Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

الشعر العرفاني: سيرة شاعر استثنائي اسمه محمد السرغيني

الشعر العرفاني: سيرة شاعر استثنائي اسمه محمد السرغيني
ادب وثقافة - 1:50 - 29/10/2015 - عدد القراء : 1014

في السنوات الأولى من تسعينيات القرن الفائت، وأنا طالب بقسم السلك الثّالث -وحدة الأدب الحديث (الشعر والنقد والمسرح)، في كلّية الآداب في ظهر المهراز في فاس، تعرّفتُ عن قرب، على الشّاعر محمد السرغيني، الذي كان يُدرّسُنا حينها مادة الشّعر الحديث. كنت أعرف أنه شاعر مختلف تماما عن باقي شعراء جيله، لكن ما أثار انتباهي سنتئذ، هو موقف أُستاذ مادة تحليل النُّصوص الشعرية، وهو بالمناسبة صديق حميم للشاعر، اتجاه تجربة السرغيني الشعرية. كان الأُستاذ المذكور يُردّدُ، دونما مناسبة، جُملة «لا أدري أين هو الشعر في الديوان»، يقصد ديوان الشاعر محمد السرغيني «من فعل هذا بجماجمكم»، «إنه ديوان صعب القراءة، إذ لا يُمكنك أن تفهم فيه شيئا» يُضيف. المثير في هذا الموقف، ليس اختلاف الأستاذ مع تجربة السرغيني، فالاختلاف مطلوب وعملية صحّية، لكنّ العيب كُلّ العيب، في كون موقف كهذا، يصدُر عن ضُعف وعجز في المقاربة، لأنّها مُقاربةٌ تقليدية، عمادُها الفهم والسّطحية. قليلةٌ هي الدّراسات التي استطاعت، بعشق وأُستاذية أن تقتحم عوالم هذا الشاعر البطليموسية، والسّبب في هذا النّسيان، في ما أعتقد، كون هذه التجربة الشعرية، عرفانية بكُلّ ما في الكلمة من معنى، ومن ثم فإنّ الدُّنو منها يشترط، أولا، معرفة معمّقة بموقف السرغيني من فعل الكتابة، قبل الخوض في هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر.وفي ما يلي، نُوردُ بعض آراء الشاعر حول صناعة الشعر، علّها تُذوّبُ المسافة ما بين نُصوصه المُغلقة والمُقبل عليها: إن الكتابة عند السرغيني، حُرقة وعذاب وألم، الألم ليس إلّا ألم الانفصال عن الأصل، يقول الشاعر في رسالة موجّهة إلى الشاعر محمد علي الرباوي بتاريخ 6 مايو/أيار 1986، «ليس خطأ أن يسكت المرء في وقت ازدحام الأصوات النّاشزة، وتكالب أصحابها على تحصيل مقام ليسوا أهلا له، وإنما السُّكوت في هذا المقام حكمة، ذلك أنه انتظار أن يُفرغوا ما في جُبّتهم من الهذر، وإذ ذاك يكون الكلام فضيلة وتصحيح مسار. وأعتقد أنه آن أوان الكلام فترقّبه… إن زُرت فاس فزُرني، وعندها سأُعذّبُك بقراءة ما أكتب الآن».ولعلّ في هذه الرّسالة، إشارة ضمنية إلى مفهوم الكتابة عند الشاعر. إنّ النّص السرغيني، بمعنى كهذا، لا يُحقّقُ المُتعة واللّذّة لدى القارئ، لأن اللّذة مُرتبطةٌ بالآني الفاني، بل إن قراءة هذا النص، هو قطعة من العذاب الذي تعقبهُ لذّة أبيقورية محقّقة. يقول الرباوي مُعلّقا على إحدى فقرات هذه الرسالة «ليس في قراءة شعر محمد السرغيني لذة، لكن بها عذابا كما جاء في رسالته. القصيدة عنده شمعة تعلوها فتيلة تلتهمها النار لتُعطي الإنسان النُّور الذي به ينظر إلى الحياة. والقارئ في تصوّر السرغيني فراشة. حين ترقّ هذه الفراشة وتشفّ، تلقي بهيكلها في النار لتحترق. فإذا احترقت اشتعلت وأمسكت بتلابيب الأسرار».إن القارئ الذي يفترضُه السرغيني، هو ذاك الذي لا يُمسك بالضّرورة بناصية التجربة، إنه قارئُ يتذوّق جُملة في قصيدة، أو قصيدة في ديوان، بدون التجربة كاملة، «لا يهمني أن يمسك القارئ بتلابيب العملية الشعرية لديّ من أوّلها إلى آخرها. أنا إنسان مسكون بالشعر، أُحبه حبّ مُتصوف لا تهمُّه نباهة الذكر، ولا ذُيوع الصّيت، ولا يأبه لنقاد يترصّدون تطورا، أو يتشفون في نكوص، ليس في حياة الشعر، ولا في حياة الشاعر بقع مُظلمة، لأن الشاعر يُضيء حتى لو كان الشعر مع الشاعر في حالة جدّ أوّلية».وفي دراسة باذخة ورصينة، بعنوان «التجربة والشعر»، حيث يُمكن اعتبارُها بيانا شعريا، حدّد محمد السرغيني مفهومه للشعر، في علاقته بالأنا قائلا : «الشعر إبداع والإبداع تجربة والتجربة أنا». إن من الأنا، والعُهدة على السرغيني، ما هو أُجرومي خاضع لمعيارية التداول اللُّغوي، وما هو سيري يعمل باستمرار على تفجير كل التمزقات والرُّضوض المندلقة من تضاريس الذات الساردة/ الأنا الفصامية، من أجل تأسيس صوغ حواري مع آخر مغاير، من داخل الذّات/ الأنا، ومنها ما هو نفسي، بما هي (الأنا)، دينامية تتحرك ما بين التداولين السّابقين، وتظهرهما في انفعالات الأنا، كتعويض عما تُخفيه من مكبوتات وغرائز تأجيلها.وبهذا يستطيع الشاعر أن يضع في حوزته القدرة على انتهاك الوجود ودوائر حقيقته، متوسلا بآليات نفّاذة، كالمعنى والجذور الرمزية للغة وتشتيت الدلالة . ومن البديهيات، في نظر السرغيني، أن المعنى مرتبط بالمألوف «حفاظا على كينونة كانت رغم استدراجه هذا المتوارث وذاك المألوف إلى مُطاوعة الجدّة والتّجديد بطلاء تحديثي سطحي»، فيما اللّامعنى «كونٌ قشيب يتجاوز مقاييس العقل ويُزاوج بين معرفة حدسية وبين عرفان هاجسي يُخلق على غير مثال سابق»، المعنى في «المُبيّت المدروس المُقنّن المحكم، واللّامعنى في الصُّدفة وفي المطلق وفي هتك شغاف الدّاخل بالخارج «.إن السرغيني وهو يُقارن بين المعنى واللاّمعنى، بين المألوف والمُختلف، يخلُص في هذا البيان إلى أن «جمالية المعنى في أنّ مُعطاها المعماري المُهندم سلفا مقبول سلفا، في حين أن جمالية اللامعنى في أن مُعطاها المعماري يتهندم لحظة الخلق، فهو قبول سيأتي: جمالية التّنسيق للأوّل، وجمالية القُبح بمفهوم (ميرلوبونتي) للثّاني».مما سلف، ننتهي إلى أن النص السرغيني، نصٌّ متوهج بالقلق العرفاني، ومزدان بحوار متعدد الأضلع بين ثقافات متعددة، ومرجعيات فلسفية متنوعة، وجداول فنية رقراقة، وثقافة شعبية عابقة بالألم والفرح، كل هذا في لغة قشيبة تُعنّف الواقع، بعيدا عن البيانات السياسية. ولن ندع الفرصة تمُرُّ، لكي نُورد نصا عميقا للدارس صلاح بوسريف، يُلخّص فيه خُصوصية الكتابة عند السرغيني، يقول فيه «فالسرغيني ليس شاعرا يكتب برأسمال اللغة، اللغة مصدر ثرائه الوحيد. فهو يخوض المعرفة الشعرية بكل ما تمثله من امتدادات في غيرها من حقول المعرفة الإنسانية. والنص هو نوع من الاحتيال على معارف شتى، واستثمار ما تتيحه من إمكانات لأجل بناء خطاب، لا يكتفي بالمُعطى والمتاح، بل يذهب إلى أقصى ما في الريح من نزوات».تلكُم، بعض وأهم المداخل الأساسية للنص السرغيني، نُقدّمها لأستاذنا الفاضل، الذي وجد صعوبة في قراءة ديوان «من فعل هذا بجماجمكم»، ولغيره من الذين يرومون المعنى السطحي والجاهز، بلاغة الفهم أقصد.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

ملحق العدالة

mulhaq-preview

استبيان

الطقس في بغداد

بغداد
26°
30°
Tue
31°
Wed
الافتتاحية