسلمين وغير المسلمين كشكل من اشكال التعددية داخل الدائرة، والتي مقوماتها ليست توازنات القوى، بل قوامها ثوابت الخلق الذي لم يشأ للعالم احادية الابتلاءات والمسارات والمناهج، بل سنبقى في مجال الافكار. فلقد سبق وانقسمت الامة حول الفلسفة، فرآها البعض تهافتا سيحط من شأن الدين، بينما مجد آخرون الفلسفة ذات الاصول اليونانية او غيرها، ليعيدوا صقلها في المدرسة الاشراقية او العرفانية، او كما ستظهر في ارقى صورها بالحكمة المتعالية. هذا الاتجاه كان سيشوش او يدخل الاضطراب للدين لو لم يمتلك الاخير اصلا كامل مقومات هذا العلم واكثر وأوسع منه، فبدل ان تحتوي الفلسفة الدين احتوى الاخير الفلسفة، فلم يقف عندها بل تجاوزها، فكأن مجيء الفلسفة قد حرك ما لدى المسلمين اصلا وأزال من عقولهم شوائب وشبهات ساعدتهم لاحقا في امتلاك ناصية معارف جديدة وادوات رؤية اعانتهم اكثر فاكثر في شؤون دينهم ودنياهم. وهي التطورات التي لو سمح لها بالانتشار في المؤسسة الاسلامية بكافة مذاهبها لانفتح المسلمون منذ ذاك على تطور المفاهيم العلمية والتنظيمية الجديدة، ولاستمروا في التفاعل مع عناصر الحياة الاخرى. وهو ما كان سيسمح لهم بتجديد عملية التطور والاكتشاف والتجديد، بما يبقيهم احدى ابرز القوى المبادرة والكبرى في تاريخ الانسانية. خلاف ذلك فان المقاومة الشديدة التي ابدتها المؤسسة الاسلامية بمدرستيها الاخبارية الشيعية والاشعرية السنية قد ساهم في غلق ابواب استثمار عناصر القوة في عقيدتهم ودينهم. فاخافتهم التطورات ولم يجدوا امامهم من وسيلة سوى اعلان رسمي او فعلي لغلق باب الاجتهاد. وهذه هي احدى العوامل الرئيسية التي جعلت المسلمين يواجهون التطورات الجديدة بالانكفاء ومواقف الرفض، كأنهم فضلوا الخروج من الحياة والتاريخ، وترك الامر لغيرهم ليس الا.
3ـ المدرسة والتعددية
تطور التعليم في ظل التجربة الاسلامية الى مؤسسة حرة قطبها الرئيس هو “العالِم” وهدفها الاهم هو البحث والتأليف، ورحابها او وعاؤها الذي تعيش فيه والذي تستقي منه روحها وجمهورها ومالياتها هو المسجد، او المؤسسات الوقفية، او المبادرات الفردية المحسنة، بكل ما يحمله ذلك من معاني اجتماعية ودينية، دنيوية واخروية في آن واحد. فهي ليست مؤسسة منفصلة عن الناس، بل مؤسسة تعيش حياة الناس بكل انفتاحاتها، وحياة المسجد، او المراكز الوقفية والمملوكة بكل ضوابطها وتقاليدها.
وبدون ان نسقط في التعميم، ولكن في اطار عموميات التجربة، لم يكن هناك حاجز بين العلوم الدينية او غير الدينية، بل على العكس كان هناك تكامل، جعل الاول ضرورة للثاني، والعكس صحيح. وهذا ما ميز العلوم الاسلامية بالنهج الموسوعي والقواعد العلمية، والتي سمحت للمسلمين ان يتقدموا حينذاك قرونا عديدة على غيرهم من امم وحضارات، ليس في علوم الكلام والمنطق فقط، بل في العلوم التطبيقية والطبيعية ايضا.
من هنا لم تتطور المدرسة الى مؤسسة تعليمية فقط، بل تطورت الى مدارس فكرية عديدة، والى تيارات واجتهادات تشير الى حركية متكاملة في حياة الامة، بكل ما فيها من سلبيات وايجابيات. فصارت تيارات الاجتماع والوانه المتعددة تعرف باسم المدارس الكثيرة والمثناترة التي تعيشها الامة. وهو ما جعلها احدى القوى الرئيسية، ليس فقط لتأسيس الاجتماع او الاجتماعات، بل ايضا لتجديدها، وتوفير متطلبات النظر والتنظيم والتقنين الاجتماعي والحكومي والقضائي على حد سواء، فهي كانت بالتعريف الاول مؤسسة الامة قبل ان تكون مؤسسة السلطان. لم تستطع مؤسسة السلطان حتى في الفترة الاموية والعباسية من اختراق هذا النهج بشكل كامل.لم ينتصر انموذج انتقال التعليم من مسؤولية الامة الى مسؤولية السلطان، الا في نهايات القرن الخامس الهجري، او نهايات القرن الحادي عشر الميلادي(4). وان سقوط المدرسة بيد السلطان، او ابتعاد المدرسة عن دورها الاجتماعي التجديدي، اضافة الى دخول المدرسة الحديثة التي هي مدرسة النخبة والخارج واكتساحها ساحة التعليم، اي ساحة بث القيم والمفاهيم، وتجديد البنية النمطية والعقلية والفكرية للامة، قد ساهم كله في احداث تحول جذري في دور المدرسة، وبالتالي في وعي الامة واشكال انتظامها. فانتقل دورها من الريادة، والتجديد، والتحري، والاكتشاف، وتجديد الذات، بحركة لولبية متصاعدة، الى دور التلقين في حركة ضعيفة الابداع، والانتاج، والفاعلية. فعندما يسلب روح الاجتماع، وتضعف ثقة الناس بنفسها، وعندما تؤسر الامة وتستعمر وتستضعف، وتصبح مهمتها المنظورة وغير المنظورة خدمة خارجها، فان ما تحتاجه ــ كمسار رئيسي وعام ــ من علوم ومعارف دينية، او وضعية، لن تتعدى عملية خدمة انماط العلاقات البسيطة، المتشرذمة الاحادية، المتخلفة داخليا، والدونية خارجيا. فعندما تتوقف الامة عن التعرف على مصادر وحيها والهامها، وبالتالي صناعة افكارها، وتفقد امكانيات وآليات تجديدها، فان فكرا آخر سيخترقها، ويحطم بالتدريج كافة بناها. وعندما تتوقف الامة عن صناعة العلم فان صناعة العلماء ستضعف ايضا. وعندما تتوقف الامة عن قدرة انتاج العلماء فان العلم ــ كل علم بما في ذلك العلوم الدينية ــ سيتراجع عن حياة الامة وسنكون مضطرين لاستيراد علومنا، كما نستورد غذاءنا، او سياراتنا، او ملابسنا. حينذاك لن ننقسم الى مدارس، بل سننقسم الى شيع واحزاب. ازدياد عددها بدون تلك المقومات الحيوية لولادتها لا يعني التعبير عن المناهج او المسارات الكادحة لصنع الحياة والعمران، بل يعني تناثر الحطام وتبعثر الحجار. وهو ما يقود لضفاف بدون جسور، ولآراء تجمعها الفتنة قبل ان توحدها اللحمة والاجتماع، ولود تفسده ابسط الخلافات. وسنعجز جميعا عن تعريف سقف المشتركات والمتحدات، لنتحرك جميعا من مواقع التمايز، والصراع، والخلاف، والفتنة. فالحياة الاجتماعية بشكلها الجديد، خصوصا في موقعنا المتدني المتلقي المتخلف، الذي يراد لنا ان نعيشه لن تطالب بعلماء يلبون حاجياتها الراقية. كما ان نوع العلماء الراقي والمتقدم لن يجد امامه حياة اجتماعية متقدمة، تلهمه وتطور من معارفه بكل ابعادها.
ستؤسس المدرسة والتعليم المركزي الثقافة «الوطنية» الاحادية عموما في مناهجها ولغاتها. فالهدف ليس نشر العلم او العلوم، بل الهدف هو انتاج مواطن يقرأ ويكتب ــ في احسن الاحوال ــ او يجيد بعض المهارات، لكي يؤدي دوره في موقع ما من نظام التخلف الذي يعيشه، فنحن امام مجتمع قنن من قمته، او من خارجه، او في الحقيقة من الاثنين معا. مجتمع مأسور يخدم غيره، ولا يستطيع الاستمرار على العيش، وتلقي ذلك القدر الذي يساعده على البقاء، او الحياة، ان لم يلبّ متطلبات هذه العملية. وهذا كله يتطلب نظرة جديدة لاستنهاض الحياة الاجتماعية بكامل ابعادها، لتتحمل مسؤوليتها، كما تتطلب رؤية جريئة في تقويم عمل حوزاتنا وجامعاتنا. وهذه كلها امور خارج بحثنا.
4ـ الأنماط المعاصرة تستأصل التعددية من جذورها
في الاقتصاد كما في التطورات السياسية الاجتماعية نشهد باستمرار تلك الحركة المتضادة، التي تولد في آن واحد ظاهرتين، اذ تنحو الاولى الى الاستقطاب والتمركز، والاتجاه بقوة الى وحدة الشكل والمضمون «اليونوفورميزم».. بينما تتجه الثانية الى التشطر، وانقسام الواحد الى اثنين. وكظاهرة عالمية، اخترقت كل الظواهر المحلية، هناك باستمرار انتقال من الاقتصاد الاجتماعي الى اقتصاد الدولة وما فوق الدولة.. من اقتصاديات متجاورة تتعايش فيما بينها الى الـ «اقتصاد الواحد» الذي يسعى لفرض نفسه على الكل.
أ ــ فالاقتصاد لم يعد اقتصادا اجتماعيا، بل هو اقتصاد سياسي، او سياسة اقتصادية، فهو اقتصاد الدولة. والسوق المحلية، بل السوق العالمية، تتجه نحو المركزة والتوحد. واعمال اندماج الشركات، وتمركز رؤوس الاموال، تعبر الحدود لتولد الشركات المتعددة الجنسيات، او العابرة للقارات. كذلك التصنيع وانماط التصنيع، التي لا تقف في تقديم بضائع جديدة موحدة في شكلها ومضمونها، ولا تختلف الا في «اسمها» التجاري وجهة صنعها. فتحقيق الربح كهدف مشترك ووحيد هو قانون نمطي يسحق الآخر، ولا يولد الا صراعا ومنافسة. انه يوحد الاستهلاك والمستهلكين، وانماط العيش والتفكير.
ب ــ على صعيد رؤوس الاموال، هناك حركة متزايدة للتمركز والاستقطاب، واندماج الشركات الكبرى، بحيث بات الانتاج فيما يسمى بالصناعات الرائدة، كصناعة الالكترونيات، والسيارات، والطائرات، والفضاء، والاسلحة، والادوية، وغيرها. ويزداد ايضا اندماج البيوتات المصرفية، وشركات التأمين والمحاسبة العالمية. وتمسك البورصات الرئيسية في نيويورك، واوروبا، وآسيا، بالقوة الاقتصادية العالمية. وتمسك هذه البورصات بورصة «وول ستريت» في نيويورك، وتمسك الاخيرة حفنة من رجال الاعمال الذين يضعون يدهم حقيقة على الاقتصاد العالمي. وفي اطار اعمال الاندماج الهائلة التي تحصل بشكل يزداد تسارعا، هناك حركة شبه يومية للدغم والاقتباس والتماهي، التي تسير كلها باتجاه الشكل الواحد، والقيم الواحدة، والسلوك الواحد، والهدفية الواحدة، بل تذوب المظاهر، الفروقات، حتى الحضارية والتقليدية، امام المظهر الواحد، وتتولد اخلاقيات، وهدفيات، وقيم متطابقة. لن تجد فرقا كبيرا اذا دخلت شركة كبرى في اليابان، او الصين، او امريكا، او اوروبا، او غيرها من شركات. لن تجد اختلافاً كبيرا في السلوكيات والاداءات، بل ولا حتى في العمارة، والاجواء، واساليب الحماية، وصولا الى الملابس، واللغة، والصالات، والسكرتيرات، ذلك الا فيما ندر وشذ. فمنهج النمطية هو الذي يكتسح منهج التعددية.. وسياسة الاحتواء والاخضاع هي التي تهيمن على كل ما عداها.
ج ــ استقطاب الانماط الاستهلاكية والسلوك الاستهلاكي: تدمر المعارض، ومحلات البيع، والاسواق الكبيرة الاشكال والتنظيمات الاخرى، التي لم تتحول الى صغيرة الا لان الانماط الكبيرة حاصرتها ودمرت تنظيماتها ومقومات بقائها وعيشها. وتسيطر بسرعة هائلة «السوبرماركيتات»، والمطاعم من امثال «ماكدونلد»، والملابس من امثال «كريستيان دور»، او «لورانس»، بحيث اخذت تقولب بشكل متزايد انماط الاستهلاك، وعادات الحياة، وطرق العيش، وطرق التفكير، لأعداد متزايدة من سكان الكرة الارضية. فانت اذا دخلت الى سوبر ماركيت في نيويورك، او آخر في طهران، او نيودلهي، فانك لن تجد نفس الترتيبات والتنظيمات فقط، بل ستجد ايضا نفس البضائع، ونفس اساليب العرض والتنظيم. فالسير قدما نحو توحيد الانتاج لا بد ان يعكس نفسه في توحيد الاستهلاك وانماط العيش والفكر. وبقدر ما يخصنا فان من شأن ذلك ان ينتج في النهاية انسانا نمطيا، تقولبه حاجياته الاستهلاكية، واشكال استهلاكها. كيف نشرب القهوة صباحا؟ كيف ننظم يومنا؟ استهلاك الطعام واشكاله.. انماط اللباس وتأثيراتها.. الفضائيات وتناغمها في تقديم برامجها.. وسائل التسلية، واشكال نقل المعلومات، والقيم، والفنون التشكيلية، وطرق انتقال القيم عبر الهواتف، والتلفزيون، او الانترنيت، وغيرها من تفاصيل، تجعل الانسان يزداد تلقيا، ليضعف دوره اكثر فاكثر امام المنتجات التي يصنعها. فهي التي تستهلكه في النهاية، وليس هو الذي يستهلكها. وهي التي تعيش عليه في النهاية، وليس هو الذي يعيش عليها. فالعملية القيمية والفكرية لا تجري في ساحة، لتجري حاجيات الناس واستهلاكياتها وانماطها في ساحة اخرى. وان الاولى تتراجع باستمرار امام الثانية، ليتراجع الانسان كقيمة مستقلة بعقله وفكره وقيمه، امام النمطية الآسرة لاستهلاك البضاعة، وما تفرضه على الانسان المعاصر من اشكال فكر وتنظيم لحياته. فالانماط المعاصرة تقضي على التعددية من منابعها وجذورها. وان ما يجب البدء بمناقشته هو تفكيك الصور والانماط السائدة، والتي تخترقنا اختراقا، لنقرأ ما خلفها، وما تخفيه من اشكال اسر واستبداد ضمني ومباشر، ذاتي او موضوعي، مفروض بالقوة، او بالتعجيز والاستضعاف. بدون ان ننجز هذه المهمة، او نقف على ابواب معالجتها فاننا سنفقد اية اداة لمعرفة مَنْ نحن، وما يمثله الآخرون بالنسبة لنا.
5ـ لسنا بمسيطرين بل مذكرين فقط
فالنظام المعاصر الذي اشاع اقصى الحريات من ناحية، هو الذي اشاع اقصى درجات العنف والاقصاء والاستبداد من ناحية اخرى. فهو يحمل في انماط عمله، وتحققه، وتجديد نفسه، عناصر الانقضاض على التعدديات الاجتماعية، والحضارية، والثقافية، والاعتقادية، وحتى الالسنية، ويسير مسرعا نحو اشكال مختلفة من الانتحار الذاتي والجماعي. ويشجع في آلياته نزعات التفوق، والتطرف الديني، والالحادي، وبالتالي مواقف الاقصاء، والاستفراد، وادعاء امتلاك الحقيقة ــ وليس السعي لها، او استقصاءها، او طلبها ــ ويضع في ايدي كل فريق وسائل وقدرات تدميرية، بتكنولوجياتها وقدراتها غير المتناهية، او تدميرية بتضحوياتها غير المتناهية ايضا، مما يعطي كل فريق وهما او تصورا انه قادر على انهاء خصومه ومعارضيه، وهو ما يضيف المزيد من عوامل العناد، والغرور، والفوقية، والاستعلائية، والرغبة في احتقار وانهاء الآخر، ناهيك عن حواره واحترام وجهات نظره ومعتقداته. نعم لا يخطئون اليوم عندما يتكلمون عن الارهاب، ويعتبرونه الخطر الاول، لكن ما لا يريدون رؤيته انهم ــ والنمط الحضاري الذي يدعون اليه ــ هو انهم المصدر الاول لهذا الارهاب.. و.. نعم هناك فرق بين الارهاب، والمقاومة او بين الارهاب الاستراتيجي، والارهاب التكتيكي، ان صح التعبير. فالثاني، او ادخال الرهبة في قلب الخصم المعتدي حق، بل هو واجب، ان جرى بشروطه وضوابطه، وفي مقدمتها اهلية وشرعية القيادة، وتقوى العمل وعدليته، وحرمة القتل بدون حق لكائن ما. اما الاول، او الارهاب فهو كل عمل يسعى لالغاء الآخر، فارهاب القنبلة النووية، او افقار البشرية، واستهلاك مقوماتها، وهضم حقوقها، هو ليس ارهاب بقاء ودفاع، بل ارهاب الغاء وافناء، تماما كارهاب «القاعدة» ــ او اية فكرة دينية او لا دينية مشابهة ــ والذي يفلت من عقاله، وقواعده الضابطة، ويربط بين بقائه والغاء الآخر.. عندما لا نفهم قولـه تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون، ولا نفهم باننا لسنا «بمسيطرين» بل «مذكرين» فقط.. لا نفهم بان مرجع الامور كلها الى الله.. وان ما يأمرنا به هو التسابق لعمل الخيرات، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة للشرعة والمنهاج المستقيمين الصالحين، وليس السيطرة، او الاكراه، او تنصيب انفسنا آلهة على الناس.. وان الله سبحانه وتعالى قد ابتلى الناس باختلافهم في معتقداتهم، واعمالهم، وولاءاتهم، وألسنتهم، وألوانهم، ولو شاء لوحدهم. لذلك عندما لا يقيد البعض نفسه بهذه الحدود، وعندما يسود قانون النمط الواحد، والفكرة الواحدة، والنوع الواحد، فان افكار الارهاب، والتطرف، والواحدية ستطغى على كل ما عداها. وسيعتقد كل طرف انه السراط المستقيم، بينما الواقع ان هذه كلها سراطات غير مستقيمة، بل سراطات مدمرة قاتلة ليس الا. عندما تسود هذه الافكار وتصبح هي المنظمة لسلسلة الافكار المختلفة والمتضادة، ولكن المحكومة بمنطق الافناء والواحدية واسرها، فان الضد (وبالتالي الآخر) هو ليس المقابل الذي تربطني به عوامل وقوانين الاشتراك، او الوحدة، رغم الخلاف، والتعارض، وتباين المسارات، والمناهج، او السراطات، بل هو حتفي وموتي، إذا لم اقض عليه فسيقضي علي، دمه حلال لي؛ لأن دمي حلال له، وافنائي بقاء له؛ ليكون إفناؤه بقاءً لي.
6ـ التعاقب والمداولة والاستخلاف وليس العزلة والانكفاء
لا يرى اصحاب منطق الالغاء من الفريقين سوى لحظة الانقضاض، وانتصار الضد على نقيضه، فلا ترى اعينهم السنن والمسارات والقوانين، فيؤسسوا بناء على فهم اللحظة ــ وليس على فهم السنن التي ترى ارتباط الظواهر والمناهج والمسارات. فاذا كان الليل هو الاختلاف(5) عن النهار، الا انه ايضا مظهر مولج فيه، يتكون من باطنه وبموجب قوانينه. كذلك اذا كان النهار هو الاختلاف عن الليل، الا انه مظهر مولج فيه يتكون من باطنه وبموجب قوانينه. «فاختلاف الليل والنهار» لا يلغي احدهما الآخر، بل ضرورتان من ضرورات آيات الخلق والسنن الكونية، لتنظيم الحياة نفسها وبلوغ غاياتها، فالحياة ان اريد لها ان تكون كلها جنة فستكون كلها نارا، وان اريد لها ان تكون كلها نورا فستكون كلها ظلاما، لان السعي لفرض الـ «واحد» سيكون سعيا لالغاء التوحيد، والواحد، وآياته، وسننه، وحكمته في جعل الناس شعوبا وامما ومعتقدات.
من هنا، وبقدر وعينا لمسؤولية النظام المعاصر في صناعة مسار، او سراط النمطية الواحدة، والفكرة الواحدة، والثقافة الواحدة، وبالتالي النوع الواحد الذي يدفع دفعا للقضاء على الآخر وازالته، والسعي لفرض المصالح والنظرات، والخروج بها من دوائرها المحدودة والجزئية الى المساحات العالمية والكونية، نقول اذا كنا نرى مسؤولية النظام المعاصر في هذا كله، لكننا نرى ايضا وبنفس الدرجة قدرته التي سمحت بوضع العالم والبشرية على عتبة من الامكانات والتطورات والقدرات الهائلة، التي قد تساعدها على التقرب من الخالق بدل ان تبعدها عنه، وقد تزيد من اقترابها من السراط المستقيم بدل ان تفرقها عنه. فكما ان الله سبحانه وتعالى يخرج الميت من الحي، والحي من الميت، والنور من الظلام، والظلام من النور، فانه في اطار سننه الكونية يحيل الاشياء الى مضاداتها، بحركة معقدة تجري اصلا في داخلها ورحمها، ولولا ذلك لما ترافق خلق الانسان بوضع الميزان(6).. ولما الزم نفسه بالعدل او طالبنا به باعتباره اقرب للتقوى.
أــ فالنزعة الاستغلالية (والاستعمارية) والتحررية (ليس المطلقة للحريات فقط بل المطلقة للتحديات ايضا)، وان كانت قد اشاعت استباحة العالم والبشرية من ناحية، لكنها اشاعت بالمقابل نزعات التحرر من الظلم والاستبداد والاستعمار والاستغلال ايضا. ان كانت في مشروعها الاستغلالي قد فتحت الباب على مصراعيه لاعمال العقل والعلم والحاجة التي لا غنى عنها للآخر فانها بذلك قد فتحت ايضا عودة الآخر لكي يكافح ويحتل مكانه، بعد ان يمتلك الكثير من القدرات العلمية والعقلية والتنظيمية الجديدة. ان كانت في مشروعها التحرري قد سعت الى تحرير انسان القارة، او الانسان الابيض، ومنحه شتى الامتيازات والحمايات والضمانات، فانها قد فتحت امام الانسانية كلها مجالات تعميم هذه القيم، ونقلها من استئثار القلة لتتحول الى حقوق للمجموع والانسانية كافة.
ب ــ والنزعة المعاصرة ان كانت قد قادت الى تأليه الانسان، ولو الخاص، والانغماس في منافعه وحقوقه وحسياته، بوضع الآخرين عبيدا لها، لكنها ساهمت ايضا باشاعة اسس الاعتراف بالانسان، والسير قدما في نسف نظريات استعباده، وحرمانه من حقوقه، او التمييز بين البشر على غير قاعدة الكفاءة والتقوى.
ج ــ والنظام المعاصر ــ الجشع جدا في مكاسبه ــ قد نقل اعمال وضع اليد على حقوق الآخرين من اعمال السلب، او الاغتصاب، او السلب البسيط، الى اشكال تأخذ فيها اعمال انتقال الحقوق والقيم والمكاسب اشكالا متعددة، يصبح امامها النهب البسيط شكلا متخلفا، ممجوجا، يعرقل قواعد اللعبة بدل ان يقوم عليها. فالقانون، والمؤسسات العملاقة، والتنظيمات الهائلة، والتبشير العلني بقيم عمل النظام ووسائله، هو الذي سمح ويسمح بهذه الاستباحة غير المحدودة وغير المقيدة. هذه العلنية والشمولية في الاستباحة تحمل معها عملية وشمولية في الحلول ايضا. فالامر لم يعد اصلاح الذات فقط، بل هو اصلاح اجتماعي شامل واصلاح انساني ينقل الانسانية من مرحلة الى اخرى.
د ــ لم يكن ممكنا وليس من الممكن اليوم القيام بهذا المشروع الجبار لولا عملية «التجريد» abstaction والانتظام الهائلة، التي نظمت عمل هذا النظام. فالنظام هو «السيستم» وهو بالتالي «السيستماتيك»، والتي هي آليات العمل الحقيقية، التي ستنتقل الى انماط، وقيم، ودوافع تحمل بمجموعها النظام، وتعطيه صفة الشمولية والموضوعية والعموم. بكلمات اخرى فان توليد الصفات الاخيرة هي ضرورة للنظام، تصنعها ضرورياته وليس نزواته فقط، فهو ــ وإن كان يوفر وسيلة للتمويه والاخفاء، وكلام القلة باسم الكثرة ــ الا انه في الوقت نفسه يرسي اسسا للكثرة، لكي تنتظم كضرورة ايضا «لتجرد» النظام من طرق واشكال الاستئثار والاستلاب.
هـ ــ فاذا فهمنا الضد ليس بمعنى الالغاء او الازالة، بل بمعنى التكامل، والتعاقب، والمداولة، والاستخلاف، والسائرة كلها نحو حركة ترقى باستمرار، فاننا سنفهم بشكل افضل مكانتنا ودورنا في العالم المعاصر، بل سنفهم بشكل افضل المناهج اللازمة للمواجهة والتصدي، واعادة التوازن لهذا العالم، الذي يسير نحو الاحادية، وجنونية الالغاء، والالغاء المضاد. فاذا احتفظنا بتوازن الرؤية لنرى ضرورة التقوى، والتوازن، والوسطية، والضبط، والكبح من جهة، اي دفع الضرر، سنتعلم سريعا ايضا كيف يمكننا ان ننفتح ونأخذ من الآخرين، اي ان نجلب المنفعة ايضا. فدفع الضرر ليس بالضرورة ضد جلب المنفعة. نظريا وعمليا لا توجد بالضرورة عوائق لأن يسير الدفع والجلب سوية، فالنفع الطبيعي لا يحمل ضررا او فسادا. النفع الابتذالي هو الذي يرافقه الضرر والاذى. ما قد يمنع رؤيتنا للمنافع الطبيعية هو انغلاق نظرتنا، والعوائق التي يضعها الآخر امامنا، والتي سيسهل ازالتها ان وعينا ما يجري لنا وحولنا. فتقديم دفع الضرر لا يقتضي الامتناع عن جلب المنفعة، بل على العكس فان جلب المنفعة هو سبيل ضروري لدفع الضرر. كما ان دفع الضرر هو سبيل ضروري لتجديد المنفعة وتوسيعها. فالقاعدة هي ان يسير الاثنان سوية، والا فلن تستقيم الامور. وان ترتيب الاولوية هي مدخل رؤية لترتيب كيف يعمل الاثنان بافضل ما فيهما، وليس لاختيار واحد مكان الآخر. مناهجنا اليوم تقوم الى حد كبير على دفع الضرر، وهذا مولد للضعف والارتباك، وتوليد الدونية والتأخر. مناهجنا يجب ان تنجح ــ كما سعت دائما ــ في ربط دفع الضرر بجلب المنفعة، وببناء الاحتياطات للتعرف جيدا، لما يعنيه الضرر والمنفعة بشروطها الصحيحة وليس المفترضة.
وــ لا يمكننا اعادة السيطرة على مسيرة الانسانية، اما بالانسياق بما يسمى بركب الحضارة، واما باغلاق العين عما يجري امامنا، والبقاء في مؤخرة الركب. لا يمكننا القيام بذلك بل نعتقد ان الامم الحية، والافكار المبدعة، والديانات التي سيكتب لها النجاح، وعلى رأسها الاسلام العظيم، هي تلك التي تستطيع ان تتجاوز العصرنة، والحداثة، والعولمة والامبريالية، والاستعمار، وغيرها، من مركبات تعمل بوعي او بدون وعي على اشادة الحاضر على حساب تدمير الماضي والمستقبل في ان واحد. يجب ان نواجه الحاضر بمخاطره ومكتسباته بالمستقبل وليس العكس. فالحاضر هو في آن واحد لحظة من لحظات الماضي، ولحظة من لحظات المستقبل. يجب ان لا نحافظ على الماضي باعتباره ماضيا، بل باعتباره يشكل مقوما من مقومات وجودنا وحصاناتنا. وما يجب الحفاظ عليه هو ذلك الجزء الرئيسي الذي ينفع الناس، اما المتهرئ والبالي فانه الزبد الذي سيذهب جفاء. ولكي ندخل المستقبل يجب ان نتجاوز الحاضر. ولكي نتجاوز الحاضر يجب ان نمتلك كل المقومات التنظيمية، والمفاهيمية، والعملية، والعلمية، لنشجع عملية الاستخلاف، والمداولة، والاستعقاب، وتجاوز المخاطر والأضرار، التي تقودنا اليها انماط الاستقطاب والالغاء والاستفراد. لن نفهم الآخر ان لم نفهم انفسنا، ولن نفهم انفسنا ان لم نفهم الآخر، ولن نفهم بعضنا او نفهم خلافاتنا، ان لم نتعامل فيما بيننا، وان لم ننظم هذا التعامل، بما يجعله تسابقا للخيرات، وليس تنافسا للالغاء والنفي.
عادل عبد المهدي/ نهاية 2002

الهوامش:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لعب العامل الفلسفي او الديني ايضا نفس الدور في تجارب الشعوب الاخرى.
(2) هذا المفهوم الذي قامت عليه الفلسفات المنغلقة التي لا تتعامل مع الانسان فقط بهذا المفهوم، بل تتعامل مع الحياة والطبيعة بهذا المفوم ايضا. فهي لا تستثمر الحياة وقواها، بل هي تتصارع معها. فالبقاء للاقوى هو جوهر هذه الفلسفات الطبيعية والدينية والاعتقادية.
(3) نحافظ على الخلاف بين مفردتي المجتمع والاجتماع. فنحتسب على الاولى السعي لبناء سيستيم تتقدم فيه هدفية الاستئثار والمنفعة غير المتوازنة او العادلة على الانسان ومصالحه الآنية والمستقبلية.. الجزئية والكلية. في حين نحتسب على الثانية(الاجتماع) الدور المتميز للانسان في فطرته ووعيه واستخدامه قواه العقلية لرؤية مصالحه الانية والمستقبلية، المباشرة وغير المباشرة، لنفسه ولغيره.
(4) راجع مقالة جون جيلبير : مؤسسة التعليم الاسلامي واحتراف العلماء في القرون الوسطى في دمشق، والتي يشير فيها الكاتب الى ازدياد ارتباط المؤسسات الدينية بالحكم في تلك الفترة بشكل خاص، واقتراب نشاط العلماء ودورهم من شكل الوظيفة ، ويمثل هذا التطور تغيرا مهما في جانب كبير من البنية الاجتماعية الاسلامية، وفي حياة الجماعة الاسلامية، بعد ان كان العلماء يتنقلون في ارجاء الاقاليم الاسلامية، اما طلبا للعلم، او   لنشره، كما وكانت مجاميع طلبة العلم دائمة السعي في الاتصال المباشر فيما بينها، الامر الذي ادى الى انتشار شبكة من طلاب العلم عبر العالم الاسلامي. كان تنقل طلاب العلم هذا يتم تلبية لمتطلبات مهنية واجتماعية، بالاضافة الى المتطلبات الدينية التي تطورت من خلال تبادل المعلومات الدينية، وهذه الممارسات هي التي شكلت ما يسميه الكاتب «بالنظام العالمي للتعليم الاسلامي»:
Joan E. Gilbert, Institutionalization of Muslim Scholarship and Professionalization of the Ulema in Medieval Damascus / باريس 1980، العدد 52 من مجلة Studia Islamica
(5)”ان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الالباب” آل عمران ــ 190.
(6) سورة الرحمن.

Screenshot_2021-11-20-23-15-01-05_965bbf4d18d205f782c6b8409c5773a4

 

 

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

ملحق العدالة

mulhaq-preview

استبيان

الطقس في بغداد

بغداد
28°
34°
Sun
32°
Mon
الافتتاحية