Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

نحو ثقافة بلا مثقفين

نحو ثقافة بلا مثقفين
ادب وثقافة - 1:24 - 26/10/2015 - عدد القراء : 1200

بعد انهيار جدار برلين وانتشار الإنترنت ثم اندلاع الثورات العربية التي وصلت أخيرا إلى شوط الضربات الترجيحية بين فريق بوتين وفريق باراك أوباما.. تكون هذه هي أهم العوامل الأساسية التي أسهمت بشكل مباشر وغير مباشر في إسقاط المثقف من أدواره التقليدية التاريخية، التي قام بها منذ بداية القرن العشرين، غداة دخول العالم أجواء الحرب الباردة، وكانت أدواره إقتداء بالمثقفين الاشتراكيين في الاتحاد السوفييتي واليساريين في أوروبا الغربية وأمريكا اللاتينية.لقد حاول المثقف العربي عبر هذه المحطات التاريخية الثلاث أن يضطلع بدوره الطليعي والمسؤول، متقمصا تارة دور المفكر والأديب المقاوم خلال الاستعمار وتارة دور المناضل المعارض خلال الاستقلال، ثم أخيرا دور المثقف المحاور الديمقراطي المدجج بالقوة الاقتراحية والمشروع السياسي البديل بعد انهيار جدار القطبية الثنائية وولوج العالم إلى ما بات يسمى بالنظام العالمي الجديد ذي القطب الواحد، القائم على استراتيجية هيمنة الرأسمال والليبرالية المتوحشة والاستثمارات العابرة للقارات، في إطار الشركات المتعددة الجنسيات.ولا مراء في أن الصراع الإيديولوجي وتباين مواقعه قد نمط إلى حد ما صورة المثقف في ذهنيات المجتمعات العربية، إلى درجة جعلت منه ذاتا مطواعة اللسان مذعنة لتعليمات مجلس الثورة، ورأي الرئيس، إما بتكريس ميكانيزمات المشهد السياسي والذود عن المصالح العليا وفق الإيديولوجيا السائدة، باعتباره مثقفا محافظا أو إصلاحيا، وإما بالعمل الممنهج على بلورة مشروع فكري انتقادي يروم التشكيك وهدم البنى الفكرية النقيضة والمناوئة.وتأسيسا على هذه القاعدة الناهضة على ثنائيات تعارض الفكر والفكر الآخر تشكلت أطاريح وتصورات فلسفية كان لها الأثر العميق في إذكاء الحرب الإيديولوجية التي لا تختلف خسائرها الرمزية والمعنوية والسيكولوجبة عن حروب الدمار الشامل، باعتبارها حربا فكرية تستعمل كل الوسائل والوسائط الظاهرة منها والسرية، المكشوفة والمندسة بهدف التوغل في مختلف البنيات الفكرية والمادية للآخر بهدف تدميرها ثم السيطرة عليها. ومع انهيار جدار برلين أواخر الثمانينيات، إن لم يكن قبل ذلك سياسيا، أي منذ تحولات البريسترويكا التي قادها الرئيس السوفييتي السابق غورباتشوف ورفاق مجلس الدوما الإصلاحيين، تفككت المنظومة الفكرية الستالينية ذات القبضة الحديدية وانعطفت بـ 180 درجة غربا، من خلال النقد الذاتي البناء، وتقييم أخطاء سياسة الخط المستقيم ورفع الحظر عن الأسئلة المحرمة التي راكمها في صمت جل المثقفين السوفييتيين الليبراليين اتقاء النفي إلى صقيع سيبيريا منذ ثورة 17 أكتوبر/تشرين الأول.ولم يعد للمثقف الشيوعي بعد هذا الانقلاب الإيديولوجي تلك الهالة النمطية والكاريزما المحافظة، وذابت شخصيته التقليدية أو تم تذويبها بين أمواج الانتقال إلى المرحلة الجديدة، ما حتم عليه التحلل الصعب، الكلي والإرغامي من بروفايله الكلاسيكي كلسان وصوت للسلطة الشعبية والعمل على الانسجام مع ضرورات المرحلة الجديدة، وبالتالي فرض السؤال الأساسي نفسه على المشهد الثقافي برمته: أين المثقف الإصلاحي والمحافظ والثوري والعضوي والملتزم إلخ..؟ لم يختلف واقع أفول المثقف عن دوره الطليعي في النظام السوفييتي بعد انهيارالمعسكر الشرقي عنه في بعض دول العالم العربي حلفاء الاتحاد السوفييتي البائد، مثل العراق وسوريا وليبيا والجزائر على الخصوص، هذا القطر العربي ذي النظام السياسي العسكري الغامض، الذي أدى الثمن باهضا بسبب الزلزال الإيديولوجي بعد تفتيت المعسكر الشرقي (حلف وارسو) ما أدى إلى اندلاع أعمال عنف ذهبت بأرواح عديد من المثقفين والإنتلجينسيا والتقنيين الذي شكلوا على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الاستقلال بوق الحزب الحاكم في البلاد جبهة التحرير الوطني الـFLN.ولم تستثن هذه الأعمال الإرهابية التي نسبت كلها للجماعات الإسلامية المتطرفة بقيادة جبهة الإنقاد الإسلامي FIS وزعيمها عباسي مدني، حتى الفنانين على اختلاف توجهاتهم وتياراتهم وأجناس تعبيرهم (المطرب معطوب الوناس والمسرحي عبد القادر علولة ..إلخ) لكونهم يعتبرون جزءا لا يتجزأ من المنظومة الرمزية والفكرية المهينة التي يرعاها النظام العسكري المتسلط، على الرغم من مظاهر الندية بينها وبين هذا النظام.ــ هل كان من الصدف التاريخية أن يتزامن اختراع الشبكة العنكبوتية (الويب) مع انهيار جدار برلين وتفكيك المعسكر الشرقي الشيوعي وتكسيرالجدار الإيديولوجي الرابع والرفع الصوري لستار الرقابة على كل ما هو قادم من الضفة الأخرى، أي من الغرب وأنماطه الاستهلاكية المتنوعة التي تعمل ماكيناتها على إشباع رغباته الحسية والمعنوية بكل حمولاتها المتحررة والمنتصرة لتمجيد الأنا المفردة والذات المتمركزة حول نفسها وتحريرها من هيمنة الفكر الشمولي وتدبير الشأن العام بعقلية القطيع.ومن دون شك أن اختراع الإنترنت يعتبر انقلابا بشريا أرخ لولادة الكونية الرقمية والإنسان الافتراضي الذي لم يعد مرتهنا لقيمتي الزمان والمكان الفيزيقيين. لقد صار كل إنسان تحدد هويته من خلال صورة مفتوحة وعائمة في المحيط الشبكي، حيث المجموعات المتعددة الجنسيات التي تجمعها قواسم مشتركة تنصهر في بوتقتها كل الهويات في هوية واحدة.ولكون الإنترنت قبل كل شيء وسيطا تواصليا ومنصة للنشر بمختلف أسانيده الخطية والصوتية والصورية، بكل ما تروجه أيضا هذه الأسانيد من أجناس أدبية ومعرفية وفكرية وفنية.. ولكون هذا المارد الشبكي لا يعترف بالحدود الوهمية بين الشعوب، فإن أسئلة الهوية والخصوصية المحلية قفزت إلى واجهة كل الأسئلة الكبرى التي فجرها هذا الإنترنت.ولعل ما يميز هذا الاختراع الذي جاء بعد عصر السموات المفتوحة بالصحون المقعرة، كان في المقام الأول النشر الذاتي (auto-edition) المتحرر من كل أشكال الرقابة القبلية (الذاتية) والبعدية (السلطوية) ومصفاتها من خلال التواصل الحر عبر «الميسنجر» ورسائل المايل والمدونات والمنتديات والمواقع الإلكترونية الخاصة، وأخيرا شبكات التواصل الاجتماعية (فيسبوك وتويتر ولينكدإن) وغيرها …لم يعد المثقف في هذا الكوكب الأزرق هو مثقف الأمس لسان الحزب أو السلطة أو الطبقة الاجتماعية، برجوازية كانت أم وسطى، بل صار مثقفا كونيا وذاتيا في الوقت نفسه، منغمرا في شبكات لا حدود لها من القراءات العالمية.. لقد صار كاتبا وقارئا ومتابعا في الوقت نفسه، بمعنى أنه صار مثقفا متعددا.. مفردا بصيغة الجمع وجمعا بصيغة المفرد، يمارس شغبه الشبكي من دون أسماء محدودة، وصارت كتاباته ونصوصه نصوصا مفتوحة على كل الانتماءات والهويات عن طريق التفاعل معها من خلال التعليقات والتنويهات وعملية البارطجة (المشاركة) وكأن الثقافة بشكل عام صارت ثقافة كونية واحدة، حيث أننا نحتفي بنصوصنا كما نحتفي في اللحظة نفسها، بنصوص الآخر المختلف، حيث تغذو نصوصنا في ملك الآخر أيضا، النص اليوم بات نصا عالميا جاهزا لكل من يبحث عنه في مربع البحث الغوغولي، وهذا ما يمكن أن نسميه بدمقرطة المعرفة والمعلومة لا رمزية الأسماء ووزنها الثقافي.
بعد انهيار جدار برلين وانهيار جدار الرقابة الشبكية، كان أيضا لاندلاع الثورات العربية الأثر البالغ جدا، كما قلنا سابقا في تجريد المثقف من كاريزميته، بل وإسقاطه من علياء ثقافته وتكريس مسلسل تذويب شخصيته والإمعان في تدمير ما تبقى من رمزية قيمته على المستوى العربي، وقد تبدى هذا المشهد الدرامي في تواري المثقف عن أدواره الطليعية والتزامه الوجودي والفكري بالدفاع اللامشروط في الميادين عن مطالب الشعوب المقهورة التي عانت وماتزال تعاني جلها من القمع الرمزي والمادي.. الشعوب التي عانت من ترهيب الكلمة وازدراء دور الثقافة الريادي في التنوير والتوعية والسمو بقيمة المواطنة كأسمى قيمة بدل اجترار القيم التقليدية التي تجاوزها عصر التواصل والمعرفة، وتجاوزتها تدوينات مواقع التواصل الاجتماعي وفيديوهات اليوتوب التي باتت منصات للاحتجاج بدل شعارات النقابات، كما أن هذه المواقع قد سلبت المثقف دوره التقليدي باعتباره مرجعا فكريا تقدميا يقتدى به في المجتمع.
فهل بعد كل هذه الانهيارات والانقلابات التي جعلت سفينة الثقافة كما لو أنها تبحر بلا مثقفين؟ هل مازلنا في حاجة إلى دور المثقف النمطي، أم علينا أن نرضخ لتحولات الثقافة اليوم في عصر الإنترنت والرقمية والتكنولوجيا الفائقة المفتوحة على قيم الآخر، باعتبارها ثقافة بلا مثقفين، أي تراكما ثقافيا حاضرا بقوة في العالم الافتراضي، نهتم فيه بالمنتوج المعروض أكثر مما نهتم فيه بأسماء المنتجين؟عندما نقول ثقافة بلا مثقفين فإننا لا نعني بذلك أن الثقافة تحقق تراكمها ذاتيا من خلال ميكانيزم آلي يجدد ذاته بذاته ولذاته وللآخرين، بل إننا نعني بهذا أن المنتوج الثقافي في عصر فضاءات الرقمية المفتوحة والشبكة العنكبوتية وتشعباتها اللامحدودة، بات عبارة عن وعاء فكري ومعرفي وأدبي كوني واحد، لا يكترث فيه المتلقي بالأسماء أكثر مما هو مكترث بالإنتاجات وبنياتها، محتوياتها وجمالياتها ورموزها وأثرها في التراكم العام للإنسانية وليس للوطن الأم فحسب.ومن دون شك أن تحول المنتوج الثقافي من الأسانيد التقليدية (كتب ورقية.. أسطوانات.. صور فوتوغرافية ..إلخ) إلى أسانيد رقمية قد سلبها الكثير من الخصوصيات التي انصهرت إن لم نقل تلاشت في (تسونامي) الإنترنت، وهذه خاتمة ما وصلت إليه الثقافة إلى كونها غذت ثقافة عالمية متحررة من هاجس الجمركة وبكونها ذات ملمح إنساني بالأساس، مثل بحر يصعب على الصياد أن يحدد بين أمواجه المتلاطمة بين ماء هذا النهر أو ذاك من روافد الأنهار، إذ ان هذه الأنهار كلها تصب فيه وتسهم في ملء وعائه من دون أن تهتم بتحديد منابعها، أو مثل سيمفونية تضم العشرات من العازفين العالميين، لا تحسب توليفة عبقريتها الإبداعية لمؤلف واحد، بل لجميع أفراد الأوكسترا التي يهتم الجمهور بمعزوفتها وليس بأسماء العازفين.ومما لاشك فيه أن المصباح السحري غوغل هو أيضا بما يسديه من دور أساسي في الواقع الراهن كمفتاح لاغنى عنه في البحث عن مصادر أو امتدادات المفردات أو الجمل قد أسقط دور المثقف من اهتمامات الباحثين والدارسين وعرج بهم من رفوف المكتبات الورقية إلى التركيز على الكلمات المفاتيح بدل النبش عن أسماء المؤلفين والمثقفين. من خلال هذه الصورة المستجدة والملتبسة ألم تعد الثقافة اليوم ثقافة بلا مثقفين؟

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

ملحق العدالة

Screenshot 2024-05-16 at 00.19.17

استبيان

الطقس في بغداد

بغداد
23°
37°
Mon
38°
Tue
الافتتاحية