Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

مع ابن الرومي.. ذلك أفضل جدًا….الجزء الاول

مع ابن الرومي.. ذلك أفضل جدًا….الجزء الاول
ادب وثقافة - محمد رفعت الدومي - 3:17 - 22/09/2015 - عدد القراء : 1727

لا أحب الكتابة عن شاعر قديم لسببين: أولهما أنني حين أفعل أكون ملزمًا لتكتمل الصورة الذهنية عند المتلقي بأن ألمس شيئاً من شعره، وهو بالضرورة شعر غاصٌّ بالألفاظ التي الآن حوشيّة ومهجورة ومثيرة للسخرية، لغة أخري قد انحسرت!السبب الثاني، وهذا هو الأهم، هو أن الشعر لم يعد ذلك الكلام الموزون المقفي فقط إنما هو تفتيت الواقع إلي رموز وإشارات والعكس، وهذا جدير بأن يطرد غابة من الناظمين الأوائل خارج دائرة الشعراء بكل بساطة، فما من شك أن معظم أشعار القدماء لم نعد نلمس فيها من الشعر إلا حساسية الشاعر وحدها!تتفاقم المشكلة عند الكتابة عن شاعر قديم مثل “ابن الرومي” وتتخذ أبعادًا أكثر تعقيدًا، ذلك أن كاتب وحيه كان لا يخجل من الخوض في كل شئ وأي شئ، وهذان البيتان یهجو بهما “خالدًا القحطبي” عينة مهذبة جدًا من هجائه:
أيا ابن التي كانت تحيضُ مِنَ اسْتها / يد الخرِّ لم يطهر لها قطُّ مِئزرُ
إذا ما وني عنها الزناةُ دعتهُمو / شقائقُ من أرحامِها الخضر تَهدِر..
كما أنه كان يوظف اللغة الفارسية في شعره بإسراف، وثمة قول مأثور يدَّعي: “لولا الفرزدق لضاع ثلث اللغة العربية”، وإذا كان الأمر هكذا، أجدني لا أجد غضاضة في أن أقول: “لولا ابن الرومي لضاع ثلث اللغة الفارسية”!وشاعرنا “ابن الرومي” ربيبٌ لخرافةٍ كان يستطيع من خلالها أن يكشف عورات خصومه ارتجالاً، وأن يترك في القلوب وهو غير عاقدٍ العزم ندوبًا ومسرات، كما كان، وما زال، أقوي الشعراء روحًا علي الإطلاق، لذلك، من الضار جدًا قراءة شعره فقط لوقت طويل في عزلة، ذلك أنه، لقوة روحه، يستطيع بكل بساطة أن يسيطر علي روح المتلقي وينكأ فيها ثقوبًا كبيرة يتسلل منها إلي الداخل تشاؤمه ويأسه وتبرمه بالناس وبالحياة، وما من شك أن كل الشعراء الذين عاصروه والذين جاءوا بعده قد انتبهوا إلي تفرده وأدركوا قدره وحدقوا النظر طويلاً في شعره، ولا أستثني “المتنبي”، فبيت الأخير:
يا أعدل الناس إلا في محاكمتي / فيك الخصام وأنت الخصمُ والحكمُ
ما هو إلا صناعة أكثر جودة من صناعة بيت “ابن الرومي”:
غـدا الدهرُ لي خصماً وفيَّ مُحَكَّمًا / فـكيف بخصم ضالع وهُوَ الحَكَمْ
شاعر جلل، لست هنا لأضئ مكانته الشعرية فهو أضخم من ذلك بكثير، وقد سبقني في الكتابة عنه أفذاذٌ أضاءوا الرجل من كل جوانبه، وبروايته هو، وكبحوا ذلك التيار العنيف من التجاهل من كتاب عصره لأسباب شخصية، وهذا خطأ الكتاب المزمن، لا ينحون مشاعرهم جانبًا أثناء الكتابة!وفيما يبدو أن حقد كتاب عصره عليه كان عارمًا بالقدر الذي معه لم يكن تجاهله فقط كافيًا لتهدئة قلوبهم روجوا شائعة تدعي أنه “نحس”، ولا أفهم سر جاذبية هذه التهمة في كل زمان ومكان، ولقد نجحوا إلي حد بعيد، لقد راجت الشائعة فعلاً ونجحت في كسر حاجز الزمن حتي طرقت بوابات “عباس العقاد” فصدقها واشترك في الترويج لها، وادعي أنه عندما عقد العزم علي الكتابة عن “ابن الرومي” (كسر ساقه ما لا يكسر)، وأن مطبعة قد احترقت عندما أراد صاحبها نشر كتاب عنه!وكتاب عصره، بالإضافة إلي الترويج لنحسه، تعمدوا أيضًا حجب اسمه عن الموسوعات الأدبية القديمة والتراجم وكتب تاريخ الأدب كـ “أغاني أبي الفرج الأصفهاني” و “العقد الفريد” لـ “ابن عبد ربه” وطبقات “ابن المعتز” و “الكامل في اللغة والأدب لـ ” المبرد”، لأسباب شخصية!لقد تجاهله “ابن المعتز” في طبقاته لأنه هجا أباه بقوله:
دع الخلافة يا معتز من كثـبٍ / فلـيس يكسوك منها الله ما سلـبا
وهو لم يهج “المعتز بالله” وحده، لقد عاصر “ابن الرومي” ثمانية من خلفاء بني العباس، وكانت علاقته بهم جميعًا سيئة، وكانوا يرفضون مديحه ويحجبونه عن الدخول إلي قصور الخلافة ويعيدون إليه قصائده، ولديهم في ذلك عذر وجيه يوضحه قول “المرزباني”:“لا أعلم أنه مدح أحدًا من رئيس أو مرؤوس إلا وعاد إليه فهجاه، ولذلك قلت فائدته من قول الشعر وتحاماه الرؤساء”
وتجاهله “المبرد” لأنه رجمه بالشذوذ والخنوثة:
ودَّ المـبرِّد أن الله بَـدَّله / من كل جارحةٍ في جسمه دُبُرا
فاعطه يا إله الناس منيته / ولا تُبَقِّ له سمعًا ولا بصرا
أما سبب تجاهل “الأصفهاني” له فهو في عهدة “عباس العقاد” حيث يقول:
“سكت (أبو الفرج) عن هذا الشاعر اتقاء لمن هجاهم وأقذع في هجائهم من سروات زمانه وأولهم أستاذ (أبي الفرج)، ولعله سكت لأسباب أخري، وبعض هذه الأسباب أن صاحب الأغاني لم يكن مستطيعًا أن يقدر (ابن الرومي) حق قدره وأنه كان أمويَّاً، وكان (ابن الرومي) شديد الكراهية للأمويين”وكل من قرأ “ابن الرومي” يعرف جيدًا ألا أحدًا من أهل زمانه سلم من سلاطة لسانه، وكان في هجائه ديمقراطيّاً سابقاً لأوانه، لا فرق عنده بين خليفة ولا جار ولا حمال ولا شرطي ولا شاعر ولا فقيه ولا نحوي ولا قاض ولا عالم ولا وزير ولا كاتب، حتي أن هجاءه طال مغنية اسمها “شنطف”:
شنطفُ يا عوذة السموات والأرض .. وشمس النهار والقمر
إن كان إبليس خالقاً بشرًا .. فأنت عندي من ذلك البشر
المضحك أن أباه حتي كان من بين ضحاياه، ليخلد “ابن الرومي” عقوقه في بيت مثير:
لو كان مثلك في زمانِ محمَّدٍ / ماجاء في القرآن برّ الوالدِ
“جرير” فعل ذلك أيضًا، كما هجا “الحطيئة” أمه!
وما من شك أن “ابن الرومي” قد تأثر كثيرًا بـ “دعبل الخزاعي”، ولعل شهرة الأخير في الهجاء قد امتصت ذهنه مبكرًا جدًا، ويقال أن أول شعر له كان هجاءًا في زميل له بالكُتَّاب، ولقد فطن “أبو العلاء المعري” إلي تلك العلاقة بوضوح فقيدهما جنبًا إلي جنب في بيتٍ واحد:
لو نطق الدهرُ هجا أهله / كأنه “الروميُّ” أو “دعبلُ”!
لكن الفرق العارم بينه وبين أستاذه “دعبل” هو قدرة “ابن الرومي” المذهلة علي تصيد اللحظة الشعرية في ذروة حرارتها واختراقها من الداخل وتوظيفها حتي جذورها في شعره، وبالقدر نفسه، خيالاته المجنحة!علي سبيل المثال، لا يستطيع “دعبل” ولا غيره أن يسقط علي هذا المعني عندما يهجو رجلاً اسمه “عيسي” بالبخل:
یُقتِّرُ عیسي علی نفسِهِ / ولیس بباقٍ ولا خالدِ
فلَو یستطیع لتقتیره / تنفّسَ من مِنخرٍ واحد
يقصد أن “عيسي”، ذلك المسكين الذي وضعه سوء طالعه في طريق “ابن الرومي”، لشدة بخله، لو استطاع أن يتنفس من ثقب واحد من ثقبي أنفه لفعل!كما لا يستطيع “دعبل” ولا غيره أن يوظِّف بيتاً فارغاً في الهجاء كما فعل “ابن الرومي” عندما قال:
مستفعلن فاعلن فعولُ / مستفعلن فاعلن فعولُ
بیتٌ كمعناك لیس فیه / معنی سوی أنّه فضول
يقصد أنه مجرد فضول علي الحياة وأهلها، فارغٌ من المعني!
كما لا يستطيع “دعبل” ولا غيره أن يتخيل أنفاً يمتد من “فلسطين” إلي “مكة”:
لك أنف يا ابن حربٍ / أنِفت منه الأنوفُ
أنت في القدس تصلي / وهو في البيت يطوف
لعبقريته هذه وجاذبية شعره، علي الرغم من إصرار معاصريه علي احتجاز الضوء عن الوصول لاسمه، ظل اسمه يتنامي بمرور الأيام، ويستثير حماس المؤجلين للكتابة عنه والانتصار له حتي قال “المرزباني” في ” معجم الشعراء “:“أشعرأهل زمانه بعد (البحتري)، وأكثرهم شعرًا، وأحسنهم أوصافاً، وأبلغهم هجاءًا، وأوسعهم افتناناً في سائر أجناس الشعر وضروبه وقوافيه يُرَكّب مِن ذلك ما هو صعب متناوله على غيره، ويلزم نفسه ما لا يلزمه، ويخلط كلامه بألفاظٍ منطقية يُجَمِّل لها المعاني، ثم يفصلها بأحسن وصف وأعذب لفظ، وهو في الهجاء مقدم لا يلحقه فيه أحد من أهل عصره غزارة قول وخبث منطق”وكلام “المرزباني” كلام يفضح وعيه العميق بصناعة الشعر كما وعيه العميق بأبعاد “ابن الرومي”، غير أنه أخفق في حكمه بأن “البحتري” أشعر من “ابن الرومي”، ربما لم تصل “المرزباني” رواية تؤكد أن “البحتري”، لوعيه العميق بفداحة أدوات شاعرنا، كان يعطيه (أتاوة) خشية من أن يناصبه الهجاء، حدث ذلك بعد هجوم “ابن الرومي” المباغت عليه عندما قال:
قبحاً لأشياء يأتي البحتريُّ بها / من شعره الغثِّ بعد الكدِّ والتعبِ
شعرٌ يغير عليه باسلاً بطلاً / وينشدُ الناسَ إياه على رتب
لا مناطق رمادية عند “ابن الرومي”، لا نفاق ولا مهادنة في عصر يستمرئ أهله النفاق والاتهام بالكرم وبالبطولات الوهمية، لذلك، كان “البحتري” ومن هو أقل منه بكثير، بكثير جدًا، يحرزون الأموال والضياع والشهرة وهو يراوح مكانه، كان ذلك هو السبب المفصلي لكل خيباته وفشله لا قوله في هجاء “البحتري”:
الحظُّ أعمي، ولولا ذاك لم نَرَهُ / للبحتريِّ بلا عقلٍ ولا حسبِ
ليس الحظ بالتأكيد هو سبب صعود “البحتري” إنما تفهمه الغائر لزمانه وامتلاكه التام لأدوات التعامل مع أهل زمانه لا كـ “ابن الرومي” الذي تفرد دون غيره من الشعراء بوعيه العميق بأزمة الناس الأخلاقية، وبدناءة زمانه الذي لا يصعد فيه إلا الرعاع وسفهاء القوم، ولكنه أبي أن ينسجم مع ذلك الوضع أو يتأقلم معه حتي!وهذة رواية مؤكدة تختزل كل عصر “ابن الرومي” بوضوح صارم:
عندما مدح الوزير ” أبو الصقر إسماعيل بن بلبل” بقصيدة منها:
قالوا أبو الصَّقر من شيبان قلت لهم / كلاّ لعمري، ولكن منه شيبان
قال “أبو الصقر” لما سمعها:
– هجاني والله!
قيل له:
– هذا من أحسن المديح، واسمع ما بعده:
وكم أبٍ قد علا بابن ذرى شرفٍ / كما علا برسول الله عدنان
فقال:
– أنا بشيبان، ليس شيبان بي
قيل له:
– فقد قال:
ولم أقصَّرْ بشيبانَ التي بلغتْ / لها المبالغَ أعراقٌُ وأغصانُ
لله شيبانُ قومٌ لا يشيبهم / روعٌ إذا الروع شابت منه ولدانُ
قال:
– لا والله، لا أعطيه أبدًا

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

ملحق العدالة

mulhaq-preview

استبيان

الطقس في بغداد

بغداد
28°
28°
Sat
30°
Sun
الافتتاحية