Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

الاستقطاب التاريخي بين النفعية والمثالية

الاستقطاب التاريخي بين النفعية والمثالية
ادب وثقافة - 1:15 - 30/03/2016 - عدد القراء : 2177

حدث استقطاب، وتمايز، تاريخي، بين الفلسفة النفعية، من جهة، والفلسفة الأخلاقية المثالية الإنسانية الاجتماعية الجَمَالية، من جهة أخرى، له تأثيراته على الأفراد والمؤسسات والمجتمعات.
هذا الاستقطاب، والتمايز، الذي حدث، كان في العالم الإغريقي قبل الميلاد، قد أثر على العالم، والبشرية عبر العصور. الفلسفة النفعية، وكذلك الفلسفات المثالية والأخلاقية والإنسانية والاجتماعية والجمالية، جميعها مؤثرة، ودرجات تأثيراتها مختلفة، مع الأخذ بعين الاعتبار المُتغيرات والتحولات والتبدلات العلمية التي تحدث في هذه المستويات الفلسفية والنظرية الكبرى وامتداداتها التطبيقية، وفي ظل ثبات أصولها. وعلى هذا الأساس هناك تجاذب، تنافر، وهناك صراع، كذلك، بين هذه الفلسفات. النظرية النفعية، (utilitarianism)، تحديداً، تُعَد قوة دفع مركزية فكرية وتطبيقية لها أقطابها وقواها وتشكيلاتها ونماذجها، المختلفة والمتنوعة، فردية ومؤسسية ومجتمعية ودولية، وتأثيراتها متفاوتة، لكنها تظل قوة مهيمنة، كونها تاريخية متسامقة القِدم، متراكمة الخبرة، مخضرمة الممارسة، عميقة التطبيق، إمبريقية، تُخاطب الحِس، وتُركز على المصلحة المادية المجردة.تطورت النظرية النفعية عبر التاريخ منذ نشأتها قبل الميلاد، وكذلك أسئلتها حول «السعادة»، والفلسفة النفعية أفاضت في بحوثها ودراساتها عن «السعادة» التي تربطها بالمنفعة المجردة والمصلحة واللذة، ولهذا تتعرض النظرية النفعية للنقد، سواء النقد التاريخي، أو النقد المعاصر، خاصة من المدارس الفكرية المثالية الأخلاقية الإنسانية الاجتماعية الجَمَالية. الحضارة الإغريقية شهدت نشأة النظرية النفعية وضمت جذورها التي كانت أدبيات فلسفية ضخمة متشعبة، أنتجها فلاسفة وأساتذة شرحوا ونشروا المذهب النفعي من زوايا مختلفة ورؤى متعددة متنوعة، يأتي في مقدمتهم النفعي «أرستيبوس» والنفعي «أبيقور»، قاسمُ أدبياتهم المشترك هو أن «المادة» أساس وما عداها ليس بأساس. الفلسفة النفعية نشأت في أحضان «الحركة السوفسطائية» الإغريقية (Sophists)، وهي نتاج لها. والسوفسطائية هي حركة فلسفية وعلمية كبيرة متعددة الأقطاب، والاتجاهات، والمواهب، وشديدة التفاصيل والتنوع، تضم خطباء ومعلمين وفلاسفة، ونابغين، عَلموا ودرسوا وشرحوا اللغة والنقد الأدبي والنحو والبلاغة والرياضيات والسياسة والفلسفة وشتى المواضيع، وقد حققوا نجاحاً مادياً، وأصبح منهم أغنياء، واشتهروا داخل اليونان وخارج اليونان، ولهم مُريدوهم وطلبتهم، والكثير منهم حقق مكانة اجتماعية ومالية متميزة وشُهرة، غير أنهم قد اتهموا بالمتاجرة بالعلم، واستغلاله لمنافع خاصة، وبالتخريب. النفعيون الماديون هم نتاج مادي حسي لهذه الحركة، فالحركة السوفسطائية هي الأُمّ للحركة النفعية المادية، عبر التاريخ.الفلسفتان، النفعية والسوفسطائية، متكاملتان، كلتاهما حسيتان ماديتان تؤمنان بالحس والمادة والتجسيد والتجسيم والمشاهد والمرئي والعالم المحسوس، ولا تؤمنان بالعالم المعقول، غير المحسوس، غير المشاهد. لا تضعان في أبحاثهما ودراساتهما أهميةً للعوامل غير المرئية، وغير المشاهدة. الحقيقة لديهم هي «المادة». وكِلتا الفلسفتين مُتعارضتان مع الفلسفة المثالية الأخلاقية.الحضارة الإغريقية في المقابل شهدت نشوء فلسفات ونظريات مناهضة للمذهب النفعي وهي الفلسفات المثالية والأخلاقية والإنسانية والاجتماعية ويدخل في مضامينها «علم الجمال» وتابِعُهُ «علم السعادة»، فعلمُ السعادة تابعٌ لعلم الجمال، مُتأطر به، ونتاج له. قدمت هذه الفلسفات إجابات وشروحات عن «السعادة» بمنهجية مُغايرة ومختلفة عن المذاهب النفعية والسوفسطائية.هذه الفلسفات المتُعارضة مع المذهب النفعي قدمها وشرحها ونشرها فلاسفة وأساتذة وعلماء يأتي في مقدمتهم سقراط ثم تلميذه أفلاطون ثم تلميذه أرسطو، بالتتابع الزمني، والأسبقية التاريخية، وغيرهم، من مفكرين، والذين هم امتداد لهم. الفلاسفة الثلاثة، سقراط وأفلاطون وأرسطو، تحديداً، شكلوا تكتلاً فكرياً علمياً فلسفياً واحداً متكاملاً مترابطاً متماسكاً؛ مثالياً أخلاقياً، متميزاً عمن سبقهم من فلاسفة ومفكرين ومدارس فلسفية وفكرية، ومُختلفاً عمن جاء بعدهم من فلاسفة ومفكرين ومدارس فلسفية وفكرية، وهذا لا يمنع التأثر والتأثير المتبادل.كان منهج سقراط في التعليم والتدريس «مُبتَكراً»؛ وهو منهج علمي غير تلقيني، ليس تقليدياً، ولا ينتهج الأسلوب الخطابي، بل كان منهجه حوارياً مثالياً أخلاقياً تجريدياً عقلياً فكرياً تأملياً استقرائياً استنباطياً واقعياً. كان منهاجاً علمياً مُتفرداً. وكان منهجه العلمي، هذا، هو طريقته المعتمدة في التدريس، كما كان أسلوبه في الحوار والمجادلة مع خصومه، يبدأ حواراته بالأسئلة ثم ينطلق منها لمواضيع شتى. ولهذا شَكل منهجه العلمي تحدياً حتى لخصومه.منهج سقراط العلمي خلق له شعبية ضخمة ومتزايدة لدى شعب أثينا، واشتهر خارج أثينا، حيث كان يأتيه الطلبة من خارج أثينا واليونان، خاصة أن دروسه لا يتقاضى عليها أجراً، لم يُعرف عنه أنه كان يتقاضى مبالغ مالية لقاء دروسه. دروسه ومحاضراته وحواراته كانت تتم في الأماكن العامة، والأجواء المفتوحة، والمدرجات، والمسارح، والحدائق، والمنتزهات، والأسواق، والملتقيات، والمنتديات، ويكون في صحبته تلاميذه ومُريدوه وضيوفه وأنصاره وأتباعه، وتحضرها الجماهير الأثينية، وغير الأثينية، في فضاءات مفتوحة جاذبة مكانياً وفكرياً. بمظهره البسيط وبساطته وتَبسُطه، كما تقول المصادر العلمية، يلقى سقراط الناس في الطرقات والمنازل ويستقبل تساؤلاتهم المختلفة، العادية منها والصعبة والمذهلة والمُعقدة، ويُبادرهم بالنقاشات المُبسطة، في البداية، والتي تنحى منحنيات فكرية متصاعدة، والحوارات الفكرية مفتوحة، والتساؤلات كانت حول كافة القضايا العقلية والفكرية والذهنية والنفسية والحياتية، ويربطها سقراط بالواقع، والممارسة. وهذه نقطة جوهرية، فسقراط كان يربط فلسفته بالواقع، وفهم الواقع، ربط الفلسفة والنظرية بالواقع اليومي المعيش، وفهم السياسات، وهذا حقيقة في فلسفته. وكان طلبته يكتبون ويُدونون دروسه، ومحاضراته، وحواراته، فلم يُعرف عنه أنه قد كتبها، بل كانت تُكتب عنه. لهذا تَكون، وصار لسقراط أعداء وخصوم ومناوئون، تكتلوا ضده، حيث كان المجتمع اليوناني الأثيني تتجاذبه ثلاث قوى كبرى، الفلاسفة النفعيون، والسوفسطائيون، وحكومة أثينا «الديمقراطية». جميع القوى الأثينية، هذه، كانت أقرب للواقعية المادية منها للمثالية الأخلاقية الإنسانية الاجتماعية الجمالية، أو هي كانت «مادية» النزعة، امتزج بها تعصب، وحِدّة، وشِدّة في التعامل، وغطرسة، ومَيل للاستبداد، وتعظيم للمنافع. كانت مُحاكمة وإعدام الفيلسوف الإغريقي سقراط في عام 399 قبل الميلاد علامة فارقة، وفاصلة، في التاريخ الإنساني، على كافة مستوياته العلمية والفكرية والفلسفية والثقافية والسياسية وغير ذلك من مستويات. كان حدثاً مأساوياً أدبياً وإنسانياً كما تشير إلى ذلك العديد من المصادر العلمية من كافة أرجاء العالم القديم والمعاصر. وقد انتصرت بذلك «النظرية النفعية» و«النظرية السوفسطائية» (Sophists) حيث زال عن الوجود خصمهما، أو عدوهما الأساس، سقراط، الذي كان يملك قدرات علمية هائلة، قادرة على مناهضة ومجادلة النفعيين الماديين والسوفسطائيين وغيرهم، وتحديهم، خاصة في الإشكاليات الفكرية الكبرى التي أحدثوها كتلك المتعلقة بزرعهم لعنصر «الشك» في العقل الإنساني، «الشك» في كل شيء لإثبات أن «المادة» أساس، وبِناء الحياة على هذا الأساس الشَكِّي، «غير اليقيني»، وممارستها على أساس «حِسي» «مادي»، وهذا العامل الشَكي/غير اليقيني هو أساس الاتجاه «العَدَمِي»، الذي تطور فيما بعد. كما كَون سقراط آراءَهُ في السياسات بناءً على فلسفته المثالية الأخلاقية. ومن مُجريات وحيثيات محاكمة سقراط تتضح تأثيرات الاتجاهات الفكرية النفعية والسوفسطائية، والمتطرفة، على هيئة المحكمة، حيث كان دفاعه مُرتكزاً على فلسفته المثالية والأخلاقية في حين أن هيئة المحكمة كانت منطلقاتها مُغايرة.في ظل ظروف رحيل سقراط، تعرضت فلسفته بصورة عامة، وفلسفته الأخلاقية والمِثالية، بصورة خاصة، وشروحاته في «عِلم الجمال»، وتابعُ علم الجمال، وهو «علم السعادة»، بصورة أخص، لحصار شديد، كافحها أفلاطون، تلميذ سقراط، عبر توثيق وتدوين تراث أستاذه الفلسفي. وقد ساد بلاد الإغريق حزن عام على رحيل سقراط بهذه الطريقة الدرامية، والنهاية التراجيدية، فقد اعتزل أفلاطون، تلميذ سقراط، العمل السياسي، احتجاجاً على طريقة التعامل غير العادل مع أستاذه، حيث كان يرى أن حكومة أثينا قد أعدمت قيم الحق والعدل والجمال المتمثلة في سقراط، لهذا تفرغ أفلاطون للعمل الفكري والفلسفي.أنشأ أفلاطون «الأكاديمية» (The Academy)، ومسمى الأكاديمية لم يسبق إليه أحد قبله، وهو المسمى الذي انتشر في العالم حتى الآن، وهي أكاديميته المعروفة، وأول جامعة في التاريخ الغربي، حيث مارس أفلاطون نشاطه العلمي بها، وكان محور تركيزه الدفاع عن فلسفة أستاذه سقراط، وإنقاذ دولة أثينا، من سيطرة «الفوضويون»، الذين سادوا، وقد أسماهم أفلاطون ب «الفوضويون» حين أعدموا أستاذه وهو نفس المصطلح الذي استخدمه سقراط من قبل في الإشارة إلى حكومة أثينا وإلى هيئة المحكمة. ظل أفلاطون في تحد فكري فلسفي مستمر مع «الفلاسفة النفعيين» و«السوفسطائيين»، حيث كان مرتكز فلسفته هو فلسفة سقراط، نفسها، ثم إن أفلاطون أضاف عليها عبر محاوراته مع مناوئيه، من النفعيين الماديين والسوفسطائيين، تحديداً، من فكره وفلسفته المثالية الأخلاقية، التي تعمقت، وهذا هو ميراث أفلاطون الفكري الفلسفي عبر التاريخ. وظلت «الأكاديمية» تؤدي دورها العلمي، وتستقبل طلبتها من داخل وخارج اليونان، من عام 387 قبل الميلاد وحتى عام 529 ميلادية، وهي فترة زمنية طويلة، حيث استمرت الأكاديمية في أداء دورها العلمي حتى بعد وفاة أفلاطون، وكانت «الأكاديمية» هي العامل الجوهري في حفظ التراث الفلسفي لسقراط وأفلاطون وأرسطو، حيث لم يفنَ ولم يتدهور.أهم ميراث فلسفي فكري قدمه أفلاطون هو كتاب «الدفاع» الذي هو عبارة عن مدوناته الفلسفية دفاعاً عن أستاذه سقراط وفلسفته، ويُعتبر من أهم الكتب الفكرية في العالم. كما وضع أفلاطون تعريفاً محدداً للسعادة وهي «معرفة الحقيقة»، وهذا التزام منه بخط أستاذه سقراط، لم يحد عنه، كما تلتزم بهذا التعريف للسعادة المدارس الفكرية الفلسفية المثالية الأخلاقية الإنسانية الاجتماعية الجَمَالية، في تعارض تام مع الفلسفة النفعية والسوفسطائية التي قرنت السعادة باللذة، وقد واصل أفلاطون بحوثه على هذا الأساس والتي استكملها أرسطو فيما بعد، كما واصلت المدارس الفكرية الفلسفية المثالية الأخلاقية الإنسانية الاجتماعية الجَمَالية بحوثها ضمن هذا الإطار الفلسفي.الاستقطاب الفكري العلمي الفلسفي في العالم الإغريقي، قبل الميلاد، كان واضحاً، بين النفعيين والسوفسطائيين «الماديين» «الحسيين»، من جهة، وفلسفة سقراط وأفلاطون وأرسطو، المثالية الأخلاقية، من جهة أخرى. هذا الاستقطاب التاريخي بين الفلسفة النفعية، وجذورها السوفسطائية، من جهة، والنظريات المثالية الأخلاقية الإنسانية الاجتماعية الجَمَالية، من جهة أخرى، له امتدادات عالمية مستمرة وممتدة عبر العصور وصولاً لوقتنا الحاضر.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

ملحق العدالة

mulhaq-preview

استبيان

الطقس في بغداد

بغداد
29°
33°
Wed
33°
Thu
الافتتاحية