Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

النقاء الثقافي.. شرفةُ العقلانيين

النقاء الثقافي.. شرفةُ العقلانيين
ادب وثقافة - ياسر اسكيف - 0:16 - 29/03/2016 - عدد القراء : 2024

آخر العقلانيين العرب. وصفهُ البعض بهذا. وربّما كان هذا البعض يقصد بذلك آخر المثقفين العقلانيين الذين تركوا أثرا لا يمكن إغماض العين عنه في ثقافتنا العربية. إنه المُفكر السوري الحلبي (المسيحي) جورج طرابيشي (1939ـ2016) الذي بدأ، كما بات الجميع يعرف، بعثيّاً، ثمّ وجوديّاً، فماركسيّاً، وانتهى مُثقفاً خالصاً، يضع بينه وبين الأيديولوجيا مساحة أمان كافية لعدم الوقوع في فخ الدوغمائية والبراغماتية الذي وقع فيه أغلب المثقفين العرب.من نقد الرواية، مُستخدماً منهج علم النفس، إلى سلسلة «نقد نقد العقل العربي» التي جاءت في أربعة أجزاء بدأت بـ «نظرية العقل العربي» وانتهت بـ «العقل المستقيل في الإسلام» مسيرة امتدّت لأربعة عقود، وأثمرت مئات الكتب، تأليفاً وترجمةً، دأب (طرابيشي) على ترك مساحة الأمان تلك. وهو يرى في انتقالاته تلك نوعاً من التراكم والتجاوز إذ (كان تراكماً معرفيّا ونقديا في آن واحد. حوار مع حسين بن حمزة 2009) وكان عندما يشعر بأن الفكر الذي يتبناه لم يعد يعطيه القدرة على تفسير ما نحن عليه فإنه يتجاوزه.غير أن الحذر من الوقوع في فخ الأيديولوجيا، هو بحدّ ذاته نوع خاص من الأيديولوجيا، فالثقافة المحضة، مهما كانت مُصانة بالعقلانية، هي أيضا في النهاية موقف، أو مواقف من العالم. ولا يغيّر في هذا الأمر شيئا أن تكون المعركة ثقافية بالنسبة للمثقف. ذلك أن (طرابيشي) كأنما يختصر الأيديولوجيا بالموقف السياسي: «أنا لست مناضلا على الصعيد السياسي أو الحزبي. بالنسبة لي المعركة ثقافية» ويكرّر: «معركتي ليست مع الجمهور العريض. أنا أعمل على مستوى النخبة الثقافية وأتوجه إليها» وهذا ما جعل الإجابة عن الأسئلة التي يؤسس عليها دراساته وأبحاثه شبه غائبة. ليس لأنه لا يمتلك إجابات على الكثير من المسائل التي تثيره كأسئلة، بل حفاظاً على مساحة الحذر. وحتى في حواره النقدي مع مشروع «محمد عابد الجابري» كان حذره واضحاً حينما يتوقف دوما عند التصويب وإعادة الحفر بالطريقة التي يراها أكثر أمانةً ودقة، وهو بهذا يستخدم قانون نفي النفي (نقد النقد) ليشير إلى المغالطات الجوهرية التي يرى أن الجابري قد وقع بها. وأهمها على الإطلاق، إذ كانت سبب الطلاق بينهما، التزوير وانتزاع النصوص من السياق، التي قام بها (الجابري) في ما يخص «رسائل إخوان الصفا» ليؤكد رفضهم للمنطق.
لقاء ثقافي
لقد وجد (طرابيشي) مأمنه الذي يبقي على نقائه الثقافي، وعدم انحراف مشروعة نحو الأدلجة في البحث التراثي، محاولا إيجاد إجابة عن السؤال القديم الجديد: «لماذا تقدّم الغرب وتخلّف العرب؟» وكأنما قد وجد جوابا عن هذا السؤال المُعضلة يفيد بأن عطالة العقل العربي الإسلامي لم تكن بسبب غزوة خارجية من قبل الغنوصية والهرمسية والأفلاطونية المُحدثة بطبعتها المشرقيّة، كما علّل (الجابري)، إنما يعود السبب إلى الانقلاب السني (من سُنّة) الذي تمثّل بتحوّل الحديث النبوي إلى قرآن بعد القرآن، بل حتى قرآنا قبل القرآن في بعض الحالات المُتطرفة. كما يؤكد في حواره مع رشا الأطرش (صحيفة السفير 23-7-2010) وهو بهذا حدّد موقفاً واضحاً في رفضه للإسلام التاريخي وانحيازه إلى إسلام النص. فهذا الإسلام التاريخي هو الذي جعل من النص نصوصاً عبر إحلاله الحديث كنصّ مواز، أو بديلا لدى بعض الفقهاء ومؤسسي المذاهب.
ولأن مجموعة هذه النصوص هي التي تشكّل التراث الإسلامي، إضافة إلى القرآن والحديث، فكيف يُفهم تأكيد (طرابيشي) رفض الانتقائية في النظر إلى التراث، واعتباره كلاً واحداً يجب الأخذ به، إذ لا يجوز برأيه «تقسيم التراث إلى قسم قابل للإحياء، وآخر ينبغي أن يموت. أو تراث تقدمي وآخر رجعي»؟! وقوله هذا يستحض إلى الأذهان عدداً من الكتب التي تصدّت لدراسة التراث «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلاميّة» لحسين مروّة، و «اليمين واليسار في الإسلام» لأحمد عبّاس صالح، وأهمها على الإطلاق «الثابت والمتحوّل» لأدونيس. حيث انطوت هذه الأعمال، عبر جهدها البحثي، على رأي مختلف ومغاير، وبيّنت أن الكثير من التراث الإسلامي يحمل موته في بنيته، ولا مجال لإحيائه أبدا.غير أن طرابيشي، رغم إقراره في أكثر من مكان، بأن الإسلام المعيش هو الإسلام التاريخي الفقهي، وان الحروب الإسلامية – إسلامية هي نتيجة هذه التاريخيّة، فإنه يصرّ على عدم الانتقائية في التعاطي مع التراث. الأمر الذي يبدو كأنه تناقض ما في المنهج البحثي الذي عمل به طوال عقدين من الزمن. لكن نظرة الشك هذه ستزول مباشرة عند من يطلع على المرتكز البحثي الأساس لديه، ألا وهو الثقافي المحض، بل التشخيصي الوصفي، الذي يتجلى في الحفر والتنقيب، ومن ثمّ العرض. شأنه في ذلك شأن المُنقّب الأثري. فالتعاطي اللا إنتقائي مع التراث لا يصح ولا يستقيم عند من يبحث في هذا التراث من موقع الباحث عن التغيير وفق نظريات مُسبقة، أي الباحث القادم من ناحية فكرية انقلابية، أو تغييرية. إنما فقط مع الباحث الذي لا يعني في بحثه سوى الإضافة الثقافية، ومراكمة تراث على التراث.وفي الانتقال إلى الراهن العربي تتأكد عقلانية (جورج طرابيشي) وتتعزّز، منطلقاً في موقفه هذا من أن الأيديولوجي ليس لديه قدرة على حوار حقيقي. وبأن الثقافي أسمى من المُقايضة على الجماهيرية والشعبية. وبالتالي لم يحذ حذو المثقفين العرب الآخرين الذين سارعوا، من باب التعطّش إلى الكسب الجماهيري، إلى التشدّد في المواقف الثورجية، وادعاء القطبية في التأثير والقيادة، كما الانقلاب على المواقف، إن لم نقل المبادئ. ولم يُفرّط أبدا بمساحة الأمان النقدية والأخلاقية التي منحها لنفسه ولمشروعه، والتي بدت ممحوّة وملغاة عند أغلب المثقفين العرب.
مراقب
إن (طرابيشي) لم يستكبر على الجماهير العربية حراكها وانتفاضاتها، بل أكّد، وأعاد التأكيد، أن السلطات العربية جميعاً قد أغلقت كلّ منفذ على التغيير، وبات من الطبيعي أن تنتفض هذه الجماهير مُطالبة بحقوقها، وساعية إلى حياة أفضل. لكنّ ريبة ما كانت تساوره، كمُراقب، وليس كفاعل، مثلما ادعى غيره من المثقفين، حول مرجعيات وتوجهات هذه الانتفاضات. فتسميته لما جرى بالانتفاضات بديلاً من الثورات، كما سُمّيت، يمتلك مُبرر الدفاع عن نفسه، حيث إن «الانتفاضات من شأنها أن تسقط أنظمة» كما حدث في أكثر من بلد عربي «أما الثورات فليست مهمتها إسقاط أنظمة فقط، بل بناء أنظمة جديدة تتجاوزها وتتقدّم عليها» (من حواره مع عصام الشيدي – مجلة شرفات العُمانية ـ نيسان 2013) وهذا ما لم يحدث أبداً في أي بلد من البلدان التي سقطت أنظمتها. إذ إن الذي حصل بعد إسقاط الأنظمة هو استرداد أيديولوجي لهذه الانتفاضات. فلأول مرّة، كما يرى (طرابيشي)، تنجح التكنولوجيا في إسقاط الأيديولوجيا، لكنّ هذه التكنولوجيا، عبر قنواتها ذات التأثير الهائل، بدأت تُعيد توريد الأيديولوجيا من جديد، ولكن أيديولوجيا بديلة من أيديولوجيا الأنظمة الساقطة.ولأنه السوري، والأقرب يوماً إلى علامتين فارقتين في الثقافة السورية هما (ياسين الحافظ) و(الياس مرقص)، ولما لهذا القُرب من إشارة إلى الاختلاف والتميّز، فإن لموقف طرابيشي، الذي لم يُخيّب أمل من اختبر عقلانية مشروعه الفكري، من انتفاضة الشعب السوري أهمية تتأتى من كمّ التبصر العقلاني، أسوة بمواقف مثقفين آخرين هرعوا إلى الاصطفاف مباشرة في غير مواقعهم، وهم في ثياب النوم. إنه في العام يرى الانسداد والانغلاق ذاته في أفق التغيير الذي كرّسته الأنظمة العربية، وفي الخاص يتبنى الموقف الذي يرى بأن (السلطة) قد ابتلعت (الدولة) وباتت السلطة، بطريقة ما، ضد الدولة. وهذا ما يشكل الخطر الأكبر على الداخل السوري، إذ إن التشكيلة الاجتماعية السورية تختلف عن غيرها من التشكيلات في المنطقة العربية. وغياب الدولة سيقود، من دون شك، إلى حروب أهلية. وهذا ما غاب عن مُثقفين آخرين عطّلوا حدسهم وبصيرتهم، وباتوا يتحدثون عن إسقاط النظام على أنه ليس الدولة في الحالة السورية، ومن ثمّ، في حال كان من أسقطه، وهو المؤكد أن سقط، قوى لا ديموقراطية، يبدأون ثورتهم الديموقراطية. وهم من أجل هذا الإسقاط قد غضّوا الطرف، في تحالفاتهم، عن الدم السوري النازف. فيما كان طرابيشي يردّد «بالفعل نبكي فرحاً لسقوط هذه الأنظمة، ولكن قد نبكي حزناً للأنظمة التي ستحلُّ محلّها» (من حواره مع عصام الشيدي).
(كاتب سوري)

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

ملحق العدالة

mulhaq-preview

استبيان

الطقس في بغداد

بغداد
23°
36°
Fri
37°
Sat
الافتتاحية