Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

البيئة المعرفية والأثر الحضاري في اللغة

البيئة المعرفية والأثر الحضاري في اللغة
ادب وثقافة - آية الخوالدة - 1:23 - 18/01/2016 - عدد القراء : 1171

ثمة حاجة لنقض وتقويض بعض الآراء التي لا ترى في اللغة سوى أداة للتواصل، وقيم شكلانية خاضعة لحدود الارتهان للقوالب، وثقافة المنجز في الوعي العربي التراثي. فاللغة أكثر اتساعاً وتعقيداً لكونها تمثل تشكيلاً هوياتياً ثقافياً، حيث كانت عاملاً مركزياً في تبلور الكيانات القومية القائمة على الاختلاف اللغوي (بندكت أندرسن) فضلاً عن دورها تشكيل تحالفات ثقافية، وحضارية نتجت بفعل التمييز اللغوي، كما الاجتماع العرقي، والخصوصية الثقافية، والمدونة التاريخية، وبعبارة أخرى اللغة امتداد عابر للحضارة… وكما يقول مارتن هايدجر بأن «اللغة توجد حيث يوجد العالم». تعرف اللغة على المستويين الإجرائي والوظيفي، بأنها: «نسق من الإرشادات والأصوات المتعارف على معناها للتعبير عن الفكر، والتواصل بين الناس» (عبد المنعم الحفني) ومع أن التعريف السابق يبرر الجانب الوظيفي المعني بالتواصل، غير أن اللغة حقيقة تبقى محدودة التأثير، ما لم تعالج وتتمرس بالفكر الذي شغل الشق الآخر من التعريف، فاللغة تتشكل وتزدهر في بيئة متعالية، حيث تسهم مناخات الفكر في تفعيل النتاج الحضاري عبر خاصية التأثير المتبادل، كون اللغة تمثل حاملاً، ومحمولاً في الآن ذاته. لا ريب بأن اللغة، كما يذهب رواد المدرسة الألسنية، تعني نظاماً حيث ميّز العالم اللغوي السويسري فرديناند دوسوسير بين اللغة والكلام، عبر مفصلية النظام أو النسق، غير أن ذلك لا يعني نفي الطبيعة الاجتماعية للغة، إذ ينبغي النظر لها على أنها تقنين اجتماعي، أو مجموعة من القواعد، في حين أن الكلام هو منها بمثابة التحقيق العيني الفردي. تتكون اللغة من الدال «الصوت» والمدلول «الموضوع أو المحتوى»، ولهذا لا يمكن الفصل بين الدال المدلول؛ لأن كليهما يمثلان ورقة ذات وجهين لا يمكن تمزيق إحداهما من دون تمزيق الوجه الآخر (زكريا إبراهيم)، فلا جرم أن يشير جون جوزيف نقلا عن ماكس ميلر إلى ضرورة حلول الفكر في المقام الأول، في حين تأتي اللغة في المقام الثاني من منطلق أن اللغة عبارة عن أنساق اعتباطية تسخّر بهدف ترميز الفكر (جون جوزيف)، وهكذا نستنتج أن العلاقة تبدو مؤسساتية، إذ هي قائمة بين نمط صوتي «الدال» والمعنى «المدلول» (جوزيف) ذي الطبيعة الاجتماعية التوافقية.اللغة ليست جزيرة معزولة، إنما هي تحضر في غابة من السياقات التي تمارس دوراً فاعلاً من خلال خلق مجالات حيوية من التبادل بين البنى اللغوية، والبنى الأخرى المحيطة، ولا سيما في محيط المتعلم على مستويي: التمثيل والتفاعلين الحضاري والثقافي، ومن هذا المنطلق فقد أشار الفيلسوف جون ديوي إلى أثر التحولات الاجتماعية والحضارية، وعلى ضرورة أن تتبع المؤسسة التعليمية ما يستجد من تغيرات تطال البنى الاجتماعية داعياً إلى أهمية النظر أولاً في أوجه الحركة الاجتماعية، ومن ثم النظر في دور المؤسسة التعليمية في هذا المجال (ديوي)اللغة العربية على مستوى التلقي تواجه أزمة في المنظومة الثقافية العربية، خاصة من حيث التمثيل السلبي الذي يتمظهر بعزوف الأجيال الناشئة عن التعاطي مع العربية، وتعلمها، فإذا كانت العربية مجالاً ملزماً في معظم دوائر التعليم المدرسي الإلزامي في العالم العربي، إلا إنها على مستوى الاختيار تواجه معضلة، ولاسيما بوصفها تخصصاً جامعياً، فمعظم من يتخصص باللغة العربية من الطلاب يدفعون لدراستها دفعا نظراً لعدم توفر البعض على خيارات أخرى، في حين أن بعض الدول تشهد أزمة حقيقية، نظراً لقلة الراغبين بدراسة اللغة العربية، ناهيك عن تراجع الكفايات اللغوية للطلاب، سواء أكان في المرحلة الابتدائية، أو الثانوية، ما سبق يحضر في ظل تحديات تتمثل بعدم جاذبية المحتوى، وكآبة عملية التعلم والتعليم، بالتراصف مع هيمنة التقنيات الرقمية، وسيطرتها على أذهان النشء. لا بد من الإشارة إلى أن سبب نفور المتعلمين للتعاطي مع اللغة بوصفها مجالاً حيوياً، يعود إلى الإشكالية التي تكمن في الصورة الشائعة «التمثيل السلبي» للغة العربية حيث ينظر لها على أنها لغة تقليدية، لا ترتبط بأفق مستقبلي وظيفي، وهذا مخالف لجميع التصورات والتنبوءات المستقبلية التي نهضت بها دراسات جادة، ومنها دراسة نيقولاس أوستلر أحد أبرز مؤرخي اللغات. لعل ما سبق يضعنا أمام تساؤلات ذات وجاهة منها ما يتعلق بالطبيعة الثقافية، والحضارية للغة العربية، وهذا ما يقودنا إلى ضرورة البحث عن عوامل هذا التكوين، والتمثيل السلبي للغة العربية، بالتوازي مع أهمية البحث عن خلق مقاربات جديدة لتعلم اللغة العربية، ولاسيما في المؤسسات الأكاديمية، وهنا نقترح الصيغة الحضارية، والثقافية من منطلق أن معظم المتعلمين الذين ينتمون إلى الثقافة العربية يواجهون أزمة ثقافية حضارية تتعلق بلغتهم التي باتت تتحول شيئا فشيئا إلى نمط اغترابي نظراً لعدم قدرة متعلمي اللغة على إدراك الجوانب الثقافية والحضارية للغتهم، وتحديداً في ظل العولمة وتداعياتها. غير أن المفارقة تكمن بأن معظم الدراسات والبحوث التي سعت لمعالجة «أزمة اللغة» كانت تنطلق من التصورات البيداغوجية «والأداتية» لمواجهة العولمة، وذوبان الهوية، في حين أن العكس هو الذي ينبغي أن يكون حيث ينبغي أن ننطلق من تفعيل القيم الثقافية والحضارية. وإذا ما نظرنا إلى العالم العربي في وقتنا الراهن، فسنجد أن الفعل الحضاري في عملية تراجع، على أكثر من مستوى، فليس هنالك ما يمكن أن نعدّه إنجازاً معرفياً، وهذا مما ينعكس على الإنتاج الخطابي اللغوي، كون اللغة العربية معطلة حضارياً، فهي لا تمتلك إنتاجاً معرفياً معاصراً يمثل قيمة حقيقية، وهذا ما ينعكس على التعاطي مع اللغة حيث ينظر باعتبارها لغة غير منتجة، أو خاملة، وهذا يحيلنا إلى سؤال محوري حول ما الذي يجعل لغة ما قابلة للتعلم؟ لا شك أن الإشارة تتمثل بأهمية توفر بيئة مستقرة، ونعني المجتمع المحيط بالمتعلم الناطق باللغة المعنية (أوستلر)، وهذا ما لا يتوفر في مجتمعاتنا يومياً، ويكاد يشمل في كافة مناحي الحياة المجتمعية، وتحديداً في الإعلام، والمدرسة، والشارع، ومن هنا، نقترح استراتيجيتين، هما:
1ـ تبني مقاربة جديدة لتعلم اللغة العربية عبر الدعوة إلى الاستفادة من المنتج الحضاري العربي التاريخي المشرق، المتسامح، لا السلبي الدموي، طبعاً مع استثمار المدخرات الحضارية المعاصرة، وتشكيلها في وعي المتعلم من أجل نفي الصّورة السلبية عن اللغة العربية، وتحديداً في أذهان المتعلمين.
2ـ تفعيل ونبذ كافة الإقصاءات التي تعبر عن ضيق أفق اللغة العربية، وارتباطها بمعطيات تحيزية، كتغليب منظور ثقافي أو حضاري على منظور آخر تبعاً لعوامل سياسية، أو طائفية أو دينية، وهذا ما يمكن نعته بديمقراطية اللغة.
وفي الختام لا بد للغة من أن تنحاز إلى الطابع الإنساني الجمالي، بالتجاور مع المحافظة على منظومة من القيم والمعتقدات الدينية والقومية، ولكن من دون أن تتحول الثانية إلى عوامل نزع لمصداقية اللغة وواقعيتها، مما يعطل الجوانب الحضارية والإنسانية والجمالية، ما يؤدي بدوره إلى جفاء لغوي يتحصل بين اللغة والمتعلم، والذي يرفض اللغة لكونها تمارس دوراً غير حقيقي، أو لكونها تسعى إلى نمذجة تفكير مسبق، أو مؤدلج، فما الأثر الثقافي في التعليم سوى حاجة إنسانية، فحين يكون المتعلم منسجماً مع التكوين، أو الفضاء الثقافي الخاص به، فإنه سوف يستشعر الراحة، والرضى والقبول النفسي عن ذاته، ولغته، ولعل هذه الخصيصة من أهم خصائص الثقافة، كما يشير علماء التربية.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

ملحق العدالة

استبيان

الطقس في بغداد

بغداد
23°
36°
Mon
35°
Tue
الافتتاحية