Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

في الذكرى السابعة لرحيله: محمود درويش يرسم «الأنا الدرويشية» ونماذج شخصياته

في الذكرى السابعة لرحيله: محمود درويش يرسم «الأنا الدرويشية» ونماذج شخصياته
ادب وثقافة - 0:55 - 19/08/2015 - عدد القراء : 1149

في الذكرى السابعة لرحيل محمود درويش يتجلى لنا الشاعر مثل نشيد باهر في حضرة الغياب، يطل لاعب النرد في لعبه البريء مع المصائر، ويرسم شخصيات تشكل أعمدة جدارية خالدة رسمها على مدى حياته الحافلة بالشعر، فتقرأ في شعره عن الأب والأم، والمناضل والشهيد، من دون أن تغيب صورة العدوّ، وهو يرسم قبل كل ذلك الأنا الدرويشية التي لا يحتكرها لنفسه، فهو ليس له، كما قال.يستطيع قارئ درويش أن يلمس حضوراً طاغياً لـ»أنا درويشية» متشبثة بالمكان، تبحث عن ظلال فرديتها في إطار الجمعي، وتنتمي، لحفظ كينونتها، إلى رموز ثقافية تستمد منها جدارة البقاء. في قصيدة «رحلة المتنبي إلى مصر» يقول درويش:
والقرمطيّ أنا. ولكنّ الرفاق هناكَ في حلبٍ
أضاعوني وضاعوا».
وإذا كان النص السابق يطابق بين الشاعر والمتنبي، فإنّ النص اللاحق يجعل من الشاعر ابناً لعوليس الذي يجسد أسطورة الغربة والإصرار على العودة، ويختلف عن ابن عوليس في أن الأسطورة تجعل تليماك الابن يستجيب لنداء أبيه ويسافر، على نقيض التجربة الفلسطينية التي تجعل الابن رافضاً لفكرة السفر، يقول درويش في قصيدة «في انتظار العائدين»:
«وأنا ابنُ عوليس الذي انتظرَ البريد من الشّمالِ
ناداه بحّارٌ ولكن لم يسافر».
من الطبيعي هنا أن يعيد الشاعر إنتاج الأسطورة، مثلما هو من الطبيعي أن يرتبط روحياً بالمكان الأول الذي يسعى للعودة إليه:
«خذني إلى مطرٍ
على قرميد منزلنا الوحيدِ
خذني هناك إلى هناك من الوريد إلى الوريدِ»
يشكّل محمود درويش هنا جمعاً بصيغة المفرد، يشترك فيه المتكلم مع جميع الذين يتكلم عنهم، وفي قصيدة «مديح الظلّ العالي» مثال شديد النصوع على ذلك، يزيده نصوعاً واقتراباً من الآخَر اعتماده على روي داخلي مناسب لموضوع الرحيل، وغنائية بكائية، تذكر ببكائية ابن زريق البغدادي الشهيرة، يقول درويش متحدثاً بضمير المتكلم المفرد الجمعي:
«شكراً لكلّ سحابةٍ غطّت يديّ
وبلّلت شفتيّ،
حتى أعطت الأعداء باباً.. أو قناعا
شكراً لكلّ مسدّسٍ غطى رحيلي بالأرزّ وبالزهور،
وكان يبكي أو يزغردُ ما استطاعا
يا دمعةً هي ما تبقّى من بلادٍ
أسند الذكرى عليها والشعاعا.
يا أهل لبنان الوداعا!»
أما الأب فتمتاز شخصيته في شعر درويش بمجموعة من الصفات، تتمحور جميعاً حول شدة الالتصاق بالمكان، ومثل هذا المعنى نقرأه أيضاً في قصيدة «ربّ الأيائل يا أبي.. ربّها» حيث يعلم الأب النموذج ابنه تلك الأبجدية الخالدة: أبجدية الأرض المقدسة:
«لا تعطني حبّاً، همستُ، أريدُ أن أهبَ البلادَ
غزالةً. فاشرح بدايتكَ البعيدةَ كي أراكَ ولا أراك
أباً يعلّمني كتاب الأرض من ألف إلى ياءٍ ويزرعني هناك»
مثل هذا الالتصاق الحميم بالمكان ومفرداته المختلفة يظهر في قصيدة «أبي» من خلال النموذج نفسه، فهو يصلي ويحضن التراب، وينهى ابنه عن مغادرة الوطن، في شكل انتماء وطني وديني يميز هذه الشخصية:
«غَضّ طرفاً عن القمَرْ
وانحنى يحضن الترابْ
وصلّى
لسماءٍ بلا مطَرْ،
ونهاني عن السفرْ»

في قصيدة «أبد الصُّبار» من مجموعة قصائد بعنوان «أيقونات من بلّور المكان» تظهر وصية الأب مرتين، مرة من خلال الفعل والقول، فالأب يؤثث المكان بالبقاء، حتى يبقى حيّاً:
« ـ لماذا تركتُ الحصانَ وحيداً
ـ لكي يُؤنسَ البيت يا ولدي
فالبيوت تموتُ إذا غاب سكّانها»

في المقابل نستطيع أن نطالع صورتين للأم في شعر درويش: الأم/ حورية التي يتذكرها الشاعر ويتذكر تعاليمها، ويلمس حضورها الطاغي في مفاصل الموت والحب والحياة، والأم/ النموذج التي غلبت صورتها على صورة الأم الأولى.في مقطع بعنوان «حجرة العناية الفائقة» من قصيدة «أربعة عناوين شخصية» تحضر الأم بصفتها الفردية: «ومتُّ تماماً، فما أهدأَ الموتَ لولا يداكِ اللتان تدقّان صدري لأرجعَ من حيث متُّ. أحبك قبل الوفاة وبعد الوفاة، وبينهما لم أشاهد سوى وجه أمّي».وربما يعود السبب في غلبة صورة الأم النموذجية إلى أن محمود درويش يطعّم صورة الأم الفردية بملامح مشتركة بين الأمهات الفلسطينيات مما يجعلها تلتبس في بعض الأحيان على القارئ، وقد تكون الشهرة التي نالتها قصائد درويش المغناة أسهمت في تعميق هذا الالتباس، إذ أن قارئ قصيدة «إلى أمي» أو سامعها، يتسرب إلى وجدانه أن صفات هذه الأم هي صفات أمه أيضاً، وهي صفات كل الأمهات، مما يجعلها نموذجاً:
«ضَعيني، إذا ما رجعتُ
وقوداً بتنّورِ ناركْ
وحبلَ غسيلٍ على سطح داركْ»

ومثل هذا الأمر يمكن أن نلحظه في قصيدة «»تلك صورتها وهذا انتحار العاشق» إذ تمتزج ملامح الأم بملامح الوطن:
«والياسمين اسمٌ لأمي: قهوة الصبح.
الرغيفُ الساخن. النهرُ الجنوبيُّ. الأغاني
حينَ تتكئ البيوتُ على المساءْ
أسماء أمي..»
وحين يحكي درويش سيرة المناضل الفلسطيني يطرحه بوصفه بطلاً جمعياً لا فردياً، على الرغم من أنه يعيش حالة فريدة من الحزن، وهو ما يدفع الشاعر إلى التساؤل في «حالة حصار» عن ذلك التفرد:
«وحيدون، نحن وحيدونَ حتى الثمالةِ،
لولا زياراتُ قوس قُزَحْ
هل نسيء إلى أحدٍ؟ هل نسيء إلى
بلدٍ، لو أُصبنا، ولو من بعيدٍ،
ولو مرةً، برذاذ الفرح؟»

وعلى الرغم من أن لهجة الشاعر صارت أكثر همساً، نتيجة تطوره الشعري، فإن نبرة التحدي لم تختفِ، بل أصبحت تأتي على شكل قصيدة تتحدى البندقية أو وردة تنبت في خوذة الجندي.
ويبدو الإصرار على الهوية موضوعاً محبباً لدى درويش، من خلال رسم ملامح شخصية المناضل الذي لا يبدل تلك الهوية، ولا ذلك الانتماء، على نحو ما نجد في قصيدة «عاشق من فلسطين»:
«سأكتب جملة أغلى من الشهداء والقُبَلِ
فلسطينية كانت ولم تزَلِ»
في قصيدة «عائد إلى يافا» يربط الشاعرُ المناضلَ بالأرض، التي مات من أجلها، ويمجد تضحية المناضل الذي يحمل سلاح المقاومة التي لا تساويها أي تضحية أخرى، حتى تلك التضحية التي يقدمها الشاعر، فثمة فرق بين من ينزف حبراً، ومن ينزف دماً:
«هو الآن يخرج منّا
كما تخرجُ الأرضُ من ليلة ماطرهْ
وينهمرُ الدمُ منه
وينهمر الحبرُ منّا
وماذا نقول له؟
تسقط الذاكرهْ
على خنجرٍ؟
والمساء بعيد عن الناصرهْ»
وتصبح صورة المناضل أكثر ثراء حين ينتقل لمرتبة الشهيد، فالشهيد حاضر على مدى تجربة درويش الشعرية، وهو مشغول دائماً بتضحياته، مدافع دفاعاً عنيداً عن طهره.. لذلك نراه حارساً عليه حتى لا يصبح موضوعاً لهواة الرثاء.. يقول درويش:
«عندما يذهب الشهداء إلى النوم أصحو وأحرسهم من هواة الرثاءْ»
والشهيد في قصيدة «حالة حصار» يسمو على مرتبة البشر، حتى المؤمنين الذين يبحثون عن ثواب الجنة، فهو لا يبحث عما يبحث عنه الآخرون من خلال تضحيته، إنه لا يبحث عن عذارى الخلود، لأنه استشهد دفاعاً عن اللوز والتين والصنوبر وكل مفردات الأرض الفلسطينية:
«الشهيد يوضّح لي: لم أفتّش وراء المدى
عن عذارى الخلود، فإني أحبّ الحياة
على الأرض، بين الصنوبر والتين»
إنه الشهيد، صورة التضحية، والسمو عن الرغائب البشرية، حكاية التضحية المستمرة التي لا تنتهي، لأن الأحياء يقفون على بوابة الشهادة بأتم استعداد، ولأن ثنائية الموت والحياة تعطي موته معنى الحياة.. كيف لا؟ والمواليد الجدد يهبون الشهيد إمكانات تضحية جديدة، فتمتزج التعزية بالتهنئة:
«نعزّي أباً بابنه: «كرّم الله وجهَ الشهيدْ»
وبعد قليلٍ، نهنئه بوليدٍ جديدْ»
وتعدّ شخصية العدوّ أكثر الشخصيات إشكالية عند محمود درويش، إذ غالباً ما يقدم الشاعر عدوّه في برهة إنسانية، فهو يصور فرحه وحزنه، أحلامه وآماله بالطمأنينة، ويخالف الصورة المعروفة للعدو في الأدبيات الفلسطينية التي تراه قاتلاً ومغتصباً نموذجياً، من دون أن تجتهد في إعطائه ملامح خاصة.. ففي قصيدة «جندي يحلم بالزنابق البيضاء» التي أثارت جدلاً واسعاً، يقدم درويش شخصية العدو من خلال سياق لفظي يعطي الأهمية الكبرى للتفاصيل الحياتية الصغيرة.. لا للقضايا الكبرى التي يتغنى بها الآخرون:
«يفهمُ ـ قال لي ـ أنّ الوطنْ
أن أحتسي قهوة أمي
أن أعود في المساء..
سَأَلْتُهُ: والأرض؟
قال: لا أعرفها
ولا أحسّ أنها جلدي ونبضي
مثلما يقال في القصائد»
وعلى الرغم من الاعتراضات الإيديولوجية التي أثارتها القصيدة المشار إليها، فإن الذين عارضوا رؤية محمود درويش للعدو فيها وتمسكوا بصورة العدو النموذجية ليسوا مسؤولين بأنفسهم عن هذا الموقف الذي يتحمله الأعداء، لأن هؤلاء أزكموا الأنوف برائحة الدم والمجازر، مما شوّه الفلسطيني الضحية من الداخل، وحرمه من تصور فضيلة الغفران التي تحتاج إلى ظروف أقل تعقيداً من تلك التي يحياها.ويبدو لي أن الشاعر تأثر تأثراً عميقاً بفلسفة غاندي في المقاومة، لذلك يصمد مخاطباً عدوه مستنفراً ما فيه من مشاعر لكي يعدل عن الظلم والاغتصاب والقتل والتدمير.. بل يصرّ على أن يردّ عليه بطريقة تختلف عن جنس القمع الذي مارسه العدو ضده.. إنه يريد أن يعلم العدوّ دروساً في الإنسانية، دروساً لم يتلقوها في حياتهم. ففي قصيدة «مأساة النرجس ملهاة الفضة» يقول درويش:
«سوف نعلّم الأعداء تربية الحمام إذا استطعنا أن نعلّمهم»إن ما تقدم حول شخصية العدو جزء من رؤية درويش المعقدة للصراع العربي الصهيوني وإفرازاته، فهو لا يقدم العدو في برهة توحشه فقط، بل يحاول أن يقسم شخصية العدو إلى أقنوميها الأساسيين: الوحشي والإنسي، وهو يخاطب الإنسي لا ليمجده، بل ليسعى إلى تغييره من الداخل.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

الطقس في بغداد

بغداد
24°
26°
الجمعة
27°
السبت

استبيان

الافتتاحية