أصبحت اللغة التركية من أكثر اللغات المطلوب تعلمها، والكثير يسعى لذلك حتى إن لم يكن له غرض مباشر بها، إلا أن ذلك مثل «الموضة» التي يجب مواكبتها، واللباس على الطريقة التركية كذلك أصبح منافسا قويا ومطلوبا بشكل أكثر في بلدان كثيرة (خاصة العربية)، الشاورما التركية أصبحت من الأكلات المفضلة، المنتجات الغذائية والمأكولات، تصميمات المنازل… كل هذه الأشياء ما كانت لتلقى إقبالا وقبولا لولا المسلسلات التركية.حجم إيرادات تركيا من مبيعات مسلسلاته هو 280 مليون دولار، حسب المدير التنفيذي لشركة الوكالة العالمية التركية «غلوبال ايجينسي»، رقم ضخم طبعا، لكن ليس هذا هو المثير فقط ، بل إن النموذج الثقافي والقيمي التركي أصبح يغزو العالم شيئا فشيئا ويلقى إقبالا متزايدا وبشكل مثير للانتباه بين الناس من مختلف البلدان والثقافات، فماذا يعني هذا؟ببساطة سيكون المواطن من ثقافة أخرى في سعي إلى الأخذ أو تقليد النموذج التركي، (لغة، لباسا، أثاثا، مأكولات…)، يعني كل ما هو مرتبط بنمط العيش، يعني ان الشركات التركية بدل أن تصنع وتبيع للسوق المحلية فقط، سيصبح لها زبائن من كل بقاع العالم، يعني في الطريق لتصبح قوة اقتصادية عالمية وبشركات ذات رؤوس أموال ورقم معاملات ضخمة.العالم يعيش حروبا ثقافية وقيمية، وهو الشكل المستقبلي للنزاعات بين الدول، كما سبق وقال بذلك المهدي المنجري وصامويل هنتنغتون، ولكي تكون قوة ثقافية كبرى يجب أن يكون لك نموذج قيمي رائد، وبقدرة تسويقية أنجع، فإن تكون قوة اقتصادية أو عسكرية فقط، لم يعد كافيا لتهيمن وتؤثر في الآخر ويأخذ بنموذجك.هذا المثال يبدو أكثر وضوحا وتجليا مع النموذج الأمريكي بالخصوص، فقوة أمريكا ليست كما يبدو لنا في الجانب العسكري والاقتصادي فقط، لكن قدرتها على تسويق نموذجها الثقافي هو أكبر عامل جعل الولايات المتحدة الأمريكية تقود العالم اليوم.الامر نفسه بعملية بسيطة بأن يكون لك نمط ثقافي وقيمي أمريكي، يعني بالضرورة أن تكون لك سلوكيات المواطن الأمريكي نفسها، خاصة الجانب الاستهلاكي، وهذا هو الجانب الأهم والأكثر إثارة للانتباه، فإن تكون لك السلوكيات الاستهلاكية نفسها للمواطن الأمريكي أو الغربي، هو ببساطة أن تأكل الهامبرغر، وتشرب الكوكا كولا، وتلبس النايك، وتركب الفورد، وتستمع لريهانا، وتشاهد CNN، ويشاهد أبناؤك ميكي ماوس….وغيرها.وبهذا الطريقة ستبيع الشركات أكثر وتربح أكثر وتهيمن بشكل أكبر، وهذا هو المنطق الذي يحكم العالم اليوم، وعلى هذا الشكل يسير. ففي أمريكا الاقتصادي ورجل المال هو الذي يقود وليس السياسي كما يبدو لنا دائما على الواجهة. ولكي تستمر أمريكا وتضمن هيمنتها وتزعمها للعالم لأكثر وقت ممكن, فيجب عليها أن تفرض وتنشر ثقافتها وقيمها على الآخرين. وستكتشفون مثلا مدى القوة الرهيبة والانتشار المهول وحرص أمريكا على هذا الجانب، دون آخر، إذا علمتم بأن أمريكا تصدر إلى العالم وتربح من عائدات بيع ونشر ثقافتها أكبر مما تربحه اليابان مثلا من بيع السيارات، وستندهشون أكثر إذا ما استحضرنا بأن اليابان هي أكبر مصدر للسيارات في العالم.فما وصلت إليه اليوم تركيا ليس فقط بفضل القيادة الناجحة للحزب الحاكم ، لكن جانبا منه يعود الفضل فيها لشركات الإنتاج ومخرجي الأعمال الفنية التركية، لأن بفضلهم أصبح النموذج المجتمعي التركي ملهما للعديد من الشعوب الأخرى، خاصة في المنطقة العربية، حيث أصبحت تلقى المنتجات التركية رواجا كبيرا يوما بعد يوم وسنة بعد أخرى، فماذا يعني هذا؟تركيا حتى لو ذهب أردوغان من الحكم، فاقتصادها من المرجح جدا أن يبقى في مستوياته الحالية نفسها وربما أكثر، ببساطة لأن الثقافة التركية أصبحت مطلوبة في أزيد من 60 بلدا حول العالم، وبمئات الملايين من المشاهدين، وعندما يكون نموذجك الثقافي مطلوبا، فذلك يعني أن شركات البلد ينتظرها مستقبل واعد في معاملاتها ومبيعاتها، ولن يؤثر لها في ذلك من يقود البلد سياسيا أو غيره.صحيح أن اللمسة السياسية يكون لها تأثير كبير، وأن ما وصلت إليه الصناعة «المسلسلاتية «التركية اليوم، ما كان أن يتأتى لها لولا الانفتاح والسياسة الاقتصادية الفعالة للحزب الحاكم، لكن لا ننسى كذلك أن هذه المسلسلات ودور المخرجين فيها بالخصوص، هي من روجت وحببت النموذج التركي أكثر لدى المشاهد الذي هو مستهلك في حقيقته، وبالتالي فحتى ما وصل إليه الحزب الحاكم نفسه يعود فيه الفضل للأعمال الفنية التي قربت النمط المعيشي اليومي للإنسان التركي والمستوى الرفاهي نسبيا الذي يبدو عليه في تلك الأعمال، والذي جعلت منه قريبا من المستوى المعيشي للإنسان الأوروبي (حيث الحلم الذي يصبو كل مواطن عربي أن يصل إليه ذات يوم في بلده)، وجعلته أكبر مدافع خارجي عن إنجازاته.بلدان عربية كان يمكن لها أن تحذو حذو تركيا في الأمر نفسه ، لو أنها استغلت إنتاجاتها الفنية بالشكل الأمثل، خاصة مصر، التي كانت مسلسلاتها في ما مضى على تلفزيون كل بيت عربي، وكان يمكن أن تكون أنجع مسوق للنموذج الثقافي المصري، لكنها للأسف بقيت أسيرة صورة نمطية وقالب وحيد وإن كان يبدو متعدد الأشكال، لم تستطع الخروج منه، ولم تستطع أن تقدم نفسها بصورة أفضل وأكثر «إغراء» للمشاهد الخارجي للاقتداء بها، بل إنها في الآونة الأخيرة أصبحت منفرة للمشاهد أكثر مما هي جاذبة له، خاصة أن العديد من الإنتاجات تسعى لنيل رضا وعطف النظام السياسي الحاكم، أكثر من حرصها على تقديم عمل فني متوازن يرقى لتطلعات الجمهور، وهو ما يجعلها تسقط في الغالب في مواقف لا تخدم لا العمل نفسه ولا حتى البلد وصورته في الخارج.