الحقّ لم يكن في نيّتي ـ لولا الصدفة ـ أن أقارن بين هذين العلَمين من روّاد الإصلاح والتجديد في البلاد العربيّة: العراقي رفائيل بطّي والتونسي زين العابدين السنوسي؛ فقد عثرت وأنا أرتّب بعض كتبي، على عدد قديم من مجلّة «العالم الأدبي» (1930) التي كان يصدرها السنوسي، وكنت أشرت إليه في مقال سابق في «القدس العربي» وحذوه كتاب صغير لحاتم الصكر كان أهْدانِيهِ منذ سنوات: «رفائيل بطّي وريادة النقد الشعري في العراق ـ مقدّمة ومختارات ـ منشورات الجمل 1995». ووجدت أنّ هذين الكاتبين الشتيتيْن اللذين فرّقت بينهما الجغرافيا، ولا أحد منهما تعرّف إلى الآخر أو قرأ له؛ على ما نرجّح، يشتركان في النظر إلى جنس أو نمط من الشعر هو «الشعر المنثور» أو»النثر الشعري»، الذي لم ينقطع الجدل والسجال بشأنه عندنا؛ فيما هو في الآداب الأوروبيّة من «المنسيّات» أو من ثقافة القرن التاسع عشر. على أنّ أكثر هذا السجال عندنا، لغو لا يعتدّ به أو لغط وجلبة وتصويت لا يفهم. ولعلّ الأمر كذلك، فما بين اللّغة واللّغط، منطقة ملتبسة، يمكن أن يقترب منها الشّاعر أو الناقد، مثلما يمكن أن يبتعد. وقد يدفع بها إلى منتهاها، فيقع في نوع من اللّغط، تكاد اللّغة فيه تنفي ذاتها في فعل خلقها؛ وتغدو الكتابة فعل تبديد أكثر منها فعل تثبيت. بيْد أنّ هذا النمط من الكتابة الشعريّة، ليس بالنّهر الذي لا يمكن أن يُقطع مرّتين، فقد قطعه العراقي رفائيل بطي، والتونسي زين العابدين السنوسي؛ وخلصا إلى ما خلصا إليه، من استنتاجات فيها مقدار كبير من الصواب؛ لعلّه أجلى وأوضح عند السنوسي. وأبدأ بالعراقي، فقد كان أسبق إلى طرح هذه القضيّة في جريدة «الحرّية» العراقيّة التي كان يرأس تحريرها (العدد 1/7/ 1925) ضمن باب «خواطر المحرّر»؛ فيما يشير السنوسي في حاشية مقاله «الشعر المنثور» المنشور في مجلّته «العالم الأدبي» ـ العدد6 / أغسطس/آب 1930 إلى أنّ هذا النصّ نُشر في جريدة «النهضة» التونسيّة عام 1928 التي كان ينشر في صفحتها الأسبوعيّة، وأنّه أعاد فيه النظر وحوّره، ونقّحه من جديد. واللافِت حقّا أنّ مقال السنوسي منشور تحت عنوان عامّ شبيه بعنوان صاحبه العراقي؛ هو» خواطر في الأدب». ولعلّ في هذا ما قد ينمّ عن أنّ السنوسي، كان مطّلعا على المجلاّت والدوريّات العراقيّة التي كانت تنشر في الثلث الأوّل من القرن الماضي، أو على بعضها. ولم يكن هذا بالأمر المستغرب من صحافيّ مثله هو أيضا ناقد وكاتب (جرّب الشعر والقصّة)، إلاّ أن يكون الأمر من باب توارد الخواطر. وقد كانت طائفة من التونسيّين، وبلادهم «محميّة فرنسيّة» وقتها، تتلقّف ـ كما تدلّ على ذلك سيرة الشابي وصديقه الحليوي مثلا ـ جلّ ما كان يُنشر من كتب وترجمات ومجلاّت في شرق البلاد العربيّة، وتشارك في السجال الأدبي الدائر فيها.عقّب رفائيل بطّي في خاطرته «الشعر المرسل» على دعوة جميل الزهاوي إلى التحرّر من القافية، والاكتفاء بالوزن، ويقول إنّ «ما يدعو إليه هو الشعر المنثور بعينه.» ويضيف: «وإذا أطلق الشعر العربي من القافية، فأحْرِ به أن يطلق من الوزن كذلك؛ ليكون إرساله صحيحا، فيصبح حينئذ الشعرَ المنثورَ الذي هو شعر بمعانيه وألفاظه؛ ولكنّه ليس منظوما.» ولكنّ بطي على مناصرته للشعر المنثور ـ وقد جرّبه هو أيضا ـ لا يجحد قيمة الشعر المنظوم؛ بل هو عنده ركن مهمّ لا غنى عنه في عالم العرب الأدبي.والقافية، بمفهومها الخليليّ، إنّما تحيل إلى شعريّة الشّفويّ أو على القصيدة الأقدم التي نشأت داخل أنماط حافزة للتـّذكـّر، أملت على الشّاعر أن يقول شعرا يمكن حفظه وتذكّره، حتّى ليمكن القول إنّها تصطنع ذاكرة للذاكرة نفسها، أي ذاكرة الصّوت الذي يكاد لا يشرد من سمع المتقبّل حتّى يطرق أذنه ثانية، وهكذا دواليك.
وهي مع ذلك أمارة على الكيفيّة التي تصنع بها القصيدة ويجوّد البيت، وعنصر من عناصر ماهيّة الشّعر، ومن إنشائيّة الخطاب، باعتبارها صورة إيقاعيّة أو مخيّلة سماعيّة. والبحث فيها إنّما يستقيم من منظور التّناسب الإيقاعيّ الذي تتوقف عليه، في نظريّة الشّعر عند العرب، صناعة القصيدة. وهي صناعة «موقوفة على معرفة جهات التّناسب في تأليف بعض المسموعات إلى بعض، ووضع بعضها تالية لبعض أو موازية لها في الرّتبة…»، بعبارة حازم القرطاجنّي. وثمّة في الشعر العربي القديم، محاولات للتحرّر من القافية؛ ساق بعضها أبو الحسن العروضي في كتابه «العروض»(حقّقه الشاعر التونسي الراحل، ونسبه خطأ إلى السيرافي؛ ثمّ تدارك الأمر في طبعة لاحقة) بما يجعل القصيدة أشبه بالقصيدة المدوّرة عند المعاصرين من أمثال حسب الشيخ جعفر ومحمّد بنّيس، ولكنّها كانت من «اللعب» العروضي غير الجادّ؛ إذ سرعان ما عفّى عليها الزمن، وطواها النسيان.أمّا التونسي زين العابدين السنوسي، فيناقش بلغة المفاهيم، المصطلح «الشعر المنثور»، ويقترح بدلا منه «النثر الشعري»؛ لأنّه في تقديره «نثر في مادّته، تستند روحه إلى الشعر»، ولكنّه يتقبّل المصطلح السائد، ويكتب: «ما حيلتي وقد سبقني بعض المشارقة إلى تسميته كذلك في لغتنا؛ فلم أرَ مندوحة من اتّباعه، وقلت لنغضّ عن المتبادر والمعاني الأصليّة لهذا التركيب، ولنقل مع من يقول: لا مشاحة في الاصطلاح.» ويتنبّه، بحكم ثقافته الفرنسيّة إلى جانب ثقافته العربيّة المتينة؛ إلى ما يعانيه المصطلح المنقول حرفيّا عن الفرنسيّة Poème en prose من قلق العبارة ومن «صدمة شديدة بين جزئي التسمية في هذا التركيب… وفي الأصل الفرنسي ما في الترجمة (العربيّة) من تنافر، واضطراب أشار إليه ناقدوهم، وأخذ حيّزه من الجدل». ثمّ يعرّف هذا النمط، فالفرنسيّون إنّما يقصدون به «ضربا من الترسّل البليغ السامي الذي يرتفع، بلفظه المختار وسبكه الأنيق؛ عن مستوى البلاغة النثريّة، ويشارك الشعر في خياله وحذلقته (التظرّف في الكلام والتكيّس) الرائعة الرقراقة؛ وإن كان لا يتقيّد بوزن، ولا يتسلسل عن نظام مخصوص». ولا يفوت السنوسي أن يناقش بعض المشارقة الذين كانوا يمزجون مزجا غريبا بين «الشعر المنثور»، والسجع العربي، و»الأبيات الحرّة»، وهي كما ينبّه غير النثر الشعري «إذ أنّها تمتاز عنه بالاتزان، وإن اشترط فيها عدم التقيّد بوزن بعينه». ويتمثّل لذلك بكتاب أمين الريحاني «الريحانيّات»؛ فقد جمع في قسم الشعر المنثور «أربعة أضرب من البلاغة: الشعر والشعر المنثور والأبيات الحرّة والسجع…»، وساق شواهد، خلص منها إلى أنّ التسمية ّشعر منثور «اصطلاح خاصّ بالريحاني؛ «يسمّي بها ما يمزجه من ضروب البلاغة بقديمها وحديثها… وإن أوهمنا هو أنّ الفرنسيّين مشاركون له في ذلك؛ فوضع لنا لفظة (الفير ليبر أي الأبيات الحرّة) بحروفها اللاتينيّة، وما هذه من الأبيات الحرّة في شيء». ويختتم السنوسي مقاله بمقطع من قصيدة منثورة لمي زيادة «دمعة على الغرّيد الصامت». ويعقّب:» فهذا نثر حقّا، ولكنّه نثر شعري بروحه وأنفاسه وبتراكيبه وألفاظه. شعر من النمط الأعلى يؤيّده من جانب الله إلهام وإيحاء. فيه موسيقيّة القصائد، وإن خلا من قافية النظم، وفيه رنين الشعر؛ وإن برأ من الموازين».ونعود إلى رفائيل بطّي، فقد كان واعيا كما يلاحظ صديقنا حاتم الصكر، بالفرق الدقيق بين النظم والشعر، وهو لا يعتبر النثر قسيم الشعر من حيث شكله الخارجي؛ بل من حيث المعاني والألفاظ. وقد تمثّل هو أيضا بالريحاني، وعدّ طريقته من طريقة الأمريكي والت ويتمان «في إطلاق الشعر من قيود الوزن والقافية، فابتدع طريقة الشعر المنثور في العربيّة. وتبعه كثيرون لاسيّما أدباء العرب في المهجر». على أنّ إشارة بطّي إلى بعض كتابات نقولا فيّاض، تعوزها الدقّة يقول: «وقام في هذه الأيّام نقولا فيّاض من أدباء سوريا المقيمين في مصر، بحركة فكريّة حديثة؛ فأوجد أسلوبا جديدا للشعر العربي الطلق من قيود القافية والوزن كذلك، مع الاحتفاظ بالرنّة الموسيقيّة في اختلاط الأوزان ببعضها بعضا». والأمثلة التي ساقها تبيّن كما يقول حاتم الصكر، أنّ الأمر لا يعدو تلاعبا بنظام التقفية ووحدة البيت؛ ممّا كان له أثر في تفعيلات البحر. علما بأنّ مصطلح «تفعيلة» مستحدث، ولا أثر له في مدوّنة العروض عند القدماء. لكن قلّما تنبّه بعضنا، من قدامى ومعاصرين إلى أنّ «التفعيلة» هي وزن لغويّ أو صرفيّ قبل أن تكون عروضيّة. وبإمكان أيّ منّا أن يستخرج من وزن أيّ تفعيلة، عشرات الألفاظ والكلمات؛ بما يسوق إلى القول إنّ العربيّة لغة شاعرة من نفسها. ولكنّ الجدليّة النّاظمة لثقافتنا، قد لا تكون أكثر من جدليّة الزّوج القائم في زوجه المضادّ له.