أدباء عرب: نهضتنا لا تتحقق إلا بشروط… مستحيلة
منذ منتصف القرن التاسع عشر بدأ مفكرون وكتاب عرب بالاشتغال على مفاهيم عدَّة، من أولها ثنائيات الحرية والاستعباد، والعلم والميتافيزيقا، وغيرهما الكثير من الثنائيات، التي كانت نتيجة لما كان يعيشه العالم العربي من فقر وجهل واحتلال وغير ذلك، فبرز فرنسيس فتح الله مراش، واخته ديانا، وفارس الشدياق، والكواكبي وغيرهم مما يصعب عدَّهم، حتى أن الكاتب عبد الله إبراهيم يورد صدور أكثر من 300 رواية منذ عام 1850 وحتى عام 1913، وهو العام الذي صدرت فيه رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل، وكانت من هذه الروايات الـ300 أكثر من 140 رواية مكتوبة من قبل مؤلفين عرب، في حين صدرت أكثر من 160 رواية مترجمة حتى ذلك الحين.. إضافة إلى كتب في العلوم والتحرر والفقه والفلسفة.فإذا كانت العقلية العربية تمكنــــت من فك أسرها لتنتج عصراً ذهبياً عرف بعصر النهضة أو التــــنوير العـــربي قبل أكثر من قرن، على الرغم من الأوضاع الســـياســـية والاجتماعية والاقتصــــادية حينــــها، فهـــل يمكن للعرب أن يؤسسوا لعصر نهضة جديد في ظل ما وصل إليه وعينا؟
اشتراطات النهضة الجديدة
يؤكد محمد صالح بن عمر أن هذه القضيّة قديمة جديدة، ولن يتوقّف العرب عن إثارتها في السّنين المقبلة، لأن لا شيء ينبئ بأنّ خروجهم من الأزمة الحضارية التي يتخبطون فيها منذ قرون والتي تزداد تفاقماً يوماً بعد يوم قريب، وذلك بالنّظر إلى ما نراه ونعيشه من تناحر داخليّ واسع النطاق وتعطّل لدواليب الاقتصاد وتوقّف لعجلة النّموّ والغياب شبه الكليّ للبحث العلميّ في الميادين التّقنية خاصّة والتّبعيّة المطلقة للغرب على جميع المستويات وتصدّع الصفّ العربيّ لأسباب آيديولوجيّة أو حتّى لعداوات شخصيّة بين الحكّام.
مضيفاً: قلتَ إن العرب قبل أكثر من قرن تمكّنوا من إنتاج عصر ذهبيّ عُرف بـ»عصر التّنوير» أو»عصر النهضة». كلامك هذا صحيح من النّاحية النّظريّة فحسب، لأنّ الغرب ما أن تفطّن إلى وعي العرب بأوضاعهم ورغبتهم في النّهوض من كبوتهم وتطلّعهم إلى ردم الهوّة السحيقة التي تفصلهم عنه حتّى سارع إلى تسليط نكبة الاستعمار عليهم، لابتزاز ثرواتهم ونزع زمام المبادرة من أيديهم، ثمّ حين اضطر بعد ذلك ببضعة عقود إلى منحهم استقلالهم، امتثالاً للقرار الأمميّ الذي صدر بعد انتهاء الحرب العالميّة الثّانية وقضى بإعلان حقّ كلّ الشعوب في تقرير مصيرها حوّل استعماره المباشر لهم إلى استعمار اقتصاديّ، مبقياً إياهم خاضعين له تكنولوجياً وعسكرياً ومواصلاً ابتزاز ثرواتهم بالتحكّم في أسعار موادّهم الأولية. وهو الوضع الذي ما يزال سائداً إلى اليوم.«هذه هي الحقيقة. فقد أخفق الفكر العربيّ، منذ أكثر من قرنين؛ أي منذ حملة نابليون بونابرت على مصر، وتفطّن العرب إلى الهوّة التي تفصلهم عن الغرب المتقدّم، في تصوّر حلول تمكّن هذه الأمّة من اللّحاق به أو حتّى الاقتراب منه، وذلك بالانتقال إلى مرحلة الاكتفاء الذّاتي وقطع دابر البطالة والفقر والمرض والجهل والأميّة والإسهام في إغناء الحضارة الإنسانيّة المعاصرة بالاكتشافات والاختراعات العلميّة والتّقنية. والحال أن تحقيق هذه الأهداف ليس بالمستحيل… فقد توصّلت إلى تحقيقها بلدان لم يكن لها حتّى عهد قريب حظّ من العلوم والصّناعات الحديثة، مثل روسيا والصّين اللّتين كانتا بلدين زراعيّين تقليديّين، بل حققّتها اليابان على الرّغم من أنها دُمّرت تدميراً كاملاً بالقنابل النّوويّة في الحرب العالميّة الثّانية».ويحدد بن عمر شروط ارتقاء العرب للدول التي نهضت بعد كبوات كثيرة، منها:
– الانخراط الفعليّ في الكونيّة. وذلك بتبنّي المثل العليا التي يتعلّق بها المجتمع الدوليّ وفي مقدّمتها حقوق الإنسان وحريّة المرأة والتّسامح والإخاء بين كلّ البشر على اختلاف أجناسهم ومعتقداتهم. وهو ما يقتضى الكفّ نهائيّاً عن ممارسة الإرهاب الذي جعل صورة العربي لدى الشعوب المتقدمة تقترن بالتوحّش والإجرام.
– تغيير رؤية العرب لجهاز الدّولة من أداة لبثّ آيديولوجيّا معيّنة وفرضها على كلّ فئات المجتمع إلى جهاز إداريّ تتحدّد وظيفته في تسيير شؤون البلاد وحلّ مشكلات النّاس اليوميّة، من دون التدخّل في قناعاتهم الفكريّة واختياراتهم السّياسيّة، والاقتناع بأنّ هذا الدّور لا يستطيع الاضطلاع به على أحسن وجه إلاّ أصحاب الكفاءات العالية من علماء وخبراء ومهندسين وتقنيّين وفنّانين من كلّ التخصّصات.
– الإعلاء من قيمة العمل وغرسها في العقول والنّفوس إلى حدّ تحويلها إلى عقيدة راسخة، مع استثمار كلّ الطاقات البشريّة المتوفّرة في البناء والتّشييد.
– الإنفاق الكافي على البحث العلميّ وتشجيع القائمين به وتوجيه الشّباب الموهوب إلى التّخصص في مختلف مسالكه.
– تشجيع المبدعين في جميع الفنون والآداب، إذ لا نهضة حقيقيّة من دون نهضة فكريّة وفنيّة.
– النّسج على منوال الاتّحاد الأوروبيّ الذي استطاع أن يجمع شمل كلّ شعوب القارّة العجوز والتّقريب بينها بتوحيد العُمْلة وإزالة الحواجز الجمركيّة وتكثيف الشّراكة في جميع ميادين النّشاط البشريّ.
نخب معطلة
يتساءل الناقد والأكاديمي العراقي ذياب الطائي، قائلاً: هل يمكن للعرب أن يؤسسوا لعصر نهضة جديد في ظل ما وصل إليه وعينا؟ موضحاً: يفترض هذا التساؤل مسلمة أساسية، هي أن العرب قد حققوا نهضة تنويرية قبل قرن ونصف القرن، تمثلت في مجموعة من الكتاب والمفكرين، وإن الوعي المتحقق اليوم يمكن أن نؤسس عليه نهضة تنويرية جديدة.
ويشير إلى أن عصر النهضة الأوروبية لم يقف عند إنتاج المفكرين، وإنما تعداه إلى بناء نظم سياسية واجتماعية وثقافية، كان من نتائجه ما نراه اليوم في كل مناحي الحياة الأوروبية، أما في البلاد العربية فقد أنتج نظماً مشوهة عملت منذ استلامها السلطة على عدم الالتزام بمنهج جاد يعمل على التطوير والتحديث، وكرست كل مظاهر السلطة لتعزيز مكانتها، وكان من نتائج ذلك إنتاج وعي متخلف لضمان عزل الجماهير عن المشاركة والمطالبة بالتطوير… من هنا فإن الثقافة الجمعية التي صنعتها الكيانات السياسية، سادها ما يعرف بالثوابت السلفية، فضلاً عن القمع الذي تعرضت له مجموعة المفكرين والتنويريين، مما تولد عنه وعي متخلف كان شعاره (القائد الضرورة) أو حينما يقول القائد، يقول الشعب، وهذا يعني في المحصلة، أن النخب العربية عجزت عن إنتاج فكر «جديد» ومؤثر في المجتمع العربي، يدفع إلى الأخذ بالدخول في حركة التاريخ كعنصر فاعل.وبحسب الطائي، فإن مثل هذا الوعي لا يمكن أن يقود المجتمع العربي إلى نهضة تنويرية جديدة، بل إلى أشكال، ربما أكثر وحشية مما جاء به الربيع العربي، ولهذا فإن المهمة الأساسية: هي عمل النخب المثقفة على تغيير هذا النمط من الوعي إلى نمط آخر يكون جزءاً من حركة التاريخ الإنساني، ويحمل في مضامينه القدرة على التحليل والبحث في إطار فلسفة اجتماعية تؤمن بالتقدم، ليكون قادراً على استيعاب متغيرات الحياة الجديدة، حينها يمكن الحديث عن نهضة تنويرية جديدة..
أمل الحياة
الناقد البحريني جعفر حسن يبين أنه لعل من المفيد أن نعيد التساؤل حول هل فعلاً فكت العقلية العربية أسرها لتنتج عصراً ذهبياً؟ لعله تساؤل مشروع عندما نتلمس أوجاع خاصرتنا العربية الجريحة في كل مكان، تبدو الظلمة شاسعة من مشرق العرب إلى مغاربهم، تتناهبنا العقلية الطائفية والقبلية والمناطقية قتلاً وتشريداً واعتقالاً… مؤكداً أن دولنا تعمل على تدمير المستقبل لذلك لم نستطع البناء على ما أنجز، ليقبع الجميع في سكونية الحاضر المتشبه بالماضي السحيق، والتوقع أن ما سيتحرك في الأيام المقبلة هو الظلام على مستوى الانهيار، بعد قتل الإنسان لا تعود قيمه مهمة، نعم هناك مفكرون كثر، هناك مناضلون من أجل المستقبل وهم كثر أيضاً، وهناك من يضع يده في أياد غريبة لنتشتت أيادي سبأ.ويضيف أنه يبدو أننا ارتكبنا خطيئة لا تغتفر في التعليم خلال الأربعة عقود الماضية، هي التي أنتجت لنا عقلية «داعش» و»القاعدة» وأخواتهما، كما أضعنا بوصلة فلسطين، وصرنا يقتل كل واحد منا الآخر. فإذا كان هناك أمل، فيجب إعادة صياغة العملية التعليمية بالكامل لخلق إنسان جديد على عموم الوطن العربي، قادر على التجاوز عبر خلق نمط من التفكير الناقد، واعتماد استراتيجية حل المشكلات، ورفع قيمة العمل الإنتاجي، وتوجيه الطاقات نحو خلق مواصلات رخيصة وصناعة وربط البلد وأسواقه.ويوضح حسن أن المجتمع القائم الآن هو مجتمع فاسد، والفاسد يطلب المفسدين، وقد خلقنا نسخاً من الإيمان قابلة للتناقض المضحك المبكي بعض الأحيان، لنحاول النظر إلى قيمة الشرف عندنا، الكرامة، العزة، أوّلها بقى معلقاً بكبت المرأة، والثانية والثالثة ذهبت أدراج الرياح، هناك قوى داخل المجتمع يعول عليها للتطلع نحو المستقبل، مع الأسف نجد أن شريحة المثقفين تنقسم على نفسها لدرجة التفتت، تغييب المثقف وصوته، يغيب صوت العقل، ويفشي الجهل، ولا يترك خياراً للحركة نحو المستقبل… هناك أمل نعم، من يستطيع العيش بدون أمل!؟ أما الكاتبة المصرية دينا نبيل فتشير إلى أن العقلية العربية تمثّل مؤرقاً كبيراً في ظل الأزمات التي كانت تواجه الوطن العربي منذ أكثر من قرن وحتى الآن. فحينما كانت أمتنا العربية ترسف تحت نير الاستعمار، تمكنت من إفراز عباقرة أثروا الفكر والثقافة العربية أمثال، العقاد وطه حسين والمازني. والمطالع للأحوال الثقافية والفكرية يلحظ تقهقراً ملحوظاً عن زمن العمالقة؛ ولعل السبب في ذلك يرجع إلى طبيعة اختلاف ما يواجه الجيلين من تحديات. فقد كان التنويريون يحملون على عاتقهم مهمة الحفاظ على التراث والهوية العربية، متحدين التنظيم الموجّه منذ أكثر من قرن نحو طمس الهوية العربية. فلم يمنعهم هذا من مواكبة تيارات الحداثة وتقديم درر الأدب العالمي والفكر الغربي إلى القارئ العربي عبر الترجمة. وقد كان لاسترجاع فنون الأدب التراثية مثل: فن المقامات والأدب الرسائلي وظهور المعارك الأدبية الشأن في حفظ الثقافة العربية دونما انغلاق وتنمية الشعور بالانتماء والفخر لدى أبنائها، ولا يخفى ما كانت تنطوي عليه من مقاومة سلمية واعية.ومع نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة تكثر التحديات، حسبما ترى نبيل، فتتبدّى السلطة الاستعمارية الحديثة في سعيها «بطريقة غير مباشرة» إلى خلخلة عقول أبنائنا وإشعارهم بدونية إرثهم، ومن ثمّ نبذه وعدّه رمزاً للرجعية والتخلف. ولعل أبرز سمات اللاانتماء هو ما نراه في مواقع التواصل الاجتماعي باستخدام أحرف «الفرانكو- آراب» بدلاً من الأحرف العربية أو الزج بالكلمات غير العربية داخل الحوار اليومي كدلالة على رقي الثقافة. وفي ظل المستوى الحالي الذي انحدر إليه وعينا الثقافي نكاد لا ننكر صعوبة النهضة الثقافية من جديد. فهل ننتظر تحسّن الأوضاع السياسية والاقتصادية نظراً لكونها قاعدة البناء الفوقي للثقافة والأيديولوجيا؟ ولكنها دائرة مفرغة.. فانتظار تحسّن أوضاع كهذه يبدو كمن ينتظر التراب أن يصير تبراً. وعليه، فلا يمكن التعويل على مؤسسات قد استشرى وتغلغل فيها الفساد، فإقامة حملات ضد تيارات الهدم الإعلامية والفنية التي تنشر الإسفاف تحرك الشعور بالوعي والارتفاع بالذائقة لدى أفراد المجتمع. ولا يكفي الاقتلاع دون البذر؛ فإقامة ندوات تثقيفية حول القضايا الثقافية والعربية الكُبرى تمثّل أول لبنة في هذا الصرح التوعوي. ولا يشترط أن تقوم على هذه الجلسات والحملات جهات حكومية، وإنما أثبتت التجربة تمكّن الجهود الفردية المخلصة من الحشد والتنظيم نظراً لسهولة التواصل بين الأفراد. الأمر الذي يزيد الشعور بالمسؤولية لدى الأفراد وتحريك دافعهم نحو تبني تلك القضايا وشعورهم نحوها بالإنجاز.