Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

أدباء عراقيون: ثلاث سنوات غيّرت من بنيتنا ووعينا تجاه الآخر

أدباء عراقيون: ثلاث سنوات غيّرت من بنيتنا ووعينا تجاه الآخر
ادب وثقافة - صفاء ذياب - 0:40 - 13/12/2015 - عدد القراء : 899

ثلاث سنوات مرَّت على المدن العراقية لم نتمكن فيها من الحياة.. ربما سيتفاجأ كثيرون لماذا ثلاث سنوات فقط، في حين أننا نعيش منذ ما يزيد عن أربعين عاماً خارج هذا العالم، نعصر الحياة كليمونة يابسة وننتظر منها قطرة واحدة نغير فيها طعم أيامنا، غير أن كل ما مرَّ على العراق من حروب وحصار واعتقالات، لا تساوي الثلاث سنوات القاتلة، التي ابتدأت منذ عام 2005 وحتى عام 2008.. وهي أعوام ما عُرف بالحرب الأهلية الحقيقية في العراق، فكل المدن كانت مخيفة، خصوصاً ما يحيط بالعاصمة بغداد!كانت مدن ديالى والمحمودية واليوسفية والوحدة وغيرها بئراً لا تنضب لـ»القاعدة»، راح على أطرافها مئات الآلاف من المواطنين من دون ذنب إلا لأنه شيعي أو سني لا ينتمي لسلفيتهم، وقتل أدباء كل ذنبهم أنهم كانوا يرتبطون ببغداد في عملهم مثل الشاعر أحمد آدم، أو لأنه كان صحافياً في كركوك مثل الشاعر رعد مطشر، أو لأنه يعيش في مدينة مثل الموصل مثل الشاعر حاتم حسام الدين وغيرهم الكثير.الحديث عن حربنا العراقية بأوجهها العديدة وفصولها المثقلة يشبه لعبة انزلاق طويلة، كل شيء ينحدر على نحو سريع، يغادر طبيعته ويتلبّس معنى مغايراً، معنى دونياً ينطوي على البشاعة مثلما ينطوي على الكثير من الألم، وهو يسعى لوعي اللحظة الإنسانية وقد أثقلتها سنوات الرجاء الطويل، فقد حققت الحرب بالنسبة لنا أهم انتصاراتها وهي تطردنا عن أنفسنا، وتقصينا عن ملامحنا، وتفصلنا عن أزمنتنا لتغرقنا في نهر من العنف فتجعل منا، في طموح كل حرب، كيانات قاصرة، منخورة ومهدمة، يصعب علينا مواجهة أنفسنا بعد كل تلك السنوات والإقرار بأننا لسنا أبناءها، إنما نحن شواهد أحزانها التي تملأ الأفق. فما الذي فعلته بنا الحرب الأهلية في العراق؟ وكيف غيرت من بنيتنا الثقافية؟
حملات إبادة
الناقد ناظم عودة يشير إلى أن الشارع العراقي كان يفقد طابعه الذي اختزن فيه تاريخ آبائنا وأجدادنا؛ تاريخ السلوك العراقي في العمران ومزاولة العمل بأعراف خاصة، إذ يتجاور العراقيون عادة من كل صنف ولون من دون أن تنشأ أي حساسية عرقية أو طائفية من النوع الذي يجري الآن. كان ثمة تنظيم للأسواق والمحال التجارية والأرصفة ونوع المهنة وواجهات المحلات والملصقات، لكن هذه الأعراف دُمِّرت الآن في فوضى التعبير عن الهوية تارة، وضعف القانون أو عدم القدرة على تطبيقه في ظل الانهيار الأمني تارة أخرى. مضيفاً: كان الناس يمشون في الشوارع والأسواق والمحال التجارية ويعلقون بصوت مهموس أو مسموع، ومن تلك التعليقات عليك أن تكتب تاريخ هذا البلد الذي يمرّ بواحدة من أقسى المحن التي تعرّض لها شعب في العالم. ومن هذه التعليقات، يكون بوسعك أن تميّز الطائفة والعرق، وأحياناً حتى الموقف السياسي الأيديولوجي. هؤلاء الناس فُتحت أفواههم، وها هم يحللون ويشرحون كلّ شيء، لكنهم يتحاشون الوصول إلى الكاريزمات الدينية الجديدة. بيد أنّ هذه التعليقات، هي نموذج آخر من نماذج التعبير عن الهوية وتوكيدها.ويؤكد عودة أنه على خلفية تلك الحرب الداخلية، فإن الشارع العراقي الحامل لثقافة ماضيه، بات الآن يتأسلم أحياناً، وينزلق إلى الفوضى التي لا طابع لها أحياناً أخرى. فأنت ترى هذا بوضوح عندما تتجول في الشوارع، وسوف تستمع إلى تسجيلات دينية لخطباء أو زعماء أو تسجيلات لشعائر معينة، أو تقع عيناك على صور الرموز الدينية الملصقة على الجدران وواجهات المحال، أو تستمع إلى النغمات والأغاني الخاصة بالموبايل. حتى وأنت تتنقّل في التاكسي أو الأتوبيسات سوف تلحظ هذا الهوس بالتعبير عن الهوية، ولاسيما لدى الشيعة الذي تعرضوا إلى أسوأ حملات الإبادة والقمع والتنكيل وغمط الحقوق.
انتماء مسيّس
في حين يبين الناقد والمترجم علي حاكم أن حبّ الحياة ليس غريزة إنسانية فقط، إنما هو أيضاً خبرة إنسانية، يخبرها الفرد الواحد بما هو كذلك. والعيش فنٌ كما يقال، والعيش الاجتماعي علم. خلت للأسف ثقافتنا العراقية من هذا الفن وهذا العلم. شعاراتياً كنا نفكر بالمستقبل الذي لا يجيء أكثر مما نفكر بالحاضر، وننتمي في تفكيرنا ذاك إلى خارج المكان فكرياً وزمانياً. موضحاً أن كل هذا أفضى إلى نوع من التدمير الذاتي. تدمير لا يهدف إلى شيء آخر سوى التدمير. والوعي الذي ينحبس في هذا الخيار، الذي هو في حقيقته ليس خياراً، لن يستطيع أن يؤسس لحياة. وما يبدو لحد الآن من حلول لواقع مرّ ليس سوى محاولات للالتفاف على هذا الواقع واستثماره لغايات محسوبة تستغل الغضب هنا أو هناك، مستغلة عواطف الناس الذي ملّوا كلّ شيء. ويرى حاكم أنه بحكم تجارب الديكتاتورية، وما أعقبها من مسلسل التدمير الذاتي، أن أي تفكير مناطقي أو إقليمي لن يقود إلاّ لتسليم البلاد لقيماتٍ سائغةً، وملحقياتٍ لدول أخرى. ولعل الإفلاس الآيديولوجي الذي انتهى إليه الصوت العقائدي، بأطيافه كافة، قمين بأن يعيد المثقف الوطني إلى التفكير بالذات بشكل علمي.
واستعادة لحظة كان قد مثلها مرة واحدة المفكر علي الوردي، لحظة يمكن تسميتها «لحظة الوعي الذاتي». والذات هنا العراق. ليست العودة محض اجترار لما قاله الوردي، فلربما كان كل ما قاله الوردي مجرد أفكار وتشخيصات خاطئة، إنما هي إحياء للحظة الوعي نفسها التي تتجه إلى ذات محددة زمانياً ومكانياً من دون مزاعم شوفينية ولا استعلائية أو دونية. لقد خسرت الثقافة العراقية الكثير، وهي جزء من خسارات الناس أنفسهم. وفقدت استمراريتها التاريخية. وهذا انفصال لم يكن وليد اليوم، إنما جاء أصلاً بسبب التنافر الأيديولوجي المتحزب الذي كان قد وسم الثقافي في الغالب. وبث روح التواصل التاريخي بين مراحل هذه الثقافة، وتجاوز حطام المناكدات الجيلية، والتخوينية الشائعة هذه الأيام، لا يكون بغير ارتفاع المثقف نفسه على أي اصطفافات آنية قد تكون، كما ثبت لنا في خمسينيات وستينيات القرن الفائت، مكتنفة بأخطار جنينية. إن الانتماء الديني المسيّس، والحزبي القائم على رومانسية فادحة، والقومي اللاواقعي، لا يفعل غير أن يضع العربة أمام الحصان لو صح التعبير. فجميع هذه الاصطفافات من دون استثناء لا تفعل غير أن تغيّب الناس، وتبرّز الجهات.
خراب رومانسي
من جانبه يكشف الشاعر والروائي عباس خضر أنه بعد عام 2003 كان إقصاء العنف وتغيير مسار العراق عن المسار المتعارف عليه هو أهم المهمات العراقية في زمن ما بعد الديكتاتورية، ولكن لم ينظر إلى هذه الموضوعة سياسيا وثقافياً بشكل جدي، وانعكست على الواقع العراقي مرة أخرى ببشاعة لا تصدق. القتل على الهوية أصبح هو العنوان الرئيس للرومانسية السياسية العراقية السنية والشيعية والكردية. لقد فشلت التجربة العراقية الديمقراطية في وجهتها العميقة ونجحت سطحياً، والسبب يعود كذلك (إلى جانب أسباب عديدة أخرى) للسياسي والمثقف العراقي ورومانسيته العنيفة. ولهذا لم استغرب عندما قرأت لشاعر عراقي قصيدة يمدح فيها سيف علي بن أبي طالب «مرثية سيف علي» وكأن العراق بحاجة لسيف آخر ولمزيد من الدم. ولم أستغرب عندما قرأت قصيدة رومانسية بحب العراق ومواجهة الاحتلال لسامي مهدي وهو الذي كان وقف برومانسية خلف عسكر البعث وأجج الحروب بحبّ لا يصدق. ولم أستغرب عندما استمعت إلى وزير ثقافة عراقي وهو يقول «أنا أتبع سياسة حرق السفن» بعد أن أقيل من منصبه.وكذلك إلى برلماني أقيل من منصبه، وهو يقول «سنحرقها ونطرد الاحتلال» ولم أسمع أو أقرأ أي رد على هذا البرلماني مثل: «أطرد يا أخي الاحتلال لكن لماذا الحرق؟» صحف تمجد هذه الطائفة وتذم الأخرى. فضائيات تلعب الدور الصحافي إياه بجدارة. الكل بلا استثناء يحب العراق برومانسية لا تصدق، ومن خلال الرومانسية هذه يجد مبرراً لتصفية الآخر. الجيش العراقي يعود مرة أخرى وهذه المرة كذلك بأغان تلفازية عسكرية مشابهة لأغنية «يا حوم أتبع لو جرينا» في زمن الحرب العراقية الإيرانية. لقد أطلقت اليد علانية لحركات إسلامية شيعية وسنية بتحطيم وتفجير محلات بيع الشرائط الموسيقية وكذلك صالونات الحلاقة باعتبارها «مظاهر غير إسلامية»، ولا تصلح لعراق رومانسي في مخيلة عشاقه. وغيرها من أمثلة هذه العنف باتت منذ عام 2003 كثيرة. جماعات سنية تصفي جماعات شيعية باسم حب الوطن. وأخرى شيعية تصفي سنية باسم حب الوطن. يا لهذا الوطن المعشوق من الجميع! أقدره أن يتقاتل محبوه ويقتل بعضهم الآخر عشقاً فيه؟
ويلفت خضر إلى أن الأمر في حقيقته يتجاوز مرحلة العشق ويدخل في مصالح أخرى وظروف سياسية ودولية لا مجال لذكرها. لكن الرومانسية العراقية ما زالت شاهداً. ولا يريد خضر أن يكثر من الأمثلة هنا عن عراق ما بعد 2003. فهي ما زالت تحوم في البيوت العراقية وشوارع البلاد طولاً بعرض. أمثلة مخيفة ولا تبشر إلا بخراب لا يصدق وسببه رومانسي! السؤال الأهم: هل انتهى زمن الديكتاتورية؟ وهل استطاع العراق الجديد، أن يجد الطريق إلى السلام الروحي أولاً؟أما الكاتب جمال العميدي فقد دوَّن يومياته عن تلك السنوات، لكنه بقي خائفاً حتى الآن من نشرها لما ستثيره من رعب لمن لم يمر به.. فيقول عن حادثة جسر الأئمة التي كانت سبباً مهماً لتأجيج هذه الحرب: مشاهد الكارثة تأبى أن تفارق خيالي. الجثث مُمزّقة تنتشر في الشارع، وقِطَع اللحم البشري منثورة حتى على الأبنية، وعلى مسافات بعيدة من موقع التفجيرات. قذائف مورترز، حقائب متفجّرة، أحزمة ناسفة يلفّها انتحاريون حول أجسادهم. الفرضيات متعدّدة والحقيقة الدامية واحدة. كانت كربلاء حينها لا تعيش، كعادتها، طقساً سنوياً لإنعاش الذاكرة، بل تستعيد بشكل واقعي قاسٍ ومروّع، تراجيديا العاشر من المحرّم. الحشود تُعيق عملية وصول المُسعفين، مثلما تُعيق محاولات نقل الشهداء والجرحى بعيداً عن موقع الحادث، باستعمال عربات الطماطم والقثّاء. المشاركون في إحياء الذكرى، في الجانب الآخر، يواصلون أداء طقوسهم وكأنّ شيئاً لم يحدث، من أجل أن «لا ينكسر العزاء»، في حين ينهال بعضهم بالضرب على أحدهم، لأنهم اعتقدوا أنه كان مساهماً في عملية التفجير، والشرطة تنقذه من الحشود بشقّ الأنفس. المحطات الفضائية تغطّي الكارثة نفسها من الكاظمية، مثلما غطّت بالأمس هجمات كردستان الإرهابية في صبيحة عيد الأضحى، وحملة الاغتيالات الإجرامية المتكرّرة التي تطال أئمة جوامع السّنة وعلماءهم، ودور عبادة المسيحيين والمندائيين والأيزيديين، هذا فضلاً عن تسليط أضوائها الخافتة على حملة شيطانية تستهدف العقول العراقية المفكّرة والمنتِجة، من أجل الانقضاض على ما بقي للبلد من ثروة بشرية.
الجرائم واحدة، وكل القرابين عراقية.
لقد صار وطني وكراً للثعالب، أو بلغة أخرى أكثر تقنية: «المختبر الجديد للإرهاب»، و»الساحة الرئيسية للإرهاب»، أو بلُغتي أنا: أصبح العراق منطقة جذب مثالية للإرهاب، مما أفضى إلى أن تكون أمريكا، ومع كل الاحتياطات الأمنية المتّبعة، والتحليل الواسع المتعمّق لذهنية المتطرّفين، منطقة طرد للإرهاب.إنه ثمن الخلاص من الديكتاتورية… وسانتا كلوز الاتحاد المحافظ الأصولي الجديد يُخرج لنا من كيسه، كل يوم، سيارات مفخّخة وقنابل موقوتة وألغام مزروعة، وقبل هذا وذاك: ديمقراطية بطعم الدم والبارود.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

ملحق العدالة

استبيان

الطقس في بغداد

بغداد
25°
35°
Sun
36°
Mon
الافتتاحية