مثلما في السينما أبيض وأسود، هناك أيضاً شعر بالأبيض والأسود يأخذك الحنين إليه، كما الحنين إلى سينما، الثلاثينات والأربعينات في النصف الأول من القرن العشرين؛ قرن التحولات بمعنى الكلمة على صعيد الثقافة والفكر والفنون والسياسة، ومن يتلفت، الآن، إلى الخلف على سبيل الاستعادة والحنين، ويقارن تحولات اليوم بتحولات الأمس، يتمنى لو أن الزمن ظل يسير منذ تلك الأيام، وإلى الآن ببطء وبقلب ذلك الوقت وروحه.
لكن، ما حكاية الشعر بالأبيض والأسود؟
كان بدر شاكر السياب يكتب «أنشودة المطر» بروح الأبيض والأسود، لا بلاغات زائدة، ولا بهرجة لغوية، ولا صور متدافعة توقف سير القصيدة، وكان يكتب، وهذا الأهم، بروح وقلب زمانه ومكانه، ولم يستعر أزمنة وأمكنة الآخرين. نهر «بويب» في جنوبي العراق صار على يد السياب أطول من نهر السين، أو أطول من سور الصين العظيم، بالأبيض والأسود فقط. بلا فسيفساء لونية، وبلا لون الرماد، أي الأصالة والتراث والثقافة التي تشّرب بها من حضارة وادي الرافدين، ومثله بلند الحيدري، وعبدالوهاب البياتي، وحسب الشيخ جعفر، حتى الأبيض والأسود في الشعر امتد في أرواح شعراء عراقيين تاليين للسياب وجيله مثل خزعل الماجدي، وعبدالزهرة، وكاظم جهاد، وغيرهم وغيرهم من شعراء الروح العالية الصافية، والقلوب المؤثثة بالجمال.كان عرار «مصطفى وهبي التل» شاعر عشيات وادي اليابس في الفضاء الأردني الريفي، ولم تكن قصيدته متلوّنة سواءً باللغة أو بالمواقف. انتمى للإنسان في أرفع درجات آدميته، ومرة ثانية بالأبيض والأسود، قصيدة لا تعرف اللون الرمادي ولا تستعير كينونتها الفكرية والفلسفية إلاّ من ذات الشاعر؟ وذات ثقافته الإنسانية.شعراء الأبيض والأسود، والمقصود بهم شعراء الصدق والبراءة والبرية أو العفوية أشبعوا عواطفنا بالدفء والامتلاء والغنى الروحي والجمالي، ذلك لأنهم عاشوا في أزمنة وأمكنة ليست ملتبسة ومتشظية ومقتسمة كما هي الحال اليوم في بعض جغرافيات الأرض التي تتوق هي الأخرى إلى ثقافة الأبيض والأسود.لوركا، وناظم حكمت، وبورخيس، ووالت ويتمان، وعزرا باوند، وطاغور، والجواهري، ونازك الملائكة، وصلاح عبدالصبور، وعبدالله البردوني.. صف شعري متماسك بالأبيض والأسود، وأشير تحديداً إلى شاعر مصري بعينه هو محمد مهران السيد الأكثر اقتراباً من روح الأبيض والأسود، وتنساه الذاكرة الشعرية المصرية.اليوم.. ما أكثر شعراء الألوان الفاقعة.اليوم أيضاً، ما أكثر الانتقالات الفورية من موقف إلى آخر.
تُرى.. عمن نبحث؟
فقط، نبحث عما هو حقيقي وإنساني.. نبحث عمن هو غير مزيف، وغير غارق في مستنقعات المنفعية والحسابات غير الشعرية بالمطلق. لم يعد الشاعر العربي اليوم سيداً ومستقلاً وكبريائياً وجميلاً لأنه يستند إلى قوة الشعر وكرامته وغروره، بل، عشرات وربما مئات الشعراء ابتعدوا عن جوهر الشعر، وأخذتهم تحولات الجغرافيا المملوكة إلى ما هو ليس ثقافياً.هل نحن في حاجة إلى قراءة جديدة لشعر الأبيض والأسود. شعر الخمسينات والستينات من القرن الماضي في مرآة نقدية جديدة بعيدة عن المصطلحات المتضخمة للحداثة، وما بعد الحداثة، وأقصد هنا بعيداً عن غابة الألوان والاستعارات والإحالات الكاذبة؟هذا التساؤل في حد ذاته مراجعة، لكن عندما تتحول المراجعة إلى قراءة، فلابد من الحنين إلى أزمنة وأمكنة عاش فيها شعراء الأمس.. الذين لا يشبهون شعراء اليوم.