خيرا صنعت مجلة «الدوحة» بإصدارها ترجمة لقصص الكاتبة الشابة المسلمة السويسرية إيزابيل إيبرهاردت (1877- 1904) بترجمة حسنة للجزائري بوداود عميّر، ضمن سلسلة كتاب الدوحة الشهري (الكتاب 53 – أكتوبر/تشرين الأول 2015). وترجع أهمية هذا الإصدار ليس فقط إلى كونه عرفنا على مبدعة يجهلها معظم قراء العربية عشقت حياة الشرق، واستهواها نمط عيشه البسيط المفعم بالدفء الإنساني المفتقد في العلاقات الاجتماعية الغربية الموغلة في الفردانية والمادية الرأسمالية.. لتستوطن، وهي في العشرين من عمرها، بطاح ونجود الجزائر من عنابة، فالقسنطينة، ثم الوادي إلى العين الصفراء، حيث توقف قطار حياتها السريع تحت أنقاض بيت متهالك بعدما اجتاحته سيول أكتوبر 1904 وهي لا تزال يافعة لم تتجاوز السابعة والعشرين، مخلفة مجموعة من الأعمال من بينها: «في الظل الدافئ للإسلام»، «المتشرد»،»في بلاد الرمال»، « يومياتي».. «ياسمينة» موضوع هذه المقالة.أهمية الإصدار، بالإضافة إلى هذا البعد الإنساني الممتع في تجربة هذه الأديبة السويسرية المغامرة المنحدرة من أصول أرستقراطية كاثوليكية، يكمن أيضا في أنه كشف لنا عن نص شديد الشبه برواية «الحي اللاتيني» لسهيل إدريس! جعلنا ندعي معه أن مبدعنا سهيل اقتبس، ربما، فكرة روايته الشهيرة ومعمارية بنائها الدرامي من هذا المرجع المضمر لما بين الوثيقتين الإبداعيتين من تناسب جمالي طافح يمكن أن يلحظه أي قارئ للعملين.علينا بداية، قبل المضي في تلمس عناصر التقاطع الفني بين النصين، إثبات أن سهيل إدريس اطلع فعلا على قصة «ياسمينة» لإيبرهاردت. قطعا لا توجد أي إشارة إلى أدب هذه المرأة ضمن مرجعيات سهيل الثقافية، غير أنه بقليل من التقصي يمكن تتويج فرضية تعرف صاحبنا إلى إنتاج إيزابيل إيبرهاردت، خلال فترة إقامته في فرنسا طالبا في المعهد العالي للصحافة ثم في جامعة السوربون ما بين 1949 و1953؛ وهي المرحلة التي زامنت ذروة تفاعل الرأي العام الفرنسي مع المسألة الجزائرية أمام انطلاق الشرارة الأولى للحراك العسكري المقاوم. لقد كان سهيل إدريس حينذاك على تماس مباشر، بحكم انتسابه إلى معهد الصحافة، مع كل ما له علاقة بهذه القضية القومية داخل النقاش السياسي في فرنسا.. ومما كان مثارا ساعتها داخل هذا النقاش أدبُ إيزابيل إيبرهاردت المناصر لمظلومية الشعب الجزائري، الذي أعادت الأحداث فتح أوراقه أمام كُتاب ومثقفي هذه المرحلة. ولعل كتاب «إيزابيل إيبرهاردت.. ملاحظات وذكريات» لروبير روندو الصادر سنة 1945 عشية وصول سهيل إلى باريس، أحد تجليات هذا الاهتمام بإنتاج هذه الشابة المشاغبة، المناوئة لسياسة فرنسا الاستعمارية. فلا يمكن، والحالة هذه، أن لا تكون شخصية إيزابيل قد أثارت فضول هذا الطالب العربي الآتي من الشام محملا بالحس القومي. فلابد أن يكون قد قرأ شيئا من نِتاجها الداعم لتحرر الجزائر، ولا بد كذلك، وهو المأخوذ بسحر الحكي، أن يكون قد اطلع، على الأقل، على جزء من محكياتها التي كانت قصة «ياسمينة» أشهرها ذيوعا. تروي «ياسمينة» قصة فتاة جزائرية بدوية كانت تعيش بانسيابها الفطري فَرْحةَ الحياة، غير مبالية بما يجري من حولها من متغيرات. تداعب بأحلامها الصغيرة نسائم الأحراش والوديان وهي تسوق إليها قطيعها الصغير من الأغنام كل صباح. تتعرف «ياسمينة «مرة على شاب فرنسي مثقف يعمل ملحقا بالإدارة العسكرية للمستعمر كان يمر بالمكان صدفة، وبعد أن يعجب الشاب بجمال الفتاة، أصبح يختلف إلى المكان كلما وجد فرصة إلى ذلك، إلى أن استطاع امتلاك قلب ياسمينة، بعيدا عن أعين الأسرة وأهل قريتها، في علاقة عاطفية ملتهبة تنتهي بتسليم الفتاة نفسها للفرنسي الشاب، بعد أن وعدها بالزواج. ينتقل الشاب «جاك» للعمل جنوب الجزائر، ويخبرها ليلة سفره بأنه سيبقى وفيا لحبها، وأنه سيتزوجها حينما يستطيع مفاتحة أبويه الكاثوليكيين بشأنها.. تعيش ياسمينة على أمل عودة فارسها الذي ستنقطع أخباره عنها.. وبعد طول انتظار تتأكد من غدره وتستسلم لقدرها الذي كان اقترانا بالشاب عبد القادر الوسيم الأرعن الذي سيكتشف «عهر» زوجته في ليلة دخلتها.. ستعيش ياسمينة منذ ذاك اليوم هضيمة الجناح، ذليلة بجرمها، مدماة القلب بغدر «جاك» إلى أن تقرر الفرار من قريتها، مستغلة دخول زوجها السجن، إلى أحد أحياء العاصمة لتضيع في سراديبه المظلمة بين الدعارة والإدمان والمرض.. ولتنتهي القصة بلقاء فاجع يتنكر من خلاله «جاك» لياسمينة بعد أن لمحته يتأبط زوجته الفرنسية.. هذا هو مختصر حكاية «ياسمينة»، النامية وفق حبكة رومانسية مألوفة (حبور – انتكاسة وجدانية- نهاية فاجعة) على معتاد محكيات الرومانسيين الكبرى، كما في «البؤساء» أو «أحدب نوتردام» لفكتور هوغو، المنسوجة دوما عبر حدي الخير والشر، والإخلاص والغدر، والسذاجة والمكر، والحب والظلم.. والقصة على بساطة حبكتها الدرامية تلك يجدها القارئ معبّرة برهانها الإبداعي، دالة بجرأة وعمق داخل الزمن السياسي الذي أُنتجت فيه؛ فالقصة إدانة للمستعمر الفرنسي الذي استغل تفوقه الثقافي لاغتصاب عذرية الشرق الغارق في بساطته وسذاجته وحسن نيته.. ليفسد عليه حياته الفطرية، وليتسبب بعد ذلك في كل آلامه ومآسيه المتولدة عن ميكيافيليته المقيتة..لا شك، والقارئ يتتبع البناء الدرامي لهذه القصة، قد تداعى ذهنه رأسا نحو رواية «الحي اللاتيني» لسهيل إدريس؛ فبين النصين شبه شديد على مستوى الفكرة والحبكة وبناء الشخصية.. فياسمينة تذكرنا بـِ»جانين» بطلة الحي اللاتيني، ولنلاحظ التقارب الصوتي بين بنية الاسمين: جاسمن/جانين، الفتاة القروية البسيطة التي نزلت باريس من أجل متابعة دراستها، وهناك ستتعرف على بطلنا العربي المسلم «المغوار» الوافد من لبنان لتحضير شهادة الدكتوراه. تقوم بين الشابين علاقة حب ساخنة تنتهي بحمل.. يسافر طالبنا لقضاء إجازته الصيفية في لبنان، وهناك يعلم بنبأ حمل صديقته الفرنسية.. وتحت ضغط أمه الرافضة لفكرة قران ابنها من إفرنجية مسيحية، يتنكر البطل لجانين وجنينها.. ويتركها، بقساوة عاطفية صادمة، تواجه مصيرها وحيدة بعدما قررت إجهاض ثمرة حبها الساذج .. لتنتهي «جانين «- كما ياسمينة إيبرهاردت- ضائعة، جريحة القلب، داخل أحد أوكار الإدمان والدعارة خلف الأضواء الساطعة لباريس.. إننا إذن أمام نفس القصة لكن بفضاء معكوس، وهو الجانب الذي يحسب لسهيل الذي لم يكتف بنقل الفكرة وإنما استفاد منها لينسج من خلالها حكاية جديدة في أفق رهان تعبيري آخر يخص موقفه من ثنائية الشرق والغرب.. فالرواية تحفر في وجدان المتلقي، عبر المسار الفاجع لأحداثها، استحالة انصهار الشرق بذاكرته وأعرافه ومزاجه.. في الغرب بتحرره وقيمه.. وأي محاولة للإلحاق ستنتهي حتما – كما يريد سهيل أن يقول- إلى «إجهاض» مصاحب بكثير من الألم ومرارة الإخفاق.أمام هذا التشابه السردي الواضح بين فكرة الحكايتين وحبكتهما الدرامية، نتساءل هل كان كل ذلك مجرد صدفة من باب وقوع الحافر على الحافر كما يقول المثل العربي؟ أم هو تأثر مضمر، كما نعتقد، من قبل سهيل إدريس بقصة إيزابيل إيبرهاردت، ثم إعادة لإنتاجها ضمن موضوع روائي آخر تناولته العديد من الأعمال يخص لقاء الشرق بالغرب عبر نموذج طالب مشرقي مهاجر إلى أوروبا كما في «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، و«عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح ، و«أوراق» لعبد الله العروي.. أعمال تتشابه على مستوى فضاء الأحداث (الغرب الأوروبي) ودور البطولة (طالب مشرقي) إلا أنها لا تتطابق بأي حال من الأحوال في الحدث، والحبكة، وبناء الشخصية كما هو شأن ياسمينة والحي اللاتيني تحديدا!