Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

شعرية ما تعذر فهمه

شعرية ما تعذر فهمه
ادب وثقافة - 2:54 - 04/11/2015 - عدد القراء : 735

مهما تسامقت درجات ومستويات المعرفة، التي تحققها التقنيات الحديثة في سلم التقدم المعرفي والعلمي، ومهما أبان الكائن عن أهليته في إسقاط مختلف الحجب المسدلة بينه وبين حقائق الكون وأسراره، فإنه سيظل أبدا أمينا ومخلصا لتلك الأصوات العتيقة، والبدائية، وإن شئت الماقبل تاريخية المقيمة فيه، والتي يدرك بحدسه اليقظ قوتها رمزيتها ومصداقية حضورها، باعتبارها مناجم للهبات الخامة الدائمة العطاء، خاصة بالنسبة للكتابة الإبداعية والفكرية، التي تجد ضالتها الأثيرة، في التردد على عوالمها الغامضة المترعة بفتنة الدهشة وغواية الغموض. ذلك أن فضاءات هذه الأصوات، تظل المرجع الأساسي للكائن في فهم وتفسير وتأويل ما استعصى عليه من إشكاليات، حيث يبادر بالميل إلى تلك الجهة المعتمة فيه، كي تسعفه بما يبدو بعيدا عن متناول العقل، ونشازا من وجهة نظر المنطق.ومن المفارقات الغريبة في هذا السياق، أن الكائن ذاته، يرى في غير قليل من الكشوفات العلمية المتطورة، ما يزكي رؤيته الشعرية ـ ولا أقول الخرافية – والأسطورية للذات والعالم. ذلك أن «ما لا تتم الإحاطة به» و«ما تعذر فهمه»، يظل محتفظا بحضوره الغائم، المتجدد والكبير بيننا، وهو ما يعني استمرار الكتابة في ممارسة ازدواجية طرائق فهمها، وتفسيرها للوجود على أرضية كل من الرؤية الشعرية والعقلانية، حيث يعني اعتمادها على مبدإ العقلاني في تعميق رؤيتها لـ»ما لم تتم بعد الإحاطة به»عدمَ مفاضلتها بين الرؤيتين معا، باعتبار أن تكاملهما وتواصلهما العميق والصعب، لا يمكن أن يتحقق إلا في رحابات فضائها، حيث يتم ردم تلك الهوة الفاصلة بينهما، بما يسمح لهما بالتمظهر في خيمياء مشتركة، لا يشوبها أي أثر لجفاء أو قطيعة.ذلك إن كلا منهما يكون جد مهيأ لأن يفضي هناك للآخر بحميمية أسراره، معا يتصالحان، ويتنازلان عن تحفظاتهما التقليدية تجاه بعضهما. إنهما يتواطآن على سحرية الشعر كما على سحرية العقل، من أجل القيام بمقالب جديدة، بحثا عن لذائذ قير متوقعة، وغوايات استثنائية تسمح لهما بتجديد اكتشافهما لما يظل أبدا قيد الفهم والتأويل. إن جمالية الذهاب بسلطة الشعري إلى ما وراء سلطة العقلي، هي تلك النزهة الممتعة والشبقة، التي لا يمل الكائن من اختبار فعالياتها. إنها النزهة السرية التي يلتقي فيها الكائن بجذوره، بأضوائه الخافتة، وبظلاله التي أوشكت أن تجهز عليها شمس الادعاء المعرفي. النزهة التي يستعيد فيها الكائن حريته، بعيدا عن فضول عين الرقيب، حيث يستطاب النزول إلى الطبقات السفلية من لا وعيه الجماعي، من أجل تفقد كائناته الحجرية، وهي تنتشي باستعادة إيقاع يقظاتها والتحاقها بالحي وبالمتحرك. إن «ما يتعذر فهمه» يتميز بتتالي انتقالاته، وارتقاءاته المتتالية من الأكثر بساطة إلى الأكثر تركيبا والأكثر تعقيدا، وهكذا دواليك، وهو ما يعني وجوب تجدد إواليات الفهم والإدراك، كما يعني أيضا التدرج بالسؤال، وبهواجس البحث وإشكالاته الأكثر تعقيدا بين المراتب والمقامات. وكلما تضاعفت هذه الإشكاليات، كلما ازداد الإقرار بأهمية النزهة، باعتبارها شكلا من أشكال الاستئناس بظلال ما يعاش، واغتسالا حتميا في مياه المكاشفات العميقة. وبموازاة تقدم السؤال باتجاه مجهوله، تضاعف الكتابة من تغيير استراتيجياتها وانتظاراتها، ومن توسيع مساحات أراضيها، بتسليطها المزيد من الضوء على الأكثر بعدا والأكثر كثافة، أي على ما لم تتم بعد الإحاطة به.
لكن ومع ذلك، ينبغي التذكير، بتعذر القبض على أي استحالة في أرض الكتابة، كما يتعذر التطويق المطلق لأي إمكان، ذلك أن كينونتها تتحدد أساسا باختراقها لكل تلك الخطوط الحمراء، التي يحدث أن يضعها العرف أمامك أو أمامها.كما أن حضورها الفعلي، لا يتحقق إلا من خلال تجاوزاتها الدائمة للخطوط ذاتها، باتجاه تلك التخوم التي تتعدد فيها أشكال القيامات والمحظورات والانهيارات، إلى جانب تلك المواسم المعلقة بين الأرض وبين السماء. خارج هذه الخطوط أيضا، يقع ما يحتمل حدوثه دائما، أي ما تحلم اللغة الأخرى بوقوعه، أو بأمل إبعاده نفيا لاستبدادية سلطة، أو تسلط قدَرِ. وعلى النقيض من الذوات التي تعيش ارتعابها الدائم عند هذه قسوة وصرامة هذه الخطوط، فإن الكتابة تتقدم باتجاهها كي تمحوها بالكامل، ممارسة بذلك فتنة ورعونة الخلط، بمعنى تنشيطها لآلية مزج الداخل بالخارج، المحتمل باستحالاته، والمتوقع بما لم يفكر بعد بفكرة الحلول.
هكذا إذن، يجوز القول بانعدام أية قطيعة بين راهن ما يدرك، وبين محتمله، لأنهما معا يتجاوران ويتماسان، فيكون كل منهما مرآة للآخر، في حالة ارتعب منه أو استئناس به، غير أن الكتابة لا تكتفي بهذا التجاور وهذا التحاور، بل تقوم بصهرهما معا، في بوثقة واحدة، حيث يتحرر الجوار من برودته ومن نسبية حياديته، كي تتحرر الأمواج من عدوانية تلك الثنائية المجسدة في تقال الضفتين المتنكرتين لبعضهما، وكي يتحقق ذلك المزج الخلاق بين إيقاعات أكثر من صوت ووبين ظلال أكثر من صورة.
طبعا ليس للخيوط الناظمة للأضداد أن تكون مكشوفة للرؤية المجردة، لأن أهميتها لا تكمن فقط في سريتها، وفي حتمية اختفائها المتوقع، ولكن – وهذا هو المهم- في طيها المحكم لما لا ينتهي من مسافات القول والتحبير، وفي ربطها الممنهج والمعقلن بين نقط الدلالات الأكثر تباعدا وتنافرا.والنقط هنا قد تكون علامات دالة على رحابات فكرية وفلسفية، كما قد تكون علامات دالة على رحابات فنية وإبداعية. وبقدر ما يشتغل هذا الربط والوصل على مستوى مسافات القول، بقدر ما يشتغل أيضا على مستوى تفكيك الدلالة وإعادة تركيبها، أو محوها بالكامل، من أجل إعادة إنتاجها، وقد أمست متوجة بتواطؤ اختلافها. فالوحدة الدلالية التي تبدو في الظاهر متبرئة من غيرها، قد تكون مقترنة وملتحمة بها من جهة الظاهر، كما هي من جهة الباطن، وبأكثر من سبب.هذا الترابط العلني والسري الذي تنتظم فيه بالقوة والفعل، أكثر العناصر تناقضا وتباينا، هو الخيط المفضي لشعرية «ما لم تتم الإحاطة به» باعتبارها المجال الأثير الذي يروق للكتابة أن تقيم فيه، وأن تعتمده كنقط ارتكاز تسمح لها بممارسة نشوة الاقتراب من تلك المساحات الغامضة، التي تندرج فيها مكونات الوجود وعناصره، ضمن ما تتميز به من علاقات، وتواشجات فيزيائية وكيميائية، هي ومن حيث الجوهر على درجة عالية من التفاعل والتركيب.حضور هذه الخيوط السرية، القادرة على تحقيق ذلك التواصل المستحيل بين العناصر الموغلة في تنافرها وتضاداتها، يدعونا إلى مقابلتها بذلك الاندماج المعترف به عادة بين ما درج العرف على اعتباره مؤتلفا ومتناغما. وهي مقابلة مدعمة بأسئلتها الهادفة ضمنيا إلى التأكد الفعلي من حقيقة هذا التناغم، الذي لا يكون في حقيقة الأمر سوى امتداد طبيعي لهندسة قابلة في أية لحظة لأن تجاهر باختلال بنيانها، وبحضور تصدعات كفيلة بهدمها. علما بأن حضور الكون، لا يتحقق إلا عبر تلك التواصلات العميقة والعضوية، القائمة بين أسمائه وبين صفاته، وعبر تبادل النداءات، وتبادل الإضاءات. تبادل الرغبة في المحو، وتبادل الرغبة في التثبيت. إنها التواصلات القائمة في صلب الاختلافات الكبرى، وفي قلب تلك المحيطات الهادرة التي ترتطم فيها الأضداد بأضدادها، حيث تفسح الكتابة مجالها الاستثنائي للتواجدات والإطلالات اللامتوقعة، لتلك الأجرام المحتجبة في قلب عتماتها، والتي ليست شيئا آخر، عدا ذلك «الْماتَعذَّرَ فهمه» وقد أوشك أن يجاهر بظهوره وتجليه فور استئناسه بحضور وهج الرؤية، وفور تأكُّدِه من ملحاحية ذلك العناد المعرفي، الشغوف بالسير على حافات السؤال.لذلك فإن كل ما تحرص الكتابة على الإشارة إليه، سيكون بمثابة علامة موحية بحضور علامات لا منتظرة في مسارات الوجود، وفي منعطفات الكينونة، علامات قد تكونُ أنت أعرضْتَ عن رؤيتها أو التفكير في دلالتها من قبل، حيث أنت محاصر بسلطة تلك الجدران الحتمية، الفاصلة عادة بين المرئي واللامرئي، بين ما تمت الإحاطة به، وبين ما تعذر فهمه، بين ما انتهى وجوده هنا، كي يعلن عن بدء تجليه وتمظهره هناك.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

ملحق العدالة

mulhaq-preview

استبيان

الطقس في بغداد

بغداد
29°
30°
Tue
31°
Wed
الافتتاحية