في وطن ممزق كالعراق يجد المثقف نفسه مجبرا على تطويع تجربته وفق الواقع المدمي والنزول إليه ليلتقط تفاصيل الوطن والبشر، ويشكل ذاكرته الوفية لهذا الواقع، من هنا كانت تجربة الفنان التشكيلي العراقي محمد عبد الوصي، الذي جسد «الدم العراقي المهدور» واستغنى عن الحيطان، المعرض ضمن مفهومه التقليدي، لينزل إلى حيث يوجد المتلقي.
■ محمد عبد الوصي تعتمد التجسيد والتركيب في أغلب لوحاتك، المواد المستعملة تبدو غريبة لدى المتلقي؟
□ هي ليست غريبة عن المتلقي بالمعنى الدقيق ربما.. وإنما اعتمدت دائما في أغلب خطابي على الأداء اليومي لتمثل وظيفة الفن في أشياء مغايرة عن وجودها الأول، وهذه التجربة ربما تكون ذاتوية خالصة، لمكان عشته، أغلب التجارب العربية تدور في محور الكاليري وكيفية تسويق اللوحة، أنا أبحث دائما عن أداءات مختلفة تصل إلى ذاكرتي بطريقه تختلف عن مفهوم الجمال الذي أعرف أو المعتاد.
■ لو تعطينا فكرة عن مصطلح الميتا تشكيل الذي اشتغلت ضمنه في أعمالك.
□ مصطلح الميتا تشكيل الذي أشرت إليه هو فاصل تاريخي يمثل كيفية الانتقال من جدار الكاليري إلى العرض المباشر أمام الجمهور أولا، وثانيا هو جميع الطرح يكون بمثابة مسرح.. الأدوات التي تستخدم في التشكيل تكون من ضمن المتلقي ربما يكون مشاركا في العرض والميتا تشكيل هو مرحلة المابعد أو الماوراء. العرض من ناحية خلط الكلمة بالمضمون الشكلي في إخراج الخطاب أي إدراج النصوص وهي من ضمن أدوات العرض. والأهم ماذا بعد التشكيل؟ هل يطابق الواقع الذي أعيشه؟ أم أنه فكرة لتجسيد مرحلة تاريخية؟ وأنا دشنت المصطلح من خلال أعمالي التي تحمل صفة التركيب والمغايرة.
■ المتأمل في أعمالك يشعر بأنه أمام ذاكرة حية، ناطقة ومرعبة أحيانا، أن تكون أمام وجبة من رصاص أو صور ملطخة بالدم هو العراق اليوم.
□ بالفعل هو تجسيد يومي لا يحمل التأويل ربما للمتلقي، فهو دال لمنطقة عاشت فيها الحروب قبل أن أولد، ولم يحن أوانها النهائي إلى الوقت الحاضر، فالحرب هي الحاضرة الأولى لمخيلتي التي سرقت مني طفولتي وجميع أصدقائي… فأنا فرد عراقي عاش كباقي العراقيين هذه المرحلة، أعارض كل أشكال الرومانسية في الفن، ليس بمعنى الرفض لها، ولكن هي لا تفي بالواقع ولا تمسه، فاللوحة لم تعد تساوي هذا الكم الهائل من الموت الجمعي والتهجير والإقصاء وكل أشكال العنف.
■ هل هذا إقرار ضمني بأن الفن هو المؤرخ الوحيد للشعوب وذاكرتها الثرثارة، إلا يعد هذا البقاء ضمن دائرة الوجع ذاتها وإقصاء ما للفن من أدوات جمالية وخيالية أحيانا.
□ نعم هو الفن هو المؤشر الوحيد للذاكرة.. لكن بالإمكان ألا يلزم التجنيس، فالعمل الفني يجب أن يبتعد عن حدود الشكل ولا يصنف ضمن إطار معين أي أيقونة مفتوحة تتيح للمتلقي المشاركة. والنزول عن الثقافة النخبوية دائماً في الطرح المسمى جماليا في الثقافة العربية يعتمد على الأفقية ومحكوم بتاريخ المؤدي للعمل، ويبقى أسير ثقافة النخبة. وأنا لا أتفق تماما مع الفن في أن يكون جماليا.
■ المشاركة هنا تتم فعلا، فاللوحة أو التجسيد هي نص، نص قد تختلف القراءات ضمنه لكنه يبقى وفيا لمنبعه.
□ نعم المهتمون دائما بالخطاب البصري يكثفون بكيفية الصياغة الجمالية وكيفية تدويرها إلى المتلقي ..أرى العكس فالمنجز الذي لا أطلق عليه كلمة جمالي… هو أن العين ترى ما تود أن تراه، يعتمد على بنيات مفتوحة ويشير دائما إلى كونه، فالتشكيل لا يحدد بمنطقة فهو دائما يعبر ولا يتحدد بتوصيف.
■ الذاتي قد يقابل الآخر ويلتقيان كمعاناة ما، «الجوع « تعبير صادق عن هذا الالتقاء.
□ الجوع هو تمثيل مهم لطفولتي، عاشت تجربة الجوع معي كأنها كائن حي ولد معي وعاش بدلا من الألعاب الأطفال كأي طفل.. أتذكر الجوع جيدا عندما كنت أنام بدون طعام وأستيقظ صباحا وهو مستيقظ معي، لذلك لم أستطيع تمثيــله في سطح بصري ذو بعـــــدين …لأن اللوحة لا تسع الفكرة. والعمل الذي سميته «الجوع» مرة أخرى هو تدشين لهذه التجربة الذاتية التي عشتها.