Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

الباحثون عن مدن لم تكن هناك… كتاب عراقيون: كل منا يكتب عن مكانه الضائع

الباحثون عن مدن لم تكن هناك… كتاب عراقيون: كل منا يكتب عن مكانه الضائع
ادب وثقافة - صفاء ذياب - 2:37 - 24/12/2015 - عدد القراء : 959

البحث عن المكان الحلم مسعى كل كاتب، شاعراً، قاصاً، روائياً، أو أي كاتب يسعى لبناء يوتوبياه الخاصة.. هذا المكان الذي يحاول الكاتب من خلاله إعادة إنتاج واقعه حين يتحول كل شيء إلى خراب.تختلف رؤية المكان من كاتب لآخر، فهو يستمد قيمته من قابليته على احتواء المتضادات والمؤاخاة بينها. فما يكون بيتاً للألفة والطمأنينة لأناس يمكن أن يشكـّل موضوعاً للخوف والعدوان بالنسبة لآخرين، المكان: مستودع كل سر، وهو يؤدي أحد أهم وظائفه في احتواء الشيء وتميّزه وحدّه وفصله عن باقي الأشياء، حسبما يرى لؤي حمزة عباس. غير أنه من وجهة نظر كاتب مثل محمد خضير يبقى حلماً، يشكل مدينة لم تخلق بعد، كما اشتغل على ذلك في كتابه المهم «بصرياثا»، في حين كان المكان الأثير لدى كاتب مثل حامد فاضل هو الصحراء، فبها يمكن أن يعاد إنتاج المدن وإخصاب فكرة اليوتوبيا من جديد.لأسباب كثيرة، ربما الحروب، تدمير المدن، إهمالها، تهديم بيوتات كانت تشكل مرجعية مهمة للعمارة العراقية، والهجرة التي لم تتوقع حتى اليوم، لكل هذه الأسباب وغيرها كثرت في السنوات السابقة ما عرف عراقياً بـ(نصوص المكان)، فما الأسباب التي دعت لإنتاج هذا الفن السردي؟ ولماذا الاهتمام بالمكان عراقياً دون غيره؟
تجدد البدء
لا يحسب المرواتي عمار أحمد أن مهتماً بالرواية أو السرد عامة، ظل إلى اليوم يجهل أهمية المكان في هذا العالم المتخيل، ويضيف: أن الاهتمام به اهتماماً استثنائياً ليكون متناً وهامشاً في الوقت نفسه، يعود إلى بعد نفسي عميق في اللاوعي. أولاً؛ لأن المكان الأول هو مادة التشكل الإنساني، فالإنسان مجذوب إليها دائماً فيزيائياً (بقوة الجاذبية) ونفسياً، لأنها الأم الأولى فهذه المادة هي الأساس الذي قام عليه كل ما عداه ثانياً.ومن منظور آخر يرى المرواتي أن تسارع إيقاع الحياة، وضراوة الأحداث واستعار القتل، وضجيج البث الفضائي، دفع بالساردين إلى الالتجاء إلى السكون، الأمكنة ساكنة ومحايدة بطبيعتها، لذا فإنها تصلح أن تكون ملاذاً آمنا يحقق الطمأنينة المفقودة. فضلاً عن أن صعوبة التوازن في هذا العالم، وفقدان السيطرة على التوجيه الأخلاقي والفكري، وضيق أفق التنوير في المجتمع العراقي، والعربي عامة، دفعت الساردين إلى إعادة تشكيل الأمكنة، ربما هي رغبة لا شعورية في إعادة تنظيم الأساس، وإسقاط الأفكار والمُثل، واستحضار ماضٍ صار منشوداً أكثر من المستقبل. إن حيادية الأمكنة تجعلها سهلة طيّعة، وبمتناول المخيال السردي.أما الزمن، فيبين المرواتي بأنه ليس أقل أهمية، ولكن تجرّدَه المفرط، وتنوع ظهوره – في الشخصيات وأحداثها، وتقلبات الصروف- يجعله أصعب تناولاً وأعقد تشكيلاً، فيكون التعويض بالمكان؛ لأنه شكل الزمن الأبرز على الأرض، منه نعرف تبدل الزمن، ومنْ هرم الأمكنة وانتهائها نعرف قوّتَه الطاغية.. «أرى أن المكان والشخصية هما ابتداء التاريخ وليس الزمن مجرداً.. فهناك ملايين السنين لم تُسجَّل، نمرُّ عليها مروراً عابراً.. الاعتناء بالمكان اعتناء بتجدد البدء ببراءته الأولى تلك».
منفيان مكانيّان
يذكر الشاعر باسم فرات مفارقة عجيبة أنتجتها الظروف التي مرّ بها العراق وطنًا وثقافة منذ مطلع ستينيات القرن العشرين وحتى الآن، وهي أن العراق كمكان، أي كإقليم جغرافي اتفق المؤرخون والبلدانيون على حدوده من تخوم الموصل شمالاً وحتى بلاد عبادان على ساحل البحر جنوبًا، ومع ذلك تصدعت وحدته وراح الصوت المتطرف، الذي يزعم كذبًا أن العراق وطن اصطنعه الإنكليز هو الذي يعلو.على صعيد الكتابة، هناك معاناة مزدوجة يعيشها الكاتب، فهو منفيّ على الدوام، يتمثل قول سلفه الشاعر العراقي القديم:
لقد نفتنا الآلهة
لقد نفتنا الآلهة
مؤكداً أن هناك منفى روحياً يسكن كل واحد من الكُتّاب، ومنفى مكانيّاً يثقل على كاهله، غربتان تنوء بهما روحه، لا أمل إلاّ في المضيّ قُدُمًا، بتهشيم غربتيه، وخلق مكانٍ جديدٍ، قد يتشابه مع المكان الأول كثيرًا، المكان الأول الذي ترسّخ في ذاكرته من أسلافه ومن كبار السنّ، فيستهويه المكان الذي لم يعد مكانًا مثلما كان، كل شيء تغير كان الماضي أجمل، هذه الجمل لطالما كررها العراقي، وهو في جوهره يمضي على سنّةِ أسلافه الذين تحدثوا في ألواحهم عن الماضي الذي كانت الآلهة راضية على الإنسان.
ويشير فرات إلى أن ثمة صراعا طرديا بين التهميش والمكان، فكلما ازداد تهميش المكان وإنسانه نجد حضوره أقوى في أدب أبنائه، وفي خروج عدد كبير من الأدباء سيطر الحنين إلى الأماكن الأولى التي أصبحت بعيدة زمانيًّا وجغرافيًّا وبيئيًّا وثقافيًّا، فكان المكان الأول حاضرًا بقوة لأنه تعويض عن خسارة الكاتب وشعوره بعزلة بعضها يخضع إلى نظام حياتيّ صارم.«شخصيًّا، عانيت من حضور المكان سلبيًّا في بداية غربتي، فكتبت عددًا من القصائد، تقطر حنينًا ويُهيمن عليها المكان الأول، مع تهميش تام للمكان الجديد، وإن ذُكرَ فالتذمر والشكوى منه تتراقص في جسد القصيدة، فكنتُ مثلي مثل معظم الذين كتبوا ويكتبون، لكن أُلفَتي للمكان الجديد، الذي بدأ يشكل حدثًا مهمًا في حياتي، فأنا قبل أي شيء قارئ، نعم قارئ اقترف الكتابة، ربما بجرأة لا استحقها، لكنني أبقى قارئًا، وهذا ساعدني في التوغل كثيرًا وعميقًا ليس في المكان الجديد ثقافة بمعناها الشامل، بل كان لوجود عشرات الجاليات التي تنتمي لعشرات البلدان وعشرات الأعراق والقوميات والأديان والمذاهب، فرصة ثمينة بالنسبة لقارئ مثلي، أن يستفيد من هؤلاء الناس، يتعرف على خصوصياتهم اللغوية والدينية والمذهبية، بل والمناطقية أيضًا».بدأ فرات يتعلم اللغة الجديدة ومعها أكتشف هذا الخليط غير المتجانس التي تتشكل منه نيوزلندا؛ حيث كان يقيم، والذي يسير بدقة كبيرة بفضل قانون صارم لا يرحم، لكن الأيام التي علمته لغة ثانية، ومعرفة غزيرة بتاريخ بلادي وجغرافيته وثقافات أمم كثيرة وجمالية وثراء تنوعها، علمته أن لا تجانس بين البشر حتى لو كانوا على دين واحد ومذهب واحد ولغة واحدة إلاّ بقانون صارم ومعه تربية تعليمية تتطور باستمرار أيضًا.«وجدتني أتصالح مع الأمكنة تلقائيًّا، ولم يعد الحنين والبكاء على الأطلال ولا الكربلائيات تصبغ قصائدي، بل تعاشق ثقافيّ لثقافات متعددة على مكان أحببته، هيروشيما أو فِيَنْتان عاصمة لاوس، أو نيوزلندا ومناطق فيها، فأنا الغريب الذي أصبحت واحدًا منهم وأنا ابن ثقافة عربية، عراقيتي لا تتعارض مع شعوري بالانتماء إلى جمالية الأمكنة الأخرى والثقافات العديدة التي تنفستها في رحلاتي وتنقلي بلدانيًّا وثقافيًّا».
أكثر من صورة
ومن وجهة نظر الشاعر والروائي وديع شامخ، فإن المكان بوصفه أثراً جغرافيا يحتل أهمية واسعة في الكتابات السردية والشعرية العربية معاً، رغم أن الشعر جنس «زمكاني» يميل إلى الزمان أكثر حتى ليشكل هويته الإبداعية.مضيفاً: ولأن للمكان جماليته الخاصة فقد صدرت نصوص «كتب» أعطت للمكان البطولة المطلقة في المشهد السردي العربي، ويبدو أن الاهتمام بالمكان يترسخ بمشاريع سردية خاصة لأسباب متعددة ولعل أهمها، محاولة السارد لتقصي المكان بوصفه هوية جامعة لمجتمع ما يعاد استدراجها وحوارها بلبوس تاريخي، كما حصل مع كتاب المكان المهم «بصرياثا» لمحمد خضير، أو في بعض نصوص الراحل جليل القيسي، أو في نصوص الروائيين الراحلين فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان، وكذلك عبد المجيد الربيعي، جمعة اللامي، جابر خليفة جابر، لؤي حمزة عباس، حامد فاضل وثامر سعيد، وآخرين.ويريد شامخ في استعراضه لهذه الأسماء البحث عن سبب اهتمام الكتاب العراقيين بالمكان تحديداً أكثر من غيرهم؟«أرى أن العراق لم يكن في ذهن المبدعين هو مكان فقط، بل هو تاريخ وجغرافية ومصير وهوية جامعة، ومرتع الذكريات، وخزانة للذاكرة الجمعية لشعوب توارثت هذا الأثر كقيمة حضارية ومدنية، وهذه الصورة المخملية الضاربة في أعماق اللاوعي العراقي عانت من التشظي والتدمير المتسلسل، وصولاً إلى قتل القيمة الرمزية والواقعية للعراق ومدنه مكاناً وذاكرة، فمقصات الجغرافية السياسية أمعنت وأثخنت العراق قصاً قسرياً ومن كل الجهات، وكذلك ساهمت الحقبة الديكتاتورية في تمييع وتذويب الهوية المكانية والطوبوغرافية للكثير من المدن والطبيعة في العراق، لذا صار من المحتم على المبدع السارد أن يستعيد هوية الأثر «المكان» بصيغته الأصلية.ويضيف شامخ: لقد عانى العراق وما زال من لصوصية واضحة وطنية وإقليمة ودولية في التغييرات الجغرافية والتاريخية والروحية للعراق التاريخي، أو الحديث كدولة موحدة شهد عام 1921 انبثاق ولادتها كمملكة عراقية موحدة.هذا العامل النفسي والمسؤولية التاريخية للكتّاب العراقيين تحديداً جعلهم يعيدون الأماكن سردياً محاولين تفادي القتل الواقع وترميم الذاكرة العراقية الجريحة بمتون سردية شكلت محفزاً قائماً وشهادات خالدة على غياب الأثر واقعياً…
أيقونة السرد العراقي
يؤكد الروائي زيد الشهيد على اهتمام السرد العراقي حقَّاً بالمكان؛ وصار هذا الأساس يتقدم على باقي الأسس التي تشكِّل النص، ما ولَّد أسلوباً خاصاً يسم الكتابة السردية العراقية ويميزها عن السرد العربي.. والأسلوب كما هو معروف يتشكَّل من تراكم معرفي تُكيننه القراءات والمطالعات المتوالية والمستمرة، تلك التي تختزن مادتها في اللاوعي وتتجمع في بوتقة ذهن الكاتب فتنسكب حين الكتابة طابعاً يسمُ هوية الكاتب.. ومن يراجع ببلوغرافيا السرد العراقي سيجد أن أول من ركز على المكان هو عبد الملك نوري، ثم جاء محمد خضير متأثراً بعبد الملك نوري كمرجع سردي قصصي عراقي قريب من روح القارئ العراقي الشغوف بالأدب والسرد على قلته، باعتبار الهيمنة على الواقع العربي للشعر وليس غير الشعر هو المتسيد. ويبين الشهيد أن محمد خضير جاء ليدخل على الساحة السردية العراقية بمجموعة «المملكة السوداء» وهي مجموعة نصوص المكان بامتياز، يفيض فيها السحر والجمال فيرتمي القارئ في شباك تلك النصوص وفحواها ارتماءً حد الإشباع؛ ما يجعل الذائقة مستقبلاً تقبل على البوح متأثرة بما تشبعت به… «أذكر أنني قرأت تلك المجموعة لما يزيد عن خمسين مرة؛ وتلك جعلت من كتاباتي مكانية (أنا أحد كتّاب المكان) بامتياز.. ولأننا نتحدث عن المكان فإن صفة الوصف ستكون ملازمة له. والوصف يصور عالماً ساحراً سواء كان هذا العالم إيجابياً أو سلبياً. والاثنان المكان والوصف يصنعان صوراً تحفر وجودها على صوان ذاكرة القارئ».. وليس غير ذلك كتاب «جماليات المكان» لغاستون باشلار الذي دخل عالم القراءة والتأثير على الكتّاب يوم ترجمه غالب هلسا ونشرته دار الشؤون الثقافية العراقية في سبعينيات القرن الماضي، فأقبل عليه الأدباء بشغف؛ ويظن الشهيد أن هذا الكتاب خط للناقد ياسين النصير مساراً وجعل حفرياته النقدية تسير على هدي تأثير المكان وجمالياته في السرد العراقي الذي صار النصيّر يقيس جمال النص المقروء من عدمه.. ولا ننسى أن توظيف المكان في السرد يصنع صورة؛ والصورة كما يرى أقوى عوامل تثبيت فحوى النص في ذاكرة القارئ. فمن يقرأ نصّاً مكانياً ليس من اليسر محوه بسهولة من الذاكرة على عكس النص الذهني أو النفسي أو نص التداعي والحوار مع الذات.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

ملحق العدالة

استبيان

الطقس في بغداد

بغداد
25°
35°
Sun
36°
Mon
الافتتاحية