Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

متاهات المثقف

متاهات المثقف
ادب وثقافة - علي حسن الفواز - 2:35 - 24/12/2015 - عدد القراء : 1786

وسط المحنة تبدو أقدام المثقف عند الهاوية، لا حافات واضحة هناك، إذ هو مسكون بالقلق والوهن، يستعيد أوهام البطولة الخابية ويركن إلى تاريخ لم يعد أليفا، وغير قابل للقراءة الآمنة.محنة المثقف هي محنة السلطة التاريخ، محنة المعنى والفكرة، محنة الفقهاء وأصحاب الوصايا والجنرالات، أولئك الذي كسّروا أصابع الثوار واشتروا كل شعاراتهم وتركوهم خارج اللعبة تماما. المثقف لا خيارات واضحة له اليوم، فهو يعيش قلق حريته، ورعب خوفه (الآدمي) من الجوع والحرمان، وخوفه السياسي من تكرار لعبة الاستبداد الوطني، وخوفه من تضخّم فتاوى تكفيره وتهميشه وعطالته. هذا الخوف الكلياني يدفع البعض للعزلة والنوم المعرفي، مثلما يدفع البعض للخيانة، وإلى التورط مع لبوس السلطة والفتوى، وربما التورط في الخدمة الإعلامية والإعلانية للحاكميات الحزبية أو الدينية.. فكثيرا ما نقرأ اليوم ألواحا علنية لهذه الخيانات الفاقعة، تلك التي تكشف عن العجز والهشاشة والضآلة، والخنوع إلى توحش السلطة وصنّاع الحروب والوصايا، مثلما تكشف عن وعي ملتبس ومريب، وعن غياب كامل للمؤسسات الحقوقية والمدنية الحافظة للنوع الثقافي.قسوة السلطة، وسلطنة التاريخ، وضعف المثقف كلها تُفضي إلى صناعة قارّة للرعب، وإلى صناعة الجحيم، وإلى مقاربات تفترض توصيفا آخر للمثقف، وضمن حدود ترسيم حدود لا تحمي المثقف من الخرق والانتهاك، ولا تكفل وجوده الفاعل في الأزمات وفي صناعة الرأي العام، وحتى في تمكينه من حماية مشروعه الثقافي، وحماية مشروع الأمة من الانقراض!
توصيف ثقافي…
يبدو أن توصيف المثقف سيظل مثارَ جدل واسع، وباباً للخلاف المفتوح على احتمالات لا تنتهي، وعلى قلق لا ينتهي، ليس لأن هذا المثقف قابل للتورط في الخنادق، وفي التبعيات! بل لأنه بات الأكثر رعبا من طبيعة التحولات الصادمة التي تجري حوله، تلك التحولات التي تمسّ الجماعات والهويات والجغرافيا والتاريخ، والتي تتركه بلا أغطية، وبلا صيانات سوى المزيد من التخندق والعزلة والتوهم.. صورة المثقف الثوري القديم صارت جزءا من المتحف، ولم تعد أمامنا فرصة واقعية لاستعادة نذير عظمة أو عمر المختار، أو نجم البقال، أو عبد القادر الجزائري وغيرهم، فصورهم شاحبة، وربما تلبسّت بنوع من الكوميديا السوداء، لاسيما بعد فشل الحكومات الثورية، وفشل الأحزاب والأيديولوجيات القومية والعلمانية في تغيير أي شيء حولها، إذ تحولت الصور عند البعض إلى ما يشبه الحديث عن أنموذج مفارق للمثقف، ذلك الذي يشبه المثقف الانتحاري وغير الواقعي، الذي لا قدرة له سوى مناطحة الوقائع والأوهام والحروب والفتاوى.السؤال الذي يخص تموقع المثقف الواقعي والتاريخي، يقابله الحديث عن صورة أخرى نقيضة، التي تخص (المثقف الانتهازي) الذي يتنوع ويتلون حسب الحاجة، ينحاز ويؤلّه القوى المنتصرة، أو القوى التي تضعه في الركن الآمن. ومن يقرأ العديد من الصحف العربية اليومية، أو من يشاهد العديد من فضائيات التلفزة العربية سيجد الحجم المتضخم لظاهرة هذا المثقف المريب، المدافع عن وهم القوة، بعيدا عن الواقعية والموضوعية والعقلانية التي يدرك الكثير من أسبابها، لكن الأخطر في صورة هذا المثقف هو تمترسه في خنادق الرجعيات ودفاعه الغرائبي عن العصاب القبلي وعن أوهام سلطة هو يعرف طبيعة مرجعياتها وتخلفها.الحدود ما بين المثقف الانتحاري والمثقف الانتهازي لم تعد واضحة جدا، خاصة بعد انهيار الكثير من الحواجز والخنادق، وصعود موجات غرائبية لخطاب الإسلام السياسي، وخطاب الإسلام الأيديولوجي، فضلا عن صعود الجماعات التي لا تؤمن بالحوار والمشاركة والعقل، ولا شأن لها سوى صناعة المزيد من وصايا العنف والإرهاب والتكفير، التي باتت تدرك خطورة حاجتها لنوعية المثقف الإعلاني والتسويقي، وربما المثقف التوفيقي، والرجعي، الذي يروّج بسهولة وبدون تردد أو مراجعة خطابها وعنف عصابها ووصايا فتاواها..المثقف الجماعاتي هو الوجه الآخر للمثقف الانتهازي، المثقف الذي لا فردية عاقلة له، يمكن أن يٌشترى بالمال والامتيازات، وهو أيضا القابل للتحول بسهولة إلى الاتجاه الذي يخدم مصالح تلك الجماعات، ومصالح الدول التي تضعه في السوق وفي الاستعراض، وتسبغ على وجوده سمات لا يستحقها، لكنها تطالبه بالمقابل بوظيفة البوّاق والمهرج والحكواتي وفيلسوف الطائفة وغيرها من الوظائف التي تؤكد انتهازيته وتضخمه..إزاء هذا التوصيف الملتبس تتمظهر صورة أخرى، لكنها شوهاء في التعبير عن نفسها، وعن فكرتها، إذ تصنع بروازها جماعات ودول ومؤسسات ترعى الإرهاب وتموّله، تلك الصورة التي تتشوه فيها الملامح المطمئنة لـ(المثقف الثوري) التي تنبش في تضخيم هزائمه التاريخية والفكرية، واتهامه بأنه يشبه المثقف الانتحاري الذي كان غير واقعي، يغامر بالحياة والموقف والمعنى مقابل دفاعه عن مواقف لم تعد عقلانية، رغم مصداقيتها، لأنها تمثل أفكارا جوهرية في الانتماء والقيم وفي المبادئ الأخلاقية للعقل الثقافي، لاسيما تلك التي تتعلق بقيم الانتماء للحرية والصدق والكرامة والدفاع عن الحق والوجود..قد تكون الوقائع الثقافية عرضة للتغيير، وقد يكون المثقف ذاته أكثر حاجة للتعاطي بوعي مع هذا التغيير، لكن ليس على حساب قيمه ومبادئه وإنسانيته وعلى رمزية صورته في الوجدان العربي، تلك الصورة التي كانت تتمظهر فيها سيمياء المعلم والقائد والمفكر، بقطع النظر عن هوية هذا المثقف وقناعاته الأيديولوجية في اليسار واليمين، فما يجري الآن هو تسويق اصطناعي لبضاعة (المثقف المؤجر) المثقف الذي يشبه (بائع المولات) الذي جلّ ما يمارسه هو العرض والبيع والربح.
تسويقات ثقافية
تسويق هذه الصورة الغائمة هي تسويق قصدي لتسقيط هيبة المثقف (التقدمي) و(الثوري) وحتى (اليساري) بمعناه الليبرالي، وهو ما يعني تسقيطا لكل القيم التي كان يؤمن بها هذا المثقف ايديولوجيا أو تاريخيا أو وطنيا أو حتى دينيا، مقابل تبرير الصورة النقيضة للمثقف الانتهازي، المثقف الذي يمكنه أن يلبس بسهولة قفطان الفقيه، ومعطف رجل المخابرات ورجل الحكومة، وأن يضع القاموس اللغوي والسياسي والمهني في خدمة سياسة وثقافة البيع والشراء.لعبة تسويق هذا المثقف تحولت إلى لعبة إعلامية بشكل خاص، لاسيما مع اتساع وظائف الميديا، ومع ضرورة أن يكون هذا المثقف حاضرا في التبرير وفي التسقيط وفي الشتم، وفي تحليل الظواهر التي بدت عاصفة في وقائعنا العربية، حدّ أن أنموذجه بات يثير الريبة حول مستقبل الفكر العربي، وفقدان صورة الفيلسوف والمفكر اللذين كنّا نقرأهما في كتابات محمد عابد الجابري وعبد الله العروي ومحمد أركون وهشام جعيط وزكريا إبراهيم ومحمود أمين العالم وعلي حرب وجورج طرابيشي وغيرهم..هذا الغياب هو العنوان الأقسى لموضوع (المتاهة) التي يعيش رعبها المثقف العربي، والتي تُفقدنا الكثير من الاطمئنان لقدرة الصناعة الثقافية على مواجهة صناعات الرعب والخوف والاستبداد والخضوع، إذ سيكون كل شيءٍ مهددا بالفقد، بدءا من الحرية والتنوير الذي ركض خلفها الآباء المثقفون المكتفون بصورهم على حيطان المتاحف، وانتهاء بالجسد ولذائذه وأحلامه التي تجاور أسئلة العقل الواقف عند عتبة الهاوية وعند حافات الجحيم.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

ملحق العدالة

استبيان

الطقس في بغداد

بغداد
25°
35°
Sun
36°
Mon
الافتتاحية