قد يجوزُ لنا القولُ إنّ للشاعر المتميِّز موضوعَهُ، وإنّ موضوعَ الشاعر هو البؤرةُ التي تنطلقُ منها مواضيعُ قصائده، أو بكلمة ٍثانية ٍ هو الهمُّ الأساسيُّ أو المحوريُّ الذي تتفرّعُ منه همومٌ كثيرةٌ ومتعدِّدة، بكثرة القصائد وتعدُّدها. وقد يصحُّ القول إنّ موضوعَ الشاعر هو المساحة التي تتقاطعُ فيها مواضيعُ قصائده، أي هو النقطة المشتركة، أو العنصر المشترك بين هذه المواضيع.إذاً، نحن نفرِّقُ هنا بين موضوع الشاعر وموضوع القصيدة. ولْنُسارِعْ إلى مثال ٍيساعدُ في توضيح الفكرة. المتنبي تناولَ في قصائده مواضيعَ كثيرةً، بعدد القصائد أو أكثر، إذْ يمكنُ للقصيدة الواحدة أنْ تتّسعَ لأكثر من موضوع ٍواحد.وقد نظَمَ المتنبي قصائدَهُ في أغراض ٍمتعدِّدة ٍكالمديح والفخر والهجاء والغزل والوصف والحماسة.. وغير ذلك. والأغراض ليست بعدد المواضيع، بل هي أقلُّ عدداً، إذْ يمكنُ للشاعر أنْ يتناولَ موضوعات ٍعدّة في غرض ٍواحد.فالقصائد التي مدح بها المتنبي سيفَ الدولة، على سبيل المثال، هي ذات غرض واحد وموضوعاتها متعدِّدة. ولكنْ وراء تلك المواضيع والأغراض همٌّ أساسيٌّ تنطوي عليه قصائدُ المتنبي كلُّها هو موقفُ الشعور بالتفوُّق.فالمتنبي أرادَ التعبير عن ذاته المتميِّزة في كلِّ ما نظَمَهُ من قصائد. هل نقولُ إذاً إنّ موضوع الشاعر هو «الأنا» المتفوّقة ؟ وهل نقول إنّ هذا الموضوع هو أساسٌ أو منطلَقٌ لموضوع القصيدة، بل لمواضيع القصائد كلِّها التي نظمَها المتنبي؟ ألا يصحُّ عند ذلك القولُ إنّ موضوع الشاعر ماثلٌ في مواضيع قصائده كلِّها، أو بكلمة ٍثانية إنّهُ مشترَكٌ بينها؟نعم، يمكن القولُ في نظري إنّ الشاعرَ المتميِّزَ هو صاحبُ موضوع، قد لا يكون مختصّاً به دون غيره، وإنما يختصُّ عن غيره بطريقته المتميِّزة في تناوله لكي يصبحَ مرتبطاً به فيُعَدُّ موضوعَهُ.فموضوع الحبّ مثلاً لم يكنْ حِكْراً على عمر بن أبي ربيعة أو جميل بثينة أو (حديثاً) نزار قباني، ولكنّ كلاً من هؤلاء الشعراء (وهنالك غيرهم أيضاً) قد تميّزَ بطريقته في تناول هذا الموضوع، واستحقّ أنْ يُعَدَّ معنيّاً به، كذلك أبو نواس في مجونه، وكذلك أبو العتاهية في موضوع الموت، وكذلك أبو العلاء المعرّي في موضوعات العقل والشكّ والموت والبحث عن المعرفة.في شعرنا الحديث، شاعت مواضيعُ أو قضايا عامة تناولَها الكثيرون من كُتّاب الشعر، ولكنّ القليلَ منهم استحقّوا أنْ يكونوا أصحابَ هذا الموضوع أو ذاك. لنأخُذْ مثلاً القضية الفلسطينية كم من الشعراء العرب تناولوها على نحْو ٍأو آخَر؟ ولكنْ من يمكننا عدُّهُ شاعرَ القضية الفلسطينية؟ هناك محمود درويش، وهناك قليلون غيره، كلٌّ هو شاعر هذه القضية بنسبة ٍأو بأخرى.إذاً، من المهمّ أنْ يكون الشاعرُ صاحبَ موضوع، ولكنّه لا يكتسبُ أهميتَهُ من موضوعه، وإنما هو الذي يمنحُهُ الأهميةَ إذْ يعيدُ ابتكارَهُ، أو بالأحرى يبتكرُ طريقتَهُ الخاصةَ في تناوله.
من الناحية الفنية، الموضوعُ ليس له سوى قيمة ٍثانوية، القيمةُ الفنيةُ الأساسيةُ هي في الكيفية التي يتجلّى بها الموضوع، أي في طريقة الشاعر. فموضوعُ الحبّ مثلاً لا يُعْطي قيمةً فنيّةً لكلِّ من يتناولُهُ، ولكنَّ كلَّ تناول ٍجيِّد ٍله يُضْفي عليه قيمةً فنيّةً جديدة.وشاعرُ الحبّ، إذْ يكتبُ قصائدَ كثيرةً في الحبّ، إنما يتناولُ فيها مواضيعَ مختلفة، فكأنّ موضوعَ الشاعر هو أصْلٌ ومواضيعُ القصائد فروعُه، أو بكلمة ٍثانية، كأنّ مواضيعَ القصائد تنويعاتٌ على موضوع الشاعر.ولكنّ الشاعرَ الذي يستحقُّ أنْ يكون صاحبَ موضوع ٍ ليس مفروضاً عليه أنْ يكونَ أسيرَهُ، بل هو غالباً ما يكونُ حرّاً وقادراً على تناول ِما يحلو له من المواضيع، وإنْ ظلَّ في باله ِما يشدُّهُ دائماً إلى همِّه ِالأساسيّ، الذي يمنحُ شعرَهُ نكهتَهُ الخاصةَ وشخصيتَهُ المميَّزة.