منهج إيديولوجي يبحث عن حلول لأزمة البرجوازية
في اتجاه التحليل البنيوي، يمكن تمييز اتجاهين بارزين، الأول ما أصبح يُعرف باسم «الاتجاه الشكلاني»، ويرجع في أصله إلى عدد من النقاد الروس بحثوا البنية الشكلية للنصوص منذ عشرينات القرن العشرين، وأهملوا الدلالات التاريخية والاجتماعية لهذه البنية، أو المضمون كما هو شائع. وجسّد هذا الاتجاه في فرنسا «رولان بارت» (1915-1980)، ومن كتبه الأشهر المترجمة إلى العربية «الكتابة في درجة الصفر»، وكررت دوريات عربية ترجمة بعض فصول هذا الكتاب، وانتحل كاتب عربي بعض مقالاته ونشرها باسمه في مجلة «الفكر العربي المعاصر» في ثمانينات القرن الماضي.الاتجاه الثاني هو «البنيوي التكويني»، وجسده في فرنسا أيضاً الروماني/الفرنسي «لوسيان غولدمان» (1913- 1970)، والفرق بين الاتجاهين إيديولوجي بالدرجة الأولى. فالأول لا يرى في النص إلا الكتابة أو مهارة شكلية تخترق نظم اللغة العامة (اللسان) أو تكسرها حسب مصطلح بعض النقاد. ولهذا ينصب بحث هذا الاتجاه على هذه الاختراقات التي تشكل نصاً منعزلاً ومغلقاً قائماً بذاته لذاته. ومن هنا جاءت تسميته بالشكلاني. خلفية هذا الاتجاه، حسب «أندريه آكون»، هي يأس بعض المثقفين الفرنسيين من «التاريخ والاتحاد السوفييتي والعالم الثالث، فقد راهنوا على هذا الثالوث ثم شاهدوه يسقط».معنى هذا الكلام أن الدعوة إلى الابتعاد عن «السياسي» هي التي حركت التيارات الفلسفية ووجهتها. ويضيف «آكون»، أن الفلسفة الفرنسية بعد حرب الجزائر دخلت مرحلة جديدة، هي مرحلة الفلسفة الوضعية وسيطرة العلوم. فبرزت إلى الصف الأول، نتيجة لذلك، البنيوية مع «ستروس» و«جاك لاكان» (1901- 1981) و«ميشيل فوكو»(1926- 1984) و«بارت».. وغيرهم. ووجد مفكرون ظاهراتيون من أمثال «غاستون باشلار»(1884-1962) اعترافاً بهم، ورجع إلى الصف الثاني المفكرون الوجوديون.الاتجاه الثاني، التكويني، ينطلق من تبني الاتجاه الإيديولوجي صراحة، فهو يرى أن النص الإبداعي، بعلاقاته الداخلية اللغوية (بدواله) وبإشاراته إلى العالم الموضوعي (بمدلولاته)، يعبر عن وعي الكاتب، عما يفعله بما يتلقاه وبما يحدث له، حسب تعبير «روجيه غارودي» (1912- 2012) في كتابه «واقعية بلا ضفاف» (الترجمة العربية 1968). حيث «الفن أسلوب حياة، وأسلوب حياة الإنسان عبارة عن عمليتي انعكاس وخلق لا ينفصم بعضهما عن بعض، لأن الإنسان ليس كينونة معزولة، وعندما تواتيه فرصة التفتح والانطلاق فإنه يتحول إلى عالم صغير يحمل في طياته ثقافة الجنس البشري السابقة عليه، أما حاضره فيتمثل في وجود عصره في كيانه».وهذا الوعي، حسب «لوسيان غولدمان»، ليس معزولاً عن رؤية للعالم شاملة تحملها طبقة أو فئة. ولهذا فإنه يبحث في النص عن رؤية العالم كما يجسدها النص عبر عملية سبر واكتشاف، ويجد منفذاً للعلاقة بين العمل الإبداعي والواقع الاجتماعي بتوسط حلقة الرؤية، وهي تعبير عن الموقف الإيديولوجي.المهم هنا أن الاتجاه الأول الذي يرفض الإيديولوجيا، أي ما هو سياسي، هو نوع من الإيديولوجيا، نوع من «السياسة»، وهو ما دفع «جان بول سارتر» (1905- 1980) إلى القول إن البنيوية هي إيديولوجية برجوازية تبحث عن حلول لأزمتها في التركيز على «التقانة» وليس الإيديولوجيا. وقد شاعت مقولات الاتجاه البنيوي الشكلاني بصفته الغربية هذه بين النقاد العرب بدرجة ملحوظة، فنجد خالدة سعيد، التي استعارت لفترة زمنية اسماً أدبياً لها هو «خزامى صبري» على صفحات مجلة شعر، تتحدث عن البنيوية كمنهج علمي غير إيديولوجي، متجاهلة ينابيع هذا التيار، وبدرجة أقل نستمع إلى بعض الكتاب ممن يردد مقولات البنيوية التكوينية، وتأكيدها النص كرؤية للعالم وليس مجرد لعبة كلمات متقاطعة، كما هو ملحوظ لدى محمد بنيس، وكمال أبو ديب.الطبعة العربية للبنيوية تعكس، بالإضافة إلى تباينات في الثقافة الغربية، تباينات في الثقافة العربية. فكل ناقد يقرأ ويأخذ ويختار وفق شبكة وعيه، وحسب موقفه الاجتماعي والفكري من قضايا واقعه العربي. ونستطيع إضافة ملحوظة أخرى؛ دلالة التفاوت الزمني الذي يتعايش فيه الناقد العربي مع التيارات الغربية. مثلاً، حين شاع لدينا النقد الوجودي، والنص الوجودي، في ستينات القرن العشرين، كانت الوجودية كفلسفة قد فقدت مركزها المتميز في الخمسينات الفرنسية، وحين بدأ النقد البنيوي، أو ما سمي كذلك، بالانتشار في فضائنا الثقافي، كانت البنيوية كمنهج تحليل أدبي ونفسي وأنثروبولوجي، قد فقدت بريقها في فرنسا منذ أواخر ستينات ذلك القرن. ومن نافل القول أن هذا التفاوت الزمني يحمل دلالة مهمة؛ دلالة تعكس موقف المثقف العربي السلبي تجاه ما يحدث في العالم، هذا الموقف كان موضع تساؤل منذ الخمسينات حين سأل شكري فيصل (1918- 1985) في افتتاحية لمجلة «الآداب» البيروتية (فبراير 1953) تحت عنوان «القلق المنتج»، «أين يقف شبابنا من معركة الحياة التي يحياها العالم؟..». وحتى حين يقترب هذا المثقف من معارك هذا العالم، يجئ اقترابه متأخراً دائماً. ونضرب مثلا قريب العهد؛ تلك الدراسات التي نشرتها مجلة «فصول» القاهرية الدورية في عددين متتالين (السنة الأولى، العدد الثاني والعدد الثالث، يناير وإبريل (1981) عن مناهج النقد الأدبي المعاصر تعبيراً عن إحساس بضرورة تعويض ما فات المثقف العربي الوصول إليه بصفحات موجزة. وتضاعف التعليقاتُ التي قوبلت بها هذه الدراسات المدلول الذي نشير إليه، فقد أكد مثقفون يوصفون بالكبار أنهم «لم يفهموا شيئاً من دراسات هذين العددين من مجلة فصول»، بينما ذكر بعضهم أنه لم يكن يعتقد بوجود هذا القدر الكبير من التعقيد طرأ على مناهج النقد الأدبي. هل يعني هذا أننا لن نستطيع الاستفادة من ثمار الثقافة الغربية؟ وأن التأثر موقف سلبي؟ لا.. بالطبع، ليس هناك من حيث المبدأ ما يمنع عملية التفاعل الثقافي، ولا بديل عن هذا مهما كان حظنا من التطور، إلا أن ما هو صحيح، من ناحية المبدأ، يحتاج حين يصل الأمر إلى التطبيق إلى إيضاح بعض من قضايا يجري تجاهلها.أهم هذه القضايا التي يجب إيضاحها والتشديد عليها، هي قضية الترابط على المستوى المعرفي بين ماهو نقد أدبي، وماهو فلسفي وما هو تاريخي وما هو اجتماعي وما هو سياسي وما هو اقتصادي.. إلخ، في الثقافة الغربية. وأشهر هذه الترابطات، ذلك الترابط بين ماهو فلسفي وعلمي وبين جملة الاتجاهات الفنية والأدبية، بحيث يمكن القول إن تطور مدرسة نقدية يتصل اتصالاً وثيقاً بتطور شامل في الفلسفة والعلوم. يؤكد هذا، أن المنهج البنيوي في النقد الأدبي يعتمد على علوم اللغة أولاً، وخاصة علم الألسنية القائم على فرضية وجود النظام اللغوي بوصفه بنية فوق الأشكال التاريخية، وهو الاتجاه نفسه لدى «ستروس» في فرضيته الأنثروبولوجية القائلة بوجود بنى عقلية ثابتة، وتقف وراء كل هذا فرضية فلسفية عن ماهية العقل والنظام لدى الفرنسي «رينيه ديكارت» (1596- 1650) والشائعة في الغرب كفلسفة مثالية تضع في المقدمة أسبقية الماهية على الوجود. ولهذا السبب لم يتوقف النقد البنيوي عن دراسة النصوص المعاصرة فقط، بل امتد ليشمل النصوص القديمة أيضاً، فدرس نصوصاً من عصور سابقة. ويتصل بهذا الترابط المعرفي أن ظهور تيار فكري في بلد مثل فرنسا ليس معزولاً عن القضايا التي يعيشها المجتمع الفرنسي. فهو مجتمع عاش تحت ظلال الحرب بين الرأسمالية والاشتراكية، وعاش قضايا الحفاظ على المستعمرات، وانعكس تأثيرُ هذا تغيّراتٍ ثقافية بارزة في قلبه، فحفلت سنواته الماضية بصراعات فكرية يتلامح خلفها صراع اجتماعي ذو طابع محلي ودولي له علاقة بالمجتمعات الأخرى. من هذا المنطلق نلاحظ مفارقة في التأثر العربي بتيارات الثقافة الغربية، فقد شاعت لدينا البنيوية في النقد الأدبي من دون أن تجاورها أو تغذيها أو تطلقها بنيوية فلسفية أو نفسية أو تاريخية، لأننا حقيقة نفتقر إلى مثل هذه الجهود الفكرية، بل ونفتقر إلى سياق تاريخي تكون فيه هذه الجهود موجودة بالفعل فضلاً عن وجودها بالقوة.المجتمعات البشرية هي مادة العلوم الإنسانية، ولهذا فإن من شروط ظهور مستوى معرفي في مثل هذه الحقول لدينا هو ظهور من يتناول هذه المادة، مادتنا نحن، أي أن تكون معرفتنا وشخصياتها معطى مضمراً في سياق ثقافي خاص بنا، كما قد يقول الجزائري «مالك بن نبي» . فإذا كان إنتاج المعرفة لا ينفصل عن دواخل ثقافية وحاجاتها النابعة من محيطها البشري ومشكلاته التاريخية، فلنا أن نسخر من الذين ينظرون إلى تفكير واتجاهات الثقافة الفرنسية ويمتحون من جداولها الناجمة عن «ضياع الجزائر» الفرنسية، و«الحرب الباردة»، أو تلاشي «الديغولية» بوصفها حقائق كونية. لأن من المفترض بالنسبة لنا هو العكس، في ما يتعلق بالجزائر بخاصة. لأن إفلاتها من القبضة الفرنسية وتحررها ليس «صدمة» و«سقوطاً» للسياسي، كما يوحي به تبني بعض العرب لمقولات تيار الاتجاه إلى «التقانة» الأدبية، وإسقاط «إنسانية» النص الذي أعقب خيبة بعض المثقفين الفرنسيين بعد ركوب موجة تحرير العالم الثالث أو النضال الأمم.