Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

عبدالمحسن يوسف ورائحة تراب «فرسان»

عبدالمحسن يوسف ورائحة تراب «فرسان»
ادب وثقافة - 0:38 - 13/12/2015 - عدد القراء : 1169

أهداني صديقي الشاعر عبدالمحسن يوسف ديوانيه الصادرين أخيراً عن دار «أروقة» القاهرة 2015. وفيهما جمع بعضاً من كتاباته الشعرية، التي ظللت ومعي كثير من محبيه والمفتونين بكتاباته نترقب صدورها بلهفة لإعادة قراءة ما نشر منها في المجلات والصحف وقراءة ما لم ينشر وهو كثير. وعبدالمحسن شاعر في غير حاجة إلى من يشهد له بذلك. وكأن الشعر يتلبسه من رأسه إلى أخمص قدميه. وفي كتاباته النثرية العادية شعر يفوق شعر كثير ممن يكتبون الشعر ويباهون بأنهم قد وصلوا معه إلى سدرة المنتهى. وبمناسبة الحديث عن نثره فكم أطلت الوقوف عند تلك «الوجوه»، التي كان عبدالمحسن يرسمها بالكلمات أسبوعياً في ملحق صحيفة «عكاظ» وما تشي به من شاعرية اللغة والموقف وتكشف عنه أيضاً من عمق وثراء معرفي وإلمام واسع بمعالم الفنون والآداب، إضافة إلى ما يمتلكه من قدرة في إطلالته الإسبوعية تلك على تشخيص من تتناولهم كلماته، أو بالأصح ترسم صورهم وتقدمها للقارئ في لوحات جديرة بأن تظهر في كتاب أو أكثر.الديوانان المشار إليهما هما: «نخيلك مثقل ويداي فارغتان» و«ما يشبه آمالاً زهيدة» ويضم الديوان الأول القصائد المكتوبة على نظام «التفعيلة»، في حين يضم الآخر القصائد الحرة أو ما اصطلح على تسميته بـ«قصيدة النثر». وقد أحسن الشاعر حين أفرد لكل شكل ديواناً مستقلاً تجنباً للبس الذي طالما يقع فيه القارئ، خاصة غير المتمرس بالشعر، الذي لم يدرك بعد مقدار التطور والتحديث الذي شهدته وتشهده القصيدة العربية المعاصرة، والشاعر عبدالمحسن يوسف الذي تعرف قصيدته جيداً كيف تغزو وجدان القارئ مقلٌ في إبداعه الشعري، ويسعى جاهداً إلى أن يكتب قصيدته هو فلا يكرر أحداً من أسلافه أو من أترابه ومجايليه. إنه صوت مختلف بحق في تجربته وفي اختيار مفرداته وموضوعاته التي تعكس انفعالاته هو، وملامح واقعه الشخصي والواقع العام انعكاساً إبداعياً لا فوتوغرافياً. ) ولهذا تفوح من أغلب قصائده رائحة البحر ومفردات الماء، وبذلك سيكون صوته هو صوت البحر وعازف قيثارة الحنين إلى الطبيعة في شكلها النقي البريء .تؤكد قصائد الديوانين حقيقة ما يقال من أن الشاعر يولد شاعراً، أو لا يكون أبداً مهما بذل من جهد وعانى مع اللغة وحاول أن يستدرجها ليستقطر منها ومضة تمت إلى الشعر بآصرة قربى. والذين أمسكوا بعشبة الخلود في دنيا الشعر هم أولئك الذين رافقهم الشعر منذ الولادة وكان رفيقاً لهم في الطفولة ثم الشباب ويستمر معهم إلى آخر يوم في حياتهم، التي قد تطول أو تقصر. وتحدثنا إحدى القصائد في ديوان «ما يشبه آمالاً زهيدة» عن علاقة عبدالمحسن مع الشعر وكيف أن تلك العلاقة تعود إلى وقت مبكر من زمن الطفولة الأولى:
في طفولتي،
كنت أنام في فناء البيت،
مكشوفاً للسماء والنجوم،
للقمر والغيوم،
للمطر والندى
للطيور الضّالة
للبروق والجمال..
كنت أعيش القصيدة،
وهي كانت تكتبني.
ليس في هذه الإشارة الشعرية الدالة ما قد يفاجئ الشعراء الكبار، فقد سبق لهم أن مروا بالتجربة ذاتها في وقت مبكر من حياتهم، وكيف أن الطبيعة والأحلام كانا الدليل والمدخل إلى تمثل الشعر، وما كانت مراياه الملونة تشكله في نفوسهم الغضّه من رؤى وأحلام ومنافذ للخلاص من بؤس الأيام وتعاسة الواقع. وحين يسترجع عبدالمحسن في هذا المقطع ومضات من تلك الرؤى المخزونة في الذاكرة، فإنه يضع يديه وقلبه على شواطئ ذلك النهر الشعري الذي سيغدو في ما بعد بحراً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الشاعر عبدالمحسن يوسف تجاوز الكثير من بواكيره وربما ساعده التأخر في النشر على الانتقاء، ولا أشك في أن في الطريق دواوين أخرى تعد للنشر فقد قرأت له منذ عام تقريباً قصيدة بالغة العذوبة يستعيد فيها – كما أتذكر- حكايته مع الجدة وزمن البساطة وذوبان الضجر في أحضان الجزيرة القائمة على كتف البحر وما يغشاها من هدوء ويبعدها عن ضجيج المدن و»مباهج العصر» هذه القصيدة التي أذهلتني لم أجدها في أي من الديوانين الصادرين، ومعنى ذلك أن هناك قصائد أخرى في طريقها إلينا في ديوان ثالث ورابع و…ليس غريباً أو لافتاً أن تشيع مفردات البحر والماء في قصائد عبدالمحسن يوسف، فقد ولد – كما سبقت الإشارة ـ في جزيرة يحيط بها الماء من جميع الجهات، لكن الغريب واللافت ألا تغيب الصحراء واليابسة عن قصائده الديوانين ، صحيح أن الإشارة إلى هذين المكونين لا تكاد تُذْكر مقارنة بالإشارة إلى البحر والماء، إلاَّ أنها كافية لتثبت الولاء لذلك الكائن المترامي الأطراف المسكون بالرمال والذي يشكل جزءاً واسعاً من وطنه الكبير. وربما خلق تعايشه الطويل مع البحر والماء نوعاً من الحنين إلى نقيضهما وهو هنا الصحراء واليابسة:
هو البحر صحراؤنا
هو البحر مثل الحصيرةْ،
وسجادة لصلاة قصيرةْ.
وكل الذي فوقنا زرقةٌ،
تحتنا زرقةٌ
حولنا زرقةٌ
والغيوم القليلة من فوقنا
ذكريات أخيرة. (نخيلك مثقل)
والشاعر في مكان آخر لا ينكر انتماءه إلى الصحراء ولا يتبرأ من هذا الانتماء، رغم ما تفرضه الصحراء على المنتسبين إليها من قسوة ومن قحط ويباس:
أنا القاحل ابن القاحل ، المؤثث بالرمال
والمطعون بالصحراء وبلاغة القيظ،
تحتفي بي الورود هنا وتسلمني للعبق.. (ما يشبه آمالاً زهيدة)
لقد قرأ عبد المحسن كثيراً عن الصحراء في الشعر العربي فأحبها ووجد فيها ملاذاً من الغرق في ماء الأحزان و«اللهاث في بحر المدينة» على حد تعبيره هو:
آمنت بالحزن الشهي
ولذت بالصحراءْ
هل تصفو كما تصفو المرايا
هذه الصحراءْ . (نخيلك مثقل)
من الصعب تتبع قائمة المفردات التي تشير مباشرة أو ضمناً إلى كل من البحر والماء، فقد كانت هي أكثر المفردات وروداً في الديوانين، وذلك ما يعكس حالة معايشته الطويلة للشاعر مع البحر في طفولته وصباه وأوائل شبابه وما أختزنته ذاكرته من صور وإيحاءات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن عبدالمحسن يكتب الشعر وليس في ذهنه شكل معين ولا إيقاع معين، فالشعر هو الذي يكتبه وليس هو الذي يكتب الشعر، ونشأته في جزيرة محاطة بالبحر جعلته يديم الإصغاء لموسيقى الماء وموسيقى الشجر وموسيقى الطيور، وعن هذا التناغم البديع تصدر قصيدته أو بالأحرى تكتب نفسها، سواء ما كان منها على النظام العمودي أو على نظام التفعيلة أو وخارج هذين النظامين، وما كان يشغله ويؤرق وجدانه الشعري أن تكون قصائده مالكة لمقوماتها الفنية وجمالياتها الملامسة لوجدان القارئ، وأن تكون لغته طريّة حديثة التعبير تفوح منها رائحة المكان والزمان. ولا مكان في ديوانيه المشار إليهما أعلاه، للعموديات سوى هذين البيتين البديعين اللذين لا علاقة لهما بالعمود إلاَّ من حيث الشكل فقط:
كلّما سال في الدروب الظلامُ
وصغارى بغرفة القلب.. ناموا
قلت يا قلب خذ من الليل ريشاً
طِر بعيداً … كما يطير الحمامَ. (نخيلك مثقل)
ولعل أبسط رسالة يبعث بها هذان البيتان البديعان إلى محبي الشعر في الوطن العربي والعالم أن الأشكال لا تعيق المواهب الكبيرة ولا تقف حجر عثرة في طريق الإبداع الأصيل والمبتكر.
وإذا كان عدد من النقاد قد شغلتهم، ومنذ وقت غير قصير فكرة التجييل وتنسيب الشعراء أو بالأحرى تقسيمهم إلى أجيال فإلى أي جيل يمكن لنا تنسيب الشاعر عبدالمحسن يوسف؟ إنه سؤال محير حقاً، لأن فكرة التجييل نفسها محيرة ولا تخضع لمعايير محددة وواضحة، ومع ذلك فيمكن القول إن عبدالمحسن من شعراء الثمانينيات والتسعينيات ففي هذين العقدين تبلورت شاعريته بدلالاتها وفنيتها الباذخة. ومما لاشك فيه أن ظهور منجزه الشعري في هذين الديوانين سيمكن النقاد من التعرف على هذه التجربة الفريدة والاقتراب من خصوصيتها المبدعة.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

ملحق العدالة

استبيان

الطقس في بغداد

بغداد
25°
35°
Sun
36°
Mon
الافتتاحية