Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

حكاية جبرا إبراهيم جبرا مع اغاثا كريستي

حكاية جبرا إبراهيم جبرا مع اغاثا كريستي
ادب وثقافة - 2:11 - 13/04/2016 - عدد القراء : 2488

تناول جبرا إبراهيم جبرا (1920 – 1994) في سيرته الذاتية المعنونة «البئر الأولى» طفولته حتى سن الثالثة عشرة، وقد فتنت هذه السيرة كثيرين، حتى إن عبدالرحمن منيف يقول في تقديمه لـ«شارع الأميرات»، الجزء الثاني من السيرة: «كان وراء افتتان الكثيرين ومفاجآتهم في «البئر الأولى»، الجرأة في التناول، ثم إعادة اكتشاف هذا المبدع في مراحل تكوينه الأولى، مقارنة بالصورة التي كان يراد وضعه في إطارها بشكل تعسفي.هكذا بدد جبرا الكثير من الأوهام، وظهر لكل من يريد أن يعرفه معرفة حقيقية، شخصا قُد من الفقر، وواجه المصاعب، ومشي حافياً، بعض الأحيان، وهو يذهب إلى المدرسة، وبالتالي فإن الأوصاف والصور التي كانت تروج ولا تزال لتصنيف المبدعين، ولعل باعثها، بالدرجة الأساسية التصنيف السهل أو المتسرع، خاصة أن الضجيج السياسي الذي ساد مراحل عديدة في تاريخنا المعاصر، حجب الكثير من الحقائق، أو اعتمد السهل والرائج من المقاييس في التعامل مع القضايا والقامات، التي كانت تستعصي على القوالب الجاهزة».كان جبرا خارج السرب دائماً، لم ينتسب إلى قبيلة سياسية، فمنذ أن وصل إلى بغداد كان يقول إن العراق امتداد للوطن الذي يحبه ويؤمن به، لكنه ليس بديلاً عن فلسطين، أرض الزيتون، الأمر الذي جعله في منتصف المسافة بين الجميع على حد توصيف منيف وهذا ما سبب له مقداراً غير قليل من صعوبة التصنيف، وتاليا التقييم، كان من الصعب وضعه في خانة أو في حيز ضيق، ليصبح في النتيجة صوتاً أو امتداداً لوضع معين، جغرافي أو سياسي، وهذا ما أدى إلى أخطاء في فهمه وبالتالي تصنيفه.إذاً كانت «البئر الأولى» سيرة ذاتية لمرحلة جبرا الفلسطينية، وشارع الأميرات، سيرة ذاتية لبعض المرحلة العراقية في فترة الخمسينات، وهذا الشارع أحد الشوارع في القسم الغربي من بغداد، حيث سكن جبرا الشارع القريب والموازي له، وكما يشير: «قامت علاقة حب بيني وبين شارع الأميرات» منذ أن وصل إلى بغداد عام 1948.كان جبرا في التاسعة عشرة من عمره حين وصل إلى بورسعيد بعد رحلة في القطار، بدأت من يافا، وكانت أول مرة يخرج فيها جبرا إلى العالم، وكانت إنجلترا وفرنسا قد أعلنتا الحرب على ألمانيا يوم 3 سبتمبر (أيلول) 1937 لتبدأ الحرب العالمية الثانية، وهددت تلك الأجواء جبرا بعدم السفر في بعثة دراسية بلندن، لكن ذلك لم يحدث.قضى جبرا سنته الدراسية الأولى في جامعة اكستر بجنوب إنجلترا، حتى يتهيأ لدخول جامعة كمبردج في السنة التالية، والتخصص في الأدب الإنجليزي، وفي عطلة ربيع عام 1940 سافر إلى «منطقة البحيرات» ذلك المكان الذي نشأت فيه الحركة الرومانسية في مطلع القرن التاسع عشر، وكان من قادتها الشاعران وليم وردزورث وصموئيل كولردج اللذان عاشا فترة مهمة من حياتهما في تلك المنطقة، وكتبا فيها الكثير، وقد تأثر بهما الشاعران الأصغر منهما سنا، برس شلي وجون كيتس، كان المكان مألوفاً له من كثرة قراءته في قصائد وأعمال ما سمي في تاريخ الأدب الإنجليزي ب«شعراء البحيرات».وتحت عنوان «حكايتي مع أغاثا كريستي» يكتب جبرا إبراهيم جبرا فصلاً خاصاً، يتناول فيه لحظات دخوله إلى بغداد في سبتمبر (أيلول) 1948، بعد تفاقم النكبة الأولى في فلسطين، فقد انتدب رسميا للتدريس في المعاهد العليا في العراق، فغادر أهله في «بيت لحم» وذهب إلى بغداد، ليعين مدرسا للأدب الإنجليزي في الكلية التوجيهية، التي كانت قد أسست للتو، ووصفت بأنها نواة جامعة بغداد المزمع آنئذ إنشاؤها.وفي أحد الحفلات التقى «مسز مالوان» وسألته عما جرى في فلسطين من قتل وتشريد واغتصاب للأرض من قبل الصهاينة، وقالت: «هذا كله يجب أن يعرفه العالم، بالتفصيل، يحب أن يكتب المؤلفون عن هذه الفظائع، عن هذه اللاإنسانية، كنا نقول إن الحرب العالمية ستضع حداً لها، أردنا من الحرب أن تنتهي الحروب كلها، لكن يبدو أننا رحنا من جديد لزرع البذور لحروب كثيرة قادمة، ما هكذا تصفي الإمبراطورية البريطانية نفسها».كانت مسز مالوان بصحبة زوجها عالم الآثار، الذي كان ضمن بعثة تنقب عن الآثار في العراق، وكانت السيدة فيما تبدو لجبرا، وهي تحوك «بلوفر صوف» لزوجها هي الوحيدة ضمن الموجودين بالحفل، التي «لا تعاني حمى الكتابة، ولا تعرف تباريحها وعذاباتها».وفي شهر إبريل (نيسان) 1949 أقيمت حفلة تمثيلية باللغة الإنجليزية في قاعة الملك فيصل الثاني، والتقى ثانية مسز مالوان، إلى أن التقى أحد أصدقائه الذي سأله: هل وجدتم حلا للجريمة؟ فأجابه جبرا: أي جريمة؟ فقال: جريمة من اختراع السيدة التي رأيتك تتحدث إليها، ألم تكن تتحدث إلى أغاثا كريستي؟يقول جبرا: لا أصدق ما سمعت، أهذه حقا أغاثا كريستي التي قرأت لها الكثير من الروايات البوليسية منذ سني حداثتي؟ أزورها وأناقشها، ولا يخطر ببالي أنها أمسكت يوما قلما بيدها؟ لم أستطع متابعة النصف الثاني من المسرحية في انتظار نهايتها، وبدت وكأنها لن تنتهي إلى أن أسدل الستار أخيرا، وأسرعت باحثا عن المسز مالوان إلى أن لمحتها عند الباب الخارجي واقفة مع زوجها بانتظار سيارتهما، ذهبت إليها وسألتها مباشرة: «هل أنت حقا أغاثا كريستي؟».بعد ذلك عرف جبرا أن مؤلفة الروايات البوليسية المشهورة كانت قد احتفظت بالاسم الذي اكتسبته منذ ما قبل العشرينات عن زوجها الأول الكولونيل كريستي وبعد أن هجرها، ثم مات، كانت شهرتها أوسع من أن تجعلها تتنازل عن الاسم.يوضح جبرا أنها لما تزوجت من عالم الآثار ماكس مالوان، بعد لقائهما في العراق، أخذت ترافقه إلى أقطار الشرق العربي حيث كان يعمل، وجعلت من بعض تجاربها في هذه الأسفار خلفيات لعدد من الجرائم المثيرة في رواياتها، كما في «جريمة في قطار الشرق السريع» 1934 و«موت على النيل» 1937 وغيرهما، ولها روايتان أخريان هما «جريمة في وادي الرافدين» و«جاءوا إلى بغداد» ولا تختلف الأجواء والشخصيات في كلتيهما عنها في رواياتها الأخرى، ذات الخلفية الإنجليزية، باستثناء بعض الوصف لأسواق البصرة والفنادق.لم تكن أغاثا كريستي تدعي أن همها فيما تكتب هم اجتماعي أو سياسي أو تسجيلي، إنما هي الحبكة البوليسية البارعة، تطالبها بتحريك شخوصها ضمن حدود لعبتها الذهنية الأساسية، ولا يبقى للجو المحيط بالحدث شأن يتعدى ما يقدمه من دور الخلفية غير المحددة لهذه اللعبة، التي تكاد تكون رياضية صرفة في تركيبها ومنطقها.كانت أغاثا كريستي ترافق زوجها في كل البعثات الاستكشافية، ومنها اكتشاف النمرود، ويومها كانت تعيش مع أفراد البعثة، في غرفة من الطوب اللبن، كانت تحتوي على مكتبتها، وبعد 35 سنة من زيارته الأولى للموقع الأثري، سيذهب جبرا إلى هناك، ليرى غرفة مغلقة، ذات باب خشبي بدائي، هي غرفة أغاثا كريستي، وقد حفظت كما كانت في الأربعينات والخمسينات، وجعلتها المؤلفة غرفة إنجليزية، رغم ضيقها الشديد، وأغلب الظن كما يرى جبرا أنها في ربيع سنة 1951 كتبت في تلك الغرفة الطينية مسرحيتها «المصيدة».في سيرته الذاتية يقدم جبرا إبراهيم جبرا شهادة صادقة، ونماذج جريئة، ويصور مرحلة كاملة بكل ما فيها من أفراح وأحزان وهزائم، والجرأة والصراحة كما يوضح منيف لا تعنيان تجريح الآخرين أو الانتقاص من أدوارهم ومساهماتهم، كما لا تتكآن على النرجسية، التي تعتبر النفس مركز الكون، الجرأة والصراحة هنا تعنيان النزاهة والشعور بالمسؤولية، والخروج من لحظة الانفعال الآنية، وأيضا رؤية المشهد من كل جوانبه، بحيث يستطاع من خلال السيرة الوصول إلى الحقيقة، أي إلى الصدق، حتى ولو بمنظور فردي.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

الطقس في بغداد

بغداد
23°
26°
الجمعة
27°
السبت

استبيان

الافتتاحية