Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

الحداثة وعنف تبادل الإقصاء

الحداثة وعنف تبادل الإقصاء
ادب وثقافة - رشيد المومني - 4:55 - 04/10/2015 - عدد القراء : 956

تطمئن الحداثة إلى تربعها الدرجة الأكثر علوا في سلم العنف، وذلك عبر شحن منتوجها بأكبر نسبة ممكنة من الإثارة، والغرابة والغواية، وهي خصائص تمتلك طاقة كهربائية صاعقة، تسفر عن حضورها فور حدوث أي تماس بينها وبين الذوات التي لا يشاطرها القناعة نفسها. وليست القناعة هنا سوى تعبير عن ضرورة امتلاك الحد الأدنى من الأهلية التي تسمح لها بفتح حوار يقيها حرائق هذه السلط.الحداثة من هذا المنطلق، ومن جهة توجهها للبنيات الذهنية الهشة التي لا يمتلك تلقيها ما يكفي من الأدوات، الكفيلة باستيعاب عنف هذا المنتوج، تتحول إلى حداثة عدوانية وعنيفة وخادعة، من جهة أن أحد المصادر الفعلية للعدوانية، هو المتلقي العاجز عن التعرف والفهم والتأويل والتواصل. عجز يتسبب في غير قليل من الصدامات التي غالبا ما تؤول بالعدوانية العمياء المتحكمة في حركية الحداثة، لذلك فإن هذا العجز، لا يكف عن تأليب الآخرين على عدوانية المنتوج. إنه يسقط عليه مجموع ما يعانيه من عيوب وعاهات، كما يحمله المسؤولية الفعلية عن كل ما يصاب به من أعطاب وخسارات. من هنا يمكن القول إن الرعب الكبير الذي تعيشه الحداثة ناتج حتما عن توجسها من خطورة التهديد الخارجي، الذي يتمثل في ذلك المتلقي العاجز عن تلقي ما يبثه منتوجها/منتوجاتها من خطابات، والقادر على هدم آلياتها من خلال توظيفه لما أبدعته وتبدعه تباعا من تقنيات، متشبثا بخصوصية هذا الهدم المشروع، باعتبار أنها خصوصية تمكنه من صلاحية توظيف هذه التقنية الحداثية التي تعود نسبة كبيرة من ملكيتها إلى ثوراته المنهوبة، وإلى كفاءاته المهربة، وإلى المخططات الاحترازية التي وضعها المركز، من أجل اتقاء شروره المرتقبة، أو المحتملة.ومع ذلك فإن كل ما يحدث حقا، هو ما يحدث في المركز، ولا شيء عداه، هكذا يعتقد مدجنو الحداثة المركزية، كصيغة ممكنة للتبرؤ من العدوانية المضادة التي تتسلح بها مداراتهم المسدودة، رغم تورطهم في الانتماء إليها جغرافيا وإثنيا. إن ما يحدث خارج المركز في عرفهم يحدث خارج التاريخ، وخارج الشاشة، وخارج الإشكاليات الكونية الكبرى التي تشتغل بها الحداثة. وبالتالي فإن كل الحروب الدائرة في باقي أقاليم الكون، مجرد حكايات رديئة خالية من جمالية السرد ومن جمالية البناء. كل الجنائز وكل القتلى ينتمون إلى حكي غير جدير بالإنصات. إن ما هو جدير بالإنصات، هو صوت انكسار الكأس التي أوقعها ذيل سحلية آلية في ليل المركز الرهيب. أما ما عدا ذلك من تطهيرات عرقية، وإبادات عشوائية بالجملة، فإنها تشتغل وبلؤم متطور داخل مدار آخر لا صلة له بمدارات مراكز الحداثة، الذي أمسى قابلا لاستثمار واحد فقط، هو المتعلق بالتجارب المتعددة الاختصاصات، والمداراة بتوجيه مباشر من الحداثة المركزية في تلك المختبرات المزروعة على جنبات حدائقه السرية، كي تتم برمجته في نهاية المطاف خارج مدونات التاريخ والإبداع والحضارة، وخارج أي كينونة محايثة ذات أفق كوني.ومن البديهي أن ضراوة هذا الصدام تزداد تصاعدا، في الفضاءات المأهولة بالذهنيات ذات التوجهات المحافظة، خاصة منها المنتمية إلى تلك الأنساق المغلقة على يوتوبياتها، حيث ما من استعداد للانفتاح على أي نسق مغاير. في هذا السياق سيتعذر على الحداثة أن ترقى إلى ما تطمح أن تكونه، كما سيتعذر عليها أن تنتقل إلى «ما بعدها» أو ما قبلها. إنها وبفعل تخبطها في مدار مسدود ومعتم المكتظة بخطابات هذه الذهنيات، تساهم في إنتاج واقع هجين وممسوخ. وهو الواقع ذاته الذي تتغلغل فيه العلاقات الانتهازية، بجميع ما تطوله نزوعاتها من تواطؤ وكيد، يكيل دونما هوادة بجميع أشكال المكاييل المتاحة والمحظورة، سواء للذات أو للآخر. واقع هو بمثابة حيز مغلق على توافقات مرحلية مشبوهة وملتوية، ولكن دائما على قاعدة الادعاء بالانتماء إلى روح الحداثة وفكرها!في هذا الإطار تنتصب الحاجة الملحة إلى مقاربات/أصوات/ خطاطات نقدية شرسة، كفيلة بتشخيص أعطاب البنى الذهنية لهؤلاء المرابطين في عمق مداراتهم المسدودة، وكذا تشخيص خلفيات ظاهرة العجز العام والتام، عن تحقيق الحد الأدنى من الانخراط في سيرورة ثقافية وحضارية فعلية، وهو أمر سيظل جد مستبعد على الأقل لعقود وعقود، في ظل غياب ما يوحي باحتمال تشخيص موضوعي وعقلاني لهذا العجز، وبفعل تفاقم البؤس الحضاري والثقافي الذي يحتل المشهد بثقة منقطعة النظير، وبتزكية من القيمين على هيمنة ظلاميته.ومن المؤكد أن مصدر الغياب التام لشروط التواصل بين تجليات الحداثة وبين الهؤلاء، يعود إلى انعدام مجموع تلك المكونات الفاعلة في النهوض بالشرط العقلاني، الشيء الذي يتسبب في وقوع احتباس ثقافي معرفي واجتماعي حاد، يبطل إمكانية الوعي بحضور ظاهرة حضارية ما، تحمل اسم الحداثة. علما بأن الذهنيات التقليدوية لا تمتلك ما يكفي من الشجاعة للاعتراف ببؤسها الثقافي والحضاري، مادامت تعاني من عقدة الإحساس بكمال ذي طبيعة «سماوية» منزهة عن كل نقصان! وهي عاهة ينتفي معها حضور إواليات النقد الذاتي، الذي تعتبر في حكم هؤلاء، شكلا من أشكال التعري، الجدير برجم دُعاته ماديا ورمزيا.إن هذه الرؤية المصابة بجرثومة كمالٍ يتعذر إخضاعه لأي نوع من أنواع الاختبارات، والمستمدة من مرجعيات حديدية لا تسمح بوقوع أي اختراق محتمل، تتحول إلى عبء حقيقي على التاريخ، وعلى كل ممارسة إبداعية متحررة من ثقل قيودها. إنها رؤية تتولى حراسة إقامات بدون تلك المداخل التي يمكن أن يتسرب إلى رحابها ما يشبه الضوء. رؤية ذوات مشمولة بوهم كمالها، تحيلنا رأسا على وهم امتلاك كرامات وخوارق، يتحول هوس الحفاظ عليها إلى مطلب جوهري، قابل لأن يُضَحَّى بكل شيء من أجله، ولو كان شعبا كاملا بقضه وقضيضه، على حساب توطن مخلوقات الجهل والأمية والحضارة.إن الرؤية ذاتها تتقوى بمنجز الحداثة قي شقه التقني، الذي توظفه ذهنيات المدارات المسدودة، من أجل الإطاحة بما اهتدى المنجز إلى إنشائه، وإخضاع هندسته المتطورة والافتراضية لتحويرات قريبة الشبه بمضارب الخيام، بالاستفادة من خاصية التعميم التي أصبحت إحدى أهم خاصيات الحداثة، حيث يشمل فعل التداول كلا من البنيات الذهنية المتطورة، والبنيات الذهنية المتخلفة على حد سواء، وهو ما يؤدي إلى تأجيج ذلك الصراع المرير القائم بين الذهنيتين، عبر استثمارهما المشترك لما ينتجه سوق الحداثة من تقنيات، في أفق اعتمادها كأداة لتبادل الإلغاء والإقصاء، إلا أن الطرفين معا، ورغم تعارض رؤيتيهما، فإنهما يتطابقان في استحالة إقناعهما بأي أرضية ممكنة للتواصل، ذلك أنهما معا، يوجدان خارج ميثاق القناعات المشتركة، حيث يحتكم كل منهما إلى منظومته الفكرية المنغلقة على منطقها الخاص في الاستدلال والاستنتاج، والافتاء بالقتل أو بالإحياء. وهي قناعات قد تكون ربما منسجمة مع ذاتها، ومع منطق اشتغالها الخاص بها، كلما اختلت بذاتها في غرفها المغلقة، وكلما اقتصرت في تفاعلاتها على تغطية هوامشها النائية بأسئلتها عن فضاءات الغير. غير أنها وبمجرد الإعلان عن حضورها في الفضاءات العامة، وشروعها في توسيع هوامشها الضيقة، فإنها لا تلبث أن تفقد صلاحيتها، وتتحول إلى دعوة مباشرة لإعلان حرب مفتوحة على كل احتمالاتها التدميرية.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

ملحق العدالة

mulhaq-preview

استبيان

الطقس في بغداد

بغداد
25°
33°
Thu
36°
Fri
الافتتاحية