بعد اغتراب طويل، بدأ صوت ناصر الحجاج يصل العراق عبر راديو سوا، الذي كان أحد معدي ومقدمي البرامج فيه، إذ جاء صوته منبعثاً عبر أثير يخلو من حكم ديكتاتوري هرب منه، وهو بعد لم يكمل دراسته، هرب الحجاج بعد انتفاضة آذار/مارس1991 من مدينته البصرة وحلَّ في بيروت ليشكل في عام 1994 المنتدى الثقافي العراقي، إلا أنه لم يلبث طويلاً في بيروت، فسافر إلى أمريكا بعد سنوات، وعاد مجدداً لبيروت من أجل إكمال دراسته الأكاديمية، ليحصل على الماجستير في الأدب العربي عن منجز الشاعر الراحل بدر شاكر السياب، وما زال يسعى لإنجاز أطروحته في الدكتوراه في بيروت أيضاً عن «الثيمات المحلية في الشعر العربي الحديث وآليات قراءتها».
■ «نبوءة مجنونة» واحدة من ثلاث مجموعات أصدرتها منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى الآن، غير أن الشعر لم يكن عالمك الوحيد.. كيف تفهم الشعر؟ وهل يكفي ليكون عالماً متكاملاً لكاتب يعي ما يريد منه؟
□ يحتاج الشاعر إلى روح زوربا اليوناني لكيلا «يستمر في الطرق على باب رجل أصم إلى ما لا نهاية»، لكي يعرف أن «شعر الغزل لا ينجب أطفالا» وأن كتابة أجمل القصائد عن المدينة لا يعادل يوماً واحداً من الحياة في المدينة. من هناك استحال الشعر إلى نبوءة وجنون، ولطالما اتهم الناس البسطاء الأنبياء بالجنون، وصار الشاعر نبياً مجنوناً، فتسمية المتنبي لم تأتِ إلا من ارتباط شخصية الشاعر بالغيب، بما تخبئه السماء من قرارات تحملها ملائكة أو شياطين (تنزّل الملائكة .. تنزّل الشياطين) بما لم يجترح بعدُ من عوالم، أبعد من فراسة، وأعمق من فلسفةِ وجود، وأوسع من خلق، تلك الروح الشاعرة التي تمتزج كينونتها بجنون زوربا البسيط، الجنون الذي هو ما فوق طاقة الناس العاديين… أتريد تغيير النظام «هل أنت مجنون؟» لهذا لا تكتمل شعرية النص إلا بتجربتين وجودية، وواقعية متمردة، سمّها مجنونة كما يسمي الناس كل فعل أقوى من قدراتهم، وكل تحد أعظم من إمكاناتهم، وأنا منذ نبوءتي المجنونة أخوض في وعورة أودية كثيرة في وادي اللغة المجاور، وفي وادي الثقافة، ووادي الإعلام، ووادي البحث العلمي، فكلها مجموعة تمثل جغرافيا وطن الشاعر المسكون بزوربا.
■ انطلقت من محلية السياب لقراءة نصوصه العالمية… ما الذي وجدته في السياب؟ وكيف يمكن إعادة شاعر ما إلى محليته لإعادة قراءته بوجوه أخرى؟
□ وجدت في بدر شاكر السياب نفسي، عراقيتي، بصريتي، بصيرتي، وجدت عشقي اللامتناهي للعراق، عشق اختلاف العراق وتفرده، حتى الشمس تمتاز عن نفسها حين تكون في العراق، حتى الناس يختلفون حين يكونون في البصرة، هناك لا يعود الطراز المعماري المحلي «لشناشيل ابنة الجلبي» مجرد شرفات ومشربيات، فثمة سحر للروح المحلية،
ومن ثمَّ للهوية المحلية، ففي الشعر الشعبي المحلي العراقي عثرت على جذر قصيدة الشعر الحر، وشعر التفعيلة، وهو ما استلهمه السياب من البيئة الشعرية المحلية لا من قراءاته باللغة الإنكليزية.
وجدت في السياب الشاعر المناضل، ثم الوطني الإنساني الذي يؤمن بالتنوع والتعددية، وبقبول المختلف مادام يشكل رافداً لألوان الحياة، قارن الوزن العروضي العمودي وطول التفعيلات التقليدية بمقياس السلفية الإسلامية وطول القميص واللحى، فكان الخروج السيابي عنها تحررا من سلفية ثقافية دامت قروناً طويلة. إلا أن الثراء الشعري السيابي جاء لاستخدامه اللغة العراقية، أي الطريقة المحلية العراقية في استخدام اللسان العربي، وهي لا تقتصر على اللغة المحلية الدراجة، بل تشمل الأساليب والإشارات اللغوية والاجتماعية التي تتطلب معرفتها أن يعيش الإنسان في العراق طويلا، هنا كانت المساحة غير المقروءة من سر القصيدة السيابية، الفضاء المعنوي والدلالي المرتبط بكل ما هو محلي خفي عن إدراك من هم خارج المحل، ووجوه ومديات هذا المحلي تستغرق التراث، والفلكلور، واللهجة المحلية، القصص، الأغاني، المرددات الشعبية، طرق العيش، والفرح، والحزن، والنذور، ذلك ما يستلزم توسل علم اجتماع اللغة، والانثروبولوجيا الثقافية لسبر أغواره، وفك مغاليق رموزه وشيفراته.
■ ما الذي علينا فعله لكي نقرأ تاريخنا الثقافي؟ خصوصاً إذا أردنا الدخول إليه من أبواب التاريخ الأدبي والنسق دون تاريخ الأدب العراقي؟
□ ببساطة علينا تقليد الأمم الناجحة، علينا معرفة ما فعلته الأمة الألمانية للنهوض من كبوتها، وتجاوز خسارتها، علينا أن نسلتهم طاقة الكشف من شجاعة الأمة الاسبانية والأمة الأمريكية على تجاوز حروبها الأهلية وصناعة أسس وضوابط لقبول الذات المتنوعة (لأمة المهاجرين) ولقبولها بآلاف المهاجرين سنوياً. مهاجرون مختلفي العقائد والجينات والأحلام والوجود والأيدي والألسن، حين نعرف أن النهر الذي لا يدخله ماء جديد يصبح آسناً ويخالطه العفن، نعرف أن الأمة التي لا تستقبل لاجئين جدد أمة متهرئة آيلة للانقراض، فماء النافورة لا يجدده الدوران، وماء المفردات اللغوية في البئر العربية إن لم يستمد طاقته ودفقه وتجدده من الروافد التي حوله من لغات العالم الحية، سيصير إلى إيقونة محنطة مقدسة، تهرب منها شعوبنا إلى بيوتها المحلية الأكثر تواضعاً والأقل غطرسة، هنا يلزمنا الأمر أن نقرأ تاريخنا الثقافي، ونتلمس محددات مساره، وهو تاريخ السلطة، وليس تاريخ العامة، ولا تاريخ الشعب، تاريخ لا يعير للمحلي ولا لهويته اهتماماً، تاريخ طالما كافأ تحرر ابن المقفع بالرجم، وعرض السياب إلى السجن والنفي والاضطهاد، وثقافة الاضطهاد صارت ثقافة شعبية، فلنقرأ ثقافتنا الشعبية قبل ثقافتنا القومية الكبرى.
■ منذ أن بدأت تعي الحياة العراقية تركتها هرباً إلى بيروت لتؤسس في عام 1994 المنتدى الثقافي العراقي.. لماذا هذا المنتدى؟ وكيف تمكنت من تقديمه وسط الحراسات التي كانت تحيط بكل عراقي في المنفى؟
□ رفضي للحياة العراقية كان جزءاً من رفض ثقافة الشخصنة، التي ما فتئت تردد «نحن بحاجة إلى رجل مثل فلان» لقيادة الجماعة الفلانية، أو أن هذه المسألة لا يحلها إلا فلان، بينما تجاوزت الأمم الأخرى هذا المفهوم واستبدلته بمفهوم، أن هذه المسألة لا تحل إلا بالمنهج أو الطريقة الفلانية، القائد هو المنهج الذي يقود، القائد هو القوانين والضوابط التي تحرك وتشغل أجزاء الكيان، وتناغم عمل أعضاء الجسد ضمن روح الجماعة، وحيث أنني مطلع التسعينيات لم أجد في بيروت أداءً جماعياً يديم شعلة الثقافة العراقية، ويضمن بقاء الإسهام العراقي في الساحة العربية، وقت كان العراق تحت حصار خانق التفت أذرعه على مختلف شرايين الحياة، أسسنا المنتدى الثقافي العراقي، المرحوم علي البهادلي مثابة للشعر والقصة والنقد، مؤسسة مدنية همها رعاية اسم العراق الثقافي، من خلال رعاية المبدعين العراقيين في الساحة اللبنانية بفسحة تواصل مع المشهد الثقافي والصحافي اللبناني الخارج للتو من حرب أهلية كانت بقايا حواجزها ومتاريسها وخنادقها ما تزال تقطع العديد من أحيائها وزواريبها. كنا ندفع من مصروفنا اليومي لإقامة تلك الأمسيات أو الندوات الثقافية، ولم يكن للعراق ميزانية انفجارية ولا مراكز ثقافية وسيارات دبلوماسية، كانت سنوات حياة لا موت.
■ أنت من أكثر الكتاب العراقيين الذين بحثوا في معنى كلمة (وطن)، فما الذي خرجت من وراء هذا البحث؟ كيف ترسم اللغة صورة الوطن؟ وكيف يتم بناء الأوطان بالكلمات؟
□ الوطن هو المكان، ولأن المكان بالمكين، بساكنه، صار الوطن هو الاسم المنسي للشعب، فوطن الإنسان أمته التي وطّن نفسه وثقافته وأحلامه فيها وبها ومعها، وهذه أرض مفهوم الاغتراب، إذ الخروج ليس خروجاً جغرافيا، بل أن الخروج خروج ثقافي، والنفي نفي ثقافي، ومتى ما اختلفت ثقافياً أكثر اغتربت أكثر، فالوطن هو السلوك الجمعي، هو مجموع إشارات المرور والتوقف الاجتماعية، الوطن هو اللغة الجمعية، وباختلافك تبدأ بابل، فتبلبل الألسن تبلبل المعاني، إنها بلبلة الاتجاهات، ولكي يكون الوطن وطناً يستلزم على مفرداته أن تتناغم وتنسجم، وتفيد (الكلام ما أفاد معنى) وإلا صار الوطن اسما بلا معنى، صار وهو مجمل (جملة غير مفيدة) ووطننا اليوم جملة غير مفيدة، وكيف تفيد الجملة (الجُمَل) معنى وجودياً وهي لا تعرف ماذا تريد. الدلالة إمام «ولا بد للناس من إمام؛ بَرّ أو فاجر» وأمتنا بلا إمام، لأنها استبدلت اسمها الحامل معنى الجماعة والائتمام، والأمومة بمعنى التوطين، والترويض والإكراه.
لقد أخذ معنى الوطن عندي مكانه كأساس للهوية، وإنسان بلا وطن، إنسان بلا هوية، يمكن أن يكون وطنك الإنسانية هذا معنى متداول أيضاً، لكن حاجتك إلى أرض تخصك كلها، بشعبها وإشاراتها، ولغتها، واقتصادها، وعلمها وجواز سفرها، سيحقق لك ذاتك، وسيؤكد هويتك، نحن دائما بحاجة إلى زوربا لنواجه كتبنا المقدسة (أعني ما هو مدون في وعينا الجمعي) التي أفسدت معنى حياتنا، وأسهمت في ضلالنا في صحراء الهويات.
■ ماذا عن ديوانك كلاب طروادة، هل ثمة ما يخص الوطن أيضاً؟
□ كلاب طروادة استمرار وتصعيد لديوان نبوءة مجنونة، هو نبوءة مجنونة أخرى، لأن القصيدة التي حمل الديوان عنوانها كانت استشرافاً لدخول العراق بأفسد كائناته، قبل سنوات من سقوط النظام، وحيث طروادة هي الوطن الواقف عنيداً في مهب العواصف الذكية التي تجتاح العالم، بقنابلها الذكية وهواتفها الذكية، فليس لطروادة إلا أن تكون أكثر تحدياً وذكاء، لكنها للأسف كانت من الداخل المحاصر تموت، تذوي، تخرب شيئاً فشيئاً، حتى كان الانهيار، عام 2003 انتهى العراق، وبات على العراقيين قبل كل شيء أن يعترفوا بسقوط العراق، وأن يعملوا على إنهاضه، نقله إلى غرفة الإنعاش، وعلى إعادته إلى الحياة، وإعادة الحياة إليه، لكن ما حدث أن من تسلم زمام إجراء العملية باع أعضاءه وتقاسم أشلاءه حصصاً و غنائم.
■ يؤكد أغلب المتابعين للمشهد الثقافي العراقي أن هناك تكراراً بأنواع مستحدثة للمناهج القبيحة والخطاب الشعاري التضليلي… هل من الممكن إعادة إنتاج الخطاب الثقافي العراقي وتوجيهه ضمن السياقات الصحيحة؟
□ المشهد الواضح للسلوك الثقافي في العراق يكشف عن تردّي الحس المؤسساتي عند المشتغلين في حقل الثقافة والآداب والفنون والعلوم الإنسانية، ومن مئات المؤسسات المعنية بالثقافة لا يكاد المبدع في حقل الكتابة الأدبية يخرج بمؤسسة أو اثنتين تعملان بمهنية تسهم في توجيه الرؤى نحو مضمار إبداعي إيجابي، فالجامعات التي ينبغي أن تتصدر المشهد التعليمي الكفيل بتبني ما أنجزته الجامعات العالمية في مجال الدراسات الثقافية لا تجد من سمع بعلم الثقافة (الاستثقاف على وزن الاستشراف ومعناه) Culturology وهو أحد أبرز العلوم الاجتماعية التي يحتاج العراق، والعالم العربي دراستها وإنفاق الميزانية عليها قبل إنفاق الأسلحة العسكرية لمحاربة داعش (مثلاً)، فدراسة الأنساق والروافد الثقافية التي ينهل منها مجتمعنا كفيلة بإدراك أمراضه، وفهم حاجاته، ومن ثم إجراء عمليات الإصلاح الثقافي.
ولأن أحداً (أو مؤسسة) لم يحاول مقاربة النظام الثقافي بعد عام 2003، فإن التغيير المرجو بعد سقوط النظام نحو الارتقاء بالثقافة في العراق، صار بعيد المنال، فالأولى عندي إصلاح الثقافة العراقية قبل إصلاح النظم الاقتصادية المعتمدة على بيع النفط الخام، وقبل إصلاح المنظومة الأمنية المعتمدة على الرصاص الغبي والقنابل، فهوية المجتمع الثقافية هي التي تحدد مصيره، وعلاقاته بنفسه ومحيطه وتحدد مساره المستقبلي، أما مهرجانات إلقاء القصائد، فلا تعدو كونها أصواتاً لديناصورات مريضة ما تزال ترى أنها الكائنات الأولى بالحياة، من غيرها من الكائنات الأكثر سمواً في سلم التطور الحضاري الإنساني.