Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

العراقي كاظم الخنجر يتنزه بحزام ناسف

العراقي كاظم الخنجر يتنزه بحزام ناسف
ادب وثقافة - محمد العباس - 2:37 - 14/02/2016 - عدد القراء : 910

الجثة الشهية، بمفهوم السرياليين هي سلسلة من الجُمل غير الواقعية التي تُجمع، ويعاد تركيبها بعبثية لإنتاج (عبارة/جثة ) ذات نظام لغوي ومفهومي يتجاوز الواقع. وهذا هو على وجه التقريب ما يمكن تلمّسه عند كاظم الخنجر في كتابه الشعري «نزهة بحزام ناسف» الصادر حديثاً عن دار مخطوطات. ذلك على مستويين: لغوي وواقعي. أي مطابقة الجثة النصّية الشهية بالجثة المفصّمة واقعياً، حيث يدّبر بحسّه اللاقط سيناريوهات الموت الفجائعي العراقي، عبر إيحاءات كلامية أغنى حسياً من الصور المرئية. وكأنه يريد بلغته وهذيانه تخطي محطة الواقع بتصويرات ذات طابع فرضي، تغترف من الواقع وتفارقه في آن.بدون مقدمات، يستهل كتابه بنص طافح بالموت، مسرود بقالب قصصي (عاجل: العثور على مقبرة جماعية بالقرب…). بلسان كائن مصاب بلوعة فقد غير عادية. يُستدعى لاستلام كومة من العظام يُفترض أنها جثة أخيه. بدموعه، يمسح الغبار عن الزهور الاصطناعية التي تحيط بصورته. لتندلق عبارات منقوعة في مرارة سريالية (يقول التقرير الطبي بأن كيس العظام الذي وقعت عليه هو أنت. ولكن هذا قليل. نثرته على الطاولة أمامهم. أعدنا الحساب. جمجمة بستة ثقوب. عظم ترقوة واحد. ثلاثة أضلاع زائدة. فخذ مهشمة. كومة أرساغ. وبعض الفقرات. هل يمكن لهذا القليل أن يكون أخاً). هذا ما يشير إليه التقرير الطبي. ولذلك يكمل بلوعة مضاعفة (أعدت العظام إلى الكيس. نفضت كفي من التراب العالق فيهما. ثم نفخت بالتراب الباقي على الطاولة. وضعتك على ظهري، وخرجت).وبشيء من التأليف الواعي للصور الشعرية يكمل، وكأنه يريد أن يذهب بالمشهد إلى أقصى فجائعيته (في الباص أجلست الكيس إلى جانبي. دفعت أجرة لمقعدين. هذه المرة أنا الذي أدفع. اليوم كبرت بما فيه الكفاية كي أحملك على ظهري وأدفع عنك الأجرة). وبدون أن يخل بالنظام السياقي للنص المصمّم بنائياً في ذهنه يواصل، وكأنه يتعمد استخلاص لذة جدلية من غرائبية تلك الميتة (لم أخبر أحداً أني استلمت هذا القليل. أراقب زوجتك وأطفالك يمرون بالقرب من الكنبة التي تركتك عليها. أردت أن يفتح الكيس أحدهم. وددت أن يروك للمرة الأخيرة. لكنك كنت عنيداً حدّ العظم. فيما بعد تساءلوا عن بقعة الدمع التي على الكنبة …!).القصيدة يجب أن تؤدي إلى مناخ، كما يقترح بروتون. والجثة هنا هي مناخ كل النصوص تقريباً، حيث يتعنون النص الثاني بلافتة صادمة (جثث). بمعنى أن طقس مشاهد الجثث يفرض سطوته على النصوص كقيمة جمالية مهيمنة (كانوا يخلطون الجثث. وعندما نخرج إلى الساحة العامة في الصباح. كنّا نتيه مثل بصر ضعيف. ونقارن بين الرأس وجثته. وندرك في أعماقنا أننا نمنح الرؤوس لجثث لا تعرفها). وهو هنا عندما يؤدي مهمة إلصاق المعاني الخيالية بالأشياء، لا يمارس لعبة، حسب تصور أراغون، بل يعلن من خلال ذلك الترتيب المشهدي الضاج بفائض الموت عن موقفه الفلسفي. عبر سيولة عباراتية راسمة لمجرى النص، استحالت فيها (الجثة) إلى لعبة سريالية لتخطي الواقع ومساءلة ما وراء حالتها المشيأة. من خلال غوص في اللاوعي وترجمة ذلك الغوص إلى جُمل شعرية.كاظم الخنجر لا يولّد مشاهد الجثث تلك من عندياته، بل من فضاء الخراب العراقي المأهول بتلك الأجساد المفصّمة، التي يماثلها أبيل جانيس بـ(الأكواب المكسورة) في إشارة استعارية لضحايا الحروب، حيث صارت أرض العراق مستودعاً هائلاً لصور فوق- واقعية. وبالتالي باتت هي المولّد لتلك الجماليات المرعبة، الماثلة بين الأنقاض (نشروا صورة جثته على الفيسبوك، أخي الأصغر. وعندما عجزنا عن العثور عليها، قمنا بطباعة الصورة، تغسيلها، تكفينها، ودفنها في مقبرة العائلة). وكأنه بتلك الصور الشعرية المتهيّلة، يحاول إيقاظ الوحش الهاجع في النفس البشرية، بملامسة تصويرية رهيفة يختفي بموجبها صوته كشاعر، في أصداء النص وزوايا المشهد الموصوف. إذ لا أثر لتلك الأنوية الفاقعة، ولا حتى لأنين ذاتي، وهو يتأمل (لحوما خضراء) تنسلب منها نضارتها.الحياة هي حجة الشعر مهما تمادى الخيال. وهذا هو منطلقه في التعامل مع مادته النصّية. فهو إذ يحاول بعباراته خرق جاذبية الجسد وترميم صورته المشوهة في آن، يراود نفسه أيضا باستعادة بعض سياقاتها ومخلوقاتها بشيء من الصراخ أحياناً، وأحياناً أخرى بالدمع. كما في خطفته النصّية (ذبح) مثلاً، حيث يبلغ النص منتهاه المفهومي والشعوري (اسمع إيها الله. إما أن تخلق الرأس مفصولاً عن الجسد، أو تنفي فكرة الحور العين). وهذه العبارة لم تخرج من ذات شاعرة لزوم الجمال الشكلي المصعّد للنص، بل بموجب بصريات الرأس المحزوز، المطروحة بمقتضى نظام هندسي حسّي محسوب في معمارية النص. ففي كل مفصل رأس تبحث عن جثتها (عند الليل/ أعمدة الكهرباء/ تمشي بالرؤوس المقطوعة إلى أجسادها/ بعدما تداولتها الأقدام/ والحراب الأمريكية/ والذباب).لا يبدو كاظم الخنجر مهجوساً بنص رؤيوي بالمعنى التدبيري للنص، بقدر ما يكتب داخل نصٍ قيامي وهو في حالة يقظة. وهنا موضع حركيته كشاعر. أما نصوصه فتعمل بوعي وانتباه ضد أي مراودة رؤيوية، مقابل هوس صريح باستصدار منظومة من الصور المحسوسة، ولذلك يحاول القبض على تفاصيل ذلك المشهد القيامي بكل حيثياته، ليشيد مشهداً يجمع فيه مشغّل آلات الذبح وأدواتها ومرجعياتها والمادة البشرية الصالحة للذبح، فيما يبدو مساءلة فكروية تأخذ منحاها الشعري، ولهذا السبب يعدد أدوات وأجواء القتل: سيارة مفخخة، صاروخا، تابوتا، جمجمة، ديناميت، شظية، حزاما ناسفا، انفجارا، دما، ويكثر من الطرق على مفردة (السكين). فهي (مقبرة مدفونة في كفيك). وعند الذبح تصبح (قافلة نمل تسير على الرقبة). ومن تلك المشهدية المرعبة يخاطب حاملها (عفواً أيها القاتل، نسيت سكينك في عنقي).حقل الخيال أوسع وأعمق، بل وأكثر تأليباً من حقل الواقع، وذلك بالتحديد ما ألجأه إلى التوصيفات الغرائبية (للسكين عينان/ وبطن/ وظهر/ وساق/ وخصر/ لكنها بلا يد). بمعنى أنه هنا في طور فكرنة وشخصنة آلة القتل، وتجنيح مفرداته بالأخيلة. السكين تحديداً، التي أحالها القتلة إلى قدر أو كلمة إلهية (كان الكثير من الله ومحمد وما شابه، في البيان الذي ألقاه أبو عبدالله المهاجر)، أو هكذا يسائل الفكر الواعي للنص، ذلك العالم الذي تسكنه الأشباح المتخمة بالحليب اللاهوتي. وكأن كل تلك المتوالية من الصور الموجعة لا تكفي لرفع منسوب الإحساس بفداحة الخراب. وكل تلك المصفوفة من الجثث يُراد لها من خلال النص أن تكون وثيقة تتجاوز الشأن الفردي إلى مستبطنات الذاكرة الجمعية، حيث يبدأ الحس التسجيلي بالظهور ولو عبر إلماحات (في الحصار وضعوا لنا الإسمنت في الصحون/ لهذا شيدنا مباني من الجوع).وهذا هو ما يفسر أيضا انحيازه التدريجي عن مرويته الفردية إلى صيغة الإنشاد الأوركسترالي (نحن العراقيين/ نصنع أبواب بيوتنا من الحديد لنصدأ خلفها/ نحن العراقيين/ نزرع المقابر أمام البيوت/ نحن العراقيين/ التابوت بأطرافه القصيرة يوحد أكتافنا/ نحن العراقيين/ الأصابع التي جمعنا بها الخراطيش صغاراً/ الآن نحسب بها القتلى) حيث تتوالى عبارات استطرادية تبطل مفعول الحدس، وتحيل إلى سرديات جمعية زادها الموت الجماعي (نضع الميّت في تابوت من خشب/ لنوهم الأرض بأننا جئنا لزراعة شجرة)، فيما يبدو حالة من تدوير سيرة الموت على إيقاع عبارات هاذية تسمح للخيال الجامح باستنساخ لقطات جانبية من الواقع. وإعطاء ذلك الوجع شكلاً شعرياً، أي بالاتكاء على الصور الشعرية لتقوية الفكرة (ماء النهر الذي يرمون فيه الجثث تصفيه دائرة الماء صباحاً/ لنشربه نحن في المساء/ مرة، شممت رائحة أخي فيه).إنه الإحساس الواعي واليقظ بفروض العبثية، وهو بالتالي إحساس باللاجدوى الشخصية، قبالة جثث ناشفة، حسب تعبيره، ملقاة بلا مبالاة في يوميات الإنسان العراقي منذ زمن، وهي تؤرخ لخراب كبير.. وعليه أن يخترع طريقة لاستخلاص معنى ومغزى لذلك الكم من الجثث (أن تسحب جثة من تحت حصير من الذباب. ما معنى ذلك؟). وكما الأعمى الذي تخرج دموعه من عكازه، حسب تعبيره، مطلوب منك كعراقي مفجوع بناسه (أن تقف بذراعين صامتتين/ على جثة ابنك المتساوية بالإسفلت)، وبمقتضى ذلك الإيقاع الجنائزي تأسست مبالغات كاظم الخنجر المرموقة، بما التقطه بمجساته الشعرية من مدارات فوق- واقعية، إذ لم تكن نزهته بحزامه الناسف، ضرباً من الترف الشكلي الجمالي، بل حالة من التماس الموجع مع الوجود الإنساني، وتحويل ذلك الوجود المخدوش إلى نص واخز، لم تمنع كثافة الجثث فيه من تدفقه.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

الطقس في بغداد

بغداد
16°
27°
السبت
28°
أحد

استبيان

الافتتاحية