Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

«أن تسافر» مع العربي بنجلون: عوالم أخرى بحسّ سردي ساخر

«أن تسافر» مع العربي بنجلون: عوالم أخرى بحسّ سردي ساخر
ادب وثقافة - 1:15 - 03/02/2016 - عدد القراء : 703

لعلّ شغفي بأدب الرحلة وبالتجربة المتميزة للكاتب المغربي العربي بنجلون دفعاني للبحث عن كتاب «أن تسافر» الذي رأيت غلافه عبر صفحات المواقع الاجتماعية، كانت رؤية الغلاف كافية لتجعلني أبحث عنه، ولكنّ العربي بنجلون كان سبّاقاً إلى الفضل، فرحت أقرأ الكتاب بشغف لم ينطفئ، حتى آخر صفحة منه.جاء كتاب «أن تسافر..» في مئة وواحد وسبعين صفحة، ويضم فهرسه أربعة عشر عنواناً، يشير كلّ منها إلى حكاية وبلد ورحلة وطريقة غنية في الحكي. جمع غلاف المجموعة بين البحر والسماء وزرقة ممتدة على مساحته، مع صورة شخصية للكاتب يركب البحر، وينظر إلى الأمام باحثاً عن مكان مجهول لم تطأه قدماه، وقد كان طائر البحر الأبيض حاضراً بجناحيه القويين في الخلفية البعيدة. غلاف يحثّ كل تفصيل فيه على السفر بمعية كاتب مستبصر.العربي بنجلون الكاتب المغربي، كان شفافاً أمام قارئ مفترض محب للكتابة ولأدب الرحلة، فقد قال موضحاً في تقديمه غايته من الكتاب: «وفي هذه الرحلات، التي عنونتها بـ»أن تسافر..» بمعنى ستشاهد ما لم تره عيناك، أو تسمعه أذناك من قبل، سيلمس قارئها عناصر مشتركة بينها، هي المكونة لمفهوم الرحلة».اللمسة التي أضافها العربي بنجلون على رحلاته تجعل القارئ يقف منبهراً؛ فقد كانت أسفارنا تتقاطع أحياناً مع أسفار الكاتب التي خصص لها كتابه، ولكن الحس الفكاهي الساخر الذي سرد به رحلاته جعلنا نكتشف أمورا أخرى ما كنا نتفطن إليها، من خلال توجيه اهتمامه ببعض السلوكيات التي صادفها خلال تلك الأسفار، في وجهيها الإيجابي والسلبي.أن تسافر، يعني أن تستمتع، والاستمتاع هنا ثلاثي الأبعاد، يحققه القارئ من خلال أسلوب الكاتب، ومن خلال المعلومات التي يقدمها عن الأمكنة، والإحساس بمرافقة هذا المسافر الفذّ في أسفاره الممتدة عبر عدد من الدول، وعلى مدى أكثر من أربعين عاماً.إن طول مدة الأسفار، وتواريخها المتباعدة، والكتابة من عين المكان، أو من خارجه، لم تترك هوة لدى القارئ، فتسريد الرحلة لم يكن دائما مصاحبا للسفر، ولكنّ إحساسنا بأن الكاتب يكتب من عين المكان لم يغب أبداً، وقد قال موضّحاً ذلك: «بعض هذه الأسفار، كتبته في حينه، وأنا ما أزال في عين المكان، قبل أن يفلت مني، وبعضها الآخر، حين عدت إلى أرض الوطن، منقبا بين ثنايا ذاكرتي، وإن كانت الذاكرة تخدعنا أحيانا، فلا تذكرنا إلا بما نريد، وتضنّ علينا بما لا تبغيه. لكنني أقرّ وأنا بكامل قواي العقلية أن كل ما كتبته، لا يبتعد، كثيرا أو قليلا، عن الحقيقة الموضوعية».لقد ركز الكاتب في تدوينه لسفرياته على الجانب الأدبي والإبداعي لدى أهل البلد الذي كان يسافر إليه، ذاكراً المكتبات؛ مسجلاً تواريخها المهمة وأهم تجهيزاتها، معرّجاً على المسارح، وأهم ما مُثْل على خشبتها. كما عرج على المتاحف ووصفها بكثير من الاهتمام، كما امتدّ اهتمامه إلى السينما والنوادي الثقافية، مستحضراً أسماء كتاب المنطقة وأهم ما أنجزوه.كان في كل واحدة من أسفاره يحاول الاستزادة والتعرف أكثر إلى أهم ما يميز المنطقة والوقوف على تقاليد أهلها، وإذا كانت الثقافة قد حازت همّه الأول، فإنّ ذلك لم يمنعه من الالتفات إلى العادات والتقاليد والمآكل والمشارب، فيذكر أصناف المأكولات، ويطوف بنا عبر المقاهي التي تعدّ نبض الشارع العربي، بينما تحتلّ الكتب التي يقدمها هدايا حيزاً مهماً من حقيبة السفر. الكتب التي ألّفها العربي بن جلون كانت جواز سفر لهذا المبدع، إذ فتحت له آفاقاً غير منتظرة لأسفار أخرى، على نحو ما حدث معه في دعوة الكويت التي يقول عنها:«في اكتوبر/تشرين الأول 2002 توصلت بدعوة من وزارة الإعلام الكويتية لزيارتها، تكريماً منها لما نشرتُه من أسفار ورحلات للأطفال»، ومن هنا يمكن لنا بحقّ أن نعدّ هذا الكاتب سفيرا للثقافة المغربية، وصورة مشرقة لتجلّيات تلك الثقافة. لقد كان العربي بنجلون على مدى تلك الرحلات شغوفاً بالفن السردي، بعيداً عن التدوينات التاريخية والجغرافية، فقد كانت له رؤية «تلتقط بدقة ما يميز البلد المقصود، بأسلوب غني، له خصائصه التي تقرن السرد القصصي بالسيري، وبالاجتماعي والمعرفي والجغرافي والتاريخي». وقد تميز السرد في هذه الرحلات بحضور الكاتب الإنسان من خلال علاقات تربطه مع أناس حقيقيين، استمرت عقوداً، مدّ معهم خلالها حبال المودة والإخلاص، كما حدث مع السائق الإسكندري الذي يقول عن علاقته به «وتوثقت بيننا العلاقة، حتى أصبحنا صديقين حميمين، نلتقي بين الحين والاخر».تلك الأسفار أيضاً كانت جواز سفر نحو الماضي، يجلس في المكان الحميم العريق، فيقوده ذلك إلى البحث عن مكامن الماضي في صورة الحاضر، والتوغل بعيداً في الزمن، ويستحضر حوارات متخيلة مع التاريخ، على نحو ما نجد في حديثه عن الإسكندرية، والقاهرة، وخان الخليلي، والقرية الفرعونية، والبتراء، وإربد، والكويت، والبحرين…ولم يغب الحس الساخر عن السرد، رغم اختلاف المواقف والأمكنة، فقد كان حاضراً بدلالاته الفكاهية واللاذعة، حتى في العناوين، إذ نقرأ له «إرهابي في الكويت»، و»في ليبيا.. دفنَّا الماضي»، و»قصتي مع لحيتي»، وغيرها من العناوين التي تحيل إلى مواقف ليست سعيدة، في مجملها، إلا أن الكاتب حاول أن يخفف من حدتها لتصل إلى القارئ خفيفة، وقد تخلصت من عبء الأثر الحاد عبر اللغة الساخرة. في رحلته إلى ليبيا لاحظ ما يمكن أن نطلق عليه «الاستبداد الأخضر»، حيث انتقل بنا من الماضي الذي عاشه في رحلته، وصولاً إلى الأحداث التي شهدتها ليبيا، وأطاحت بالقذافي الذي اعتقد أن الأخضر لون الإسلام، فجعله يطغى على كل الألوان. يقول العربي: «كان الأخضر يشكل الرؤية السياسية )المقلوبة( للعقيد، لأن هذا اللون له دلالات أخرى، فهو يرتبط بحياة الإنسان والأرض، وبالسلام والوئام، والتجديد والخصوبة والنمو، والاستقرار والتوازن .. والبلد كان وما زال، يفتقد هذه الأبعاد».من هنا تبدو الرحلات التي طرزت بمداد الفكاهة، أقل قتامة مما هي في الواقع، لذلك فهو يختار، في رحلة ليبيا، التجوّل بين المدن الأثرية ما يشفي روحه من عناء المدنيّة الزائفة، «لقد كانت جولتي بين هذه المدن الأثرية، بلسماً ضمد جرحي النفسي، فليبيا لا تملك من حطام الدنيا إلا تلك الآثار الباقية، ونضال الشيخ عمر المختار.. وفي لحظة، وأنا وحيد، أتطلع بعيني إلى أعلى قوس روماني، باغتني صوت خافت، يشبه صوتي تماما، يسر في أذني: غادر هذا البلد إلى مصر، فهناك تجد» ما يستحق الحياة».. وليصر حاضرنا ماضياً تدفنه، ولا تترحم عليه». كما شكّل واقع الإبداع والمبدعين لحظات أسى خيمت على الكاتب، فحمل عبئه عبر عقد مجموعة مقارنات، أو عبر استحضار الماضي القريب، من دون أن يفقد حسّه النقدي الساخر. يقول: «في سنة 1988وجه لي اتحاد كتاب المغرب دعوة للمشاركة في ندوة لتونس.. ويبدو أن الحظ ابتسم لي مرة واحدة في حياتي مع اتحاد كتاب المغرب، إذ كانت الدعوة منه، هي الأولى والأخيرة». وكثيرة هي العلامات التي تكررت على مدى مقاطع الكتاب؛ لتبرز عدم الاكتراث بالمبدع قبل أن يسطر الموت فيه كلمته الأخيرة، ويصبح وجوده ذكرى، فهو يقول: «نحن متعادلان، فأنتم احتفلتم به في حياته، ونحن في مماته، إذ أقمنا له الذكرى الأربعينية، وأصدرنا كتابا موسوماً بـ»يوم شوقي بفاس»، وتلك عادتنا مع كافة أدبائنا، لا نحتفي بهم إلا بعد وفاتهم».ونظرا للأهمية التي تشكلها المكتبات في تكوين الوعي الجماعي للإنسان، فقد رأينا في «أن تسافر» احتفاءً كبيراً بالمكتبات ودور القراءة، حتى إن الكاتب يستغرب غياب المكتبات في ليبيا، فيقول: «فطيلة الأيام السجنية التي قضيتها في طرابلس، لم أعثر، ولو بالفتيلة والقنديل على مكتبة ثانية». وإذا كان الكاتب قد انتقد ساخراً غياب المكتبات في ليبيا، فإن سهام نقده اللاذعة توجهت أيضاً للمكتبات في عموم الوطن العربي، فهو يقول مازجاً بين السخرية والمرارة: «الكثير من المكتبات، في العالم العربي، تحولت إلى محلبات وملبنات ومقشدات، أي ما يحشو البطون..».وعلى الرغم من إعلان الكاتب أن رحلاته تعتمد السرد السيري ولا تتوخى التاريخ والجغرافيا، فقد مزج مزجاً ماتعاً بينها، ليمتدّ سرده في التاريخ والجغرافية، في القديم والحديث، على نحو ما نجد في خلال حديثه عن مقهى جفرا، إذ يستحضر اسم المقهى في ذهنه ذكريات مؤثرة «جفرا النابلسي، رمز عربي، لطالبة فلسطينية، قتلها الصهاينة في بيروت سنة 1976..».ولم يغب المغرب/ الوطن عن صفحات الكتاب، فقد كنت ترى الكاتب الذي يتجوّل في بلاد عربية وأجنبية، مغربياً أصيلاً يستحضر باستمرار صورة وطنه، من خلال المقارنات بين الهنا والهناك، في خطوة يفسّرها اللغويون والاجتماعيون بأنها عودة دائمة نحو الأصل.تجربة الكاتب مع السفر، إذن، تجربة غنية، مثيرة ومثمرة، ومثلما أفاد الكاتب من رحلاته، واستمتع بها، فقد أفادنا أيضاً وأمتعنا، ونقلنا في إلى أجواء الأمكنة التي زارها، ويحسب له أنه أضفى بحسّه الساخر روحاً خفيفة على المتاعب، وجعل النفس أكثر قدرة على احتمالها.
كاتبة مغربية

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

الطقس في بغداد

بغداد
27°
27°
السبت
28°
أحد

استبيان

الافتتاحية