Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

 ‘اختراع العزلة’ تفكيك الذات وفضح العائلة الأميركية

 ‘اختراع العزلة’ تفكيك الذات وفضح العائلة الأميركية
ادب وثقافة - 0:52 - 01/06/2016 - عدد القراء : 2880

سُئل الكاتب الأميركي بول أوستر في أحد الحوارات «لماذا أَصبحَ كاتبًا؟»، فقال «أعتقد أن الكتابة تأتي من إحساس شديد بالوحدة، إحساس بالعزلة». الإحساس بالعزلة لم يفارق أوستر الذي ينحدر من جذور بولندية، فسعى لمقاومته بالكتابة باجترار نثار سيرته، في كتاباته كنوع من كسر هذا الإيهام كما فعل في رواية «حكايات الشتاء».
أي كتاب هو نتيجة للعزلة
لم يكن كتاب الروائي الأميركي الشهير بول أوستر لسيرته وشعوره بالعُزلة مُقتصرًا على كتابه «حكايات الشتاء» الذي كتبه وهو رجل في خريف العمر (64 عامًا)، فقد سَبق هذا العمل كتابه «اختراع العُزلة» الذي كتبه أوستر بين سنتي 1979 و1981.يَنطوي كتاب «اختراع العُزلة» على مَقاطع من سيرة الكاتب وإن كانت السيرة تتميز بالجرأة على الأب في بعضها وبالتحامل الشديد في بعضها الآخر، وهو ما حدا بأفراد العائلة اليهودية إلى التبرؤ من الكتاب واعتباره فضيحة للعائلة حسبما أورد مترجم الكتاب في مقدمته بأنهم «أنَّبوه ووقفوا ضدّه وصرّحوا للجرائد بأنه يكذب، وأنه (اخترع) تفاصيل الكتاب».يُوزِّع المؤلف الكتاب، الذي صدرت ترجمته إلى العربية مؤخّرًا بتوقيع أحمد العلي، عن دار نشر أثر بالمملكة العربية السعودية، على الأب والعائلة وطفله وأخيرًا ذاته. ويعد هذا المؤلف أوّل عمل نثري لأوستر حيث يعتبر كتابه هذا جوهر أعماله كلها، فعلى حدِّ قوله «قد لا تكون ‘اختراع العزلة’ رواية غير أنّي أظن بأنّها تناقش العديد من الأسئلة التي أطرحها عادة في أعمالي الروائيّة».يتوزّع الكتاب على قِسمين الأوّل عن الأب والعائلة بصفة عامة بعنوان «بورتريه لرجل غير مرئي» ويستهله أوستر بفلسفته عن الموت وحقيقته المفزعة عند المفاجأة، فيقرُّ بأننا «فانون فما من أمر باقٍ في توالد حياتنا سوى الموت»، ثمّ يشرح أثر وقع الموت المفاجئ عليه «رنّ الهاتف، ولم أستطع التفكير حينها في أي أمر جيّد». بعد أن حدث ما حدث يُعلن عن استعادة اللحظة فيقول “بالنظر إلى الوراء الآن بعد ثلاثة أسابيع على الوفاة أرى أن ردّةَ فِعْلي حينها كانت مريبة، خِلْتُ دومًا بأن الموت سوف يفقدني القدرة على الشعور، سيشلني بالأسى، أما الآن، وقد حدث ما حدث، فأتذكر أنني لم أذرف دمعًا، ولم أشعر بالعالم يتهاوى من حولي، ويا للغرابة، لقد كنت مُستعِدا بشكل لافت لتقبّل هذا الموت على الرغم من بغتته. إن الذي شوّشني حقًّا كان أمرًا آخر، أمرًا لا علاقة له بالموت أو ردّة فعلي نحوه: اكتشفتُ أنّ أبي لم يترك وراءه أيّ أثر».الجملة الأخيرة بمثابة المفتاح لكشف أسباب هذه التعرية القاسية التي أقدم عليها أوستر، فصارت بمثابة محاكمة ولكن بين طرفين أحدهما حيّ والآخر ميت، ومن ثمّ غدا الكتاب كما وصفه مترجمه كشفا لأسرار دقيقة تخص العائلة. يصف أوستر الأب بتفاصيل كثيرة كالبخل، كما ظهر في مواقف الأب من مساومته للباعة، وعدم الذهاب إلى السينما بسبب أن الأفلام ستعرض في التلفزيون بعد عام أو عامين، وكذلك ذوقه في الملابس الذي كان متأخّرًا عشرين سنة، أو حتى اعتزاله الناس واحتفاظه بأشياء في منزله تنم عن إنسانٍ حريص إلى حدّ البخل والتقشف الشّديدين، إلى الهجوم على ما خلقه في نفس أبنائه من خذلان وكسر لهمة الابن، ويصفه بأنّه «شخصية خيالية، رجل ذو ماضٍ مُظلمٍ، أما حياته الحاضرة فلم تكن سوى محطة وقوف فقط».يتحامل الابنُ على الأب وَيُنقِّب في ذاكرته عن المرّات التي خذله فيها، ولم يقدّم له الدعم الذي كان يحتاجه طفل في سنه. ويتقاسم الابن مَشاعر الافتقاد هو وأخته أولفيا التي وُلدت عندما كان في الثالثة والنصف مِن عُمره، ونظرًا إلى حساسيتها الشَّديدة كان تأثير مُفارقات زواج الوالدين وخلافاتهما مِن تداعيات كبيرة، فقد رَاحَ إحساسها بعدم الأمان يتضخمُ.حالة الابنة وإصابتها بالمرض النفسي جعلتا الابن أكثر قسوة وهو يجرد الأب من مشاعره، فهو في نظره لم يكن مثل رونالد ديفيد لينغ الطبيب النفسي الأوسكتلندي، وهو يصف والد فتاة مشلولة ينتزعها من كتفها ويقول لها «تَحرّري مما أَنتِ فيه؟» فحسب رأيه أنَّ الأبَ لم يقم بواجبه في انتزاع أخته مما أصابها، بل كان مكابرًا ورافضًا فكرة ذهابها إلى طبيب نفسي من الأساس. وكأنّ الابن يشير بأصابع الاتهام إلى أَبيه فيما أصاب أخته مِن مرضٍ انتهى بها لأن تكون أسيرة علاج كيميائي لم يكن ناجعًا وقتها.
كتاب الذاكرة
يُولي الكاتب صفحات طوالا من كتابه لمتابعة تاريخ هذه العائلة التي ينحدر منها أبوه مُتتبعًا حالة الغموض التي واكبت سيرة موت جده، فيصل إلى حقائق مُفزعة قادته إليها الصُّدفة التي دفعت بأحد جيران العائلة إلى أنْ يُرسل لابنة عمّه التي التقاها مُصادفة على رحلة طائرة، الصُّحف التي تابعت الحادثة وقتها، يكشف عبر هذه الوثائق الحقيقة التي كانت غائبة عن الجميع، وكيف مات الأب هاري أوستر، بعد أن قتلته الزوجة آنا أوستر، ومحاولتها الانتحار مرة، ومرة أخرى محاولة سامويل أوستر قتل أرملة أخيه، بعد حالة التشوش التي أصابته بعدما رفضت وصايته على الأطفال، مُدعيًّا أن هذه المرأة دمرت عائلته، لكنها نجت من الرصاصات التي أطلقها عليها وهي بجوار البقالة.لا يستثني الكاتب الجدة من رسم صورة قاسية لها بعد انتقالها إلى مكان آخر. ومع أن الكاتب يدمج عبارة بروست في نصه التي تقول «للأطفال ميل دائم إما للانتقاص من والديهم أو للرفع من شأنهم، وبالنسبة للطفل الصالح، فإن والده هو أبدًا أحسن الآباء، بعيدًا عن أي سبب موضوعي لهذا الحكم».يأتي الجزء الثاني من الكتاب معنونًا بـ”كتاب الذاكرة: مطولات مقتطفة” ويشغل ثلاثة عشر كتابًا يسميها كتاب الذاكرة، ويختتمها بمقطع قصير مُعنون “في ساعة متأخِّرة من تلك الليلة” ثم يعقب هذا بكلمات ختامية لكتاب الذاكرة. يختلف هذا الجزء عن الجزء السابق الذي تعرَّض فيه لأبيه، هنا يُوقفه على ذاته وذات ابنه دانيال، وإن كان يستخدم الضمير الغائب في الروي، جاعلاً مساحة سردية يراجع من خلالها ذاته ومواقف من حياته، بل ويشير إلى هذه الذات بحرف “أ” كنوع من التغريب.كما يتناول طفولته وحياته الشخصية وأصدقاءه، وعمله بالترجمة التي اتخذ منها وسيلة لتقديم الشّكر والصّلاة على حياة ابنه ونجاته. ويؤكّد على أهمية الذاكرة بوصفها مكانًا، مبنى ذا أعمدة متتابعة، وأفاريز وأروقة، أي مادة مُتجسِّدة داخل الذهن نقوم بالسّير فيها والتنزه، ذاهبين من هُنا إلى هناك ونسمع أصوات وقع أقدامنا، منقّلين خطونا من مكانٍ إلى آخر. كما يُقدِّم نصائحه بما يجب أن تكون عليه الذاكرة من حفظ أكبر قدر من الأماكن، وأن تكون مُضاءة ومرتبة بوضوح وتتابع، ومفصولة بفترات زمنية معتدلة.يُوزّع بول أوستر على قسمي الكتاب مقتطفات لمقولات أعلام وفلاسفة كمداخل للفصول، وأيضًا يستعين ببعض منها داخل المتون لتأكيد ما يذهب إليه من أقوال، أو ما يُناقشه من أفكار حول هذه العلاقة الملتبسة بين الآباء والأبناء.فيورد مقتطفات لهيراقليطس، وكيركيغارد، وباسكال، وفرويد والقديس أوغسطين والكثير من هذه المقولات تأتي كتعزيز لحالة العزلة التي يعيش فيها، فيعزي نفسه بعزلتهم التي عاشوها وكيف تجاوزها. وإن كان هو اهتدى إلى الترجمة كسلوان له لهذه العزلة، فالكتاب الذي يترجمه سواء أكان يتحدث عن الصّداقة والرفقة أو الوحدة هو نفسه نتيجة من نتائج العزلة التي يمكن أن تكسر بتخيّل أن في الغرفة رجلين.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

الطقس في بغداد

بغداد
25°
26°
الجمعة
27°
السبت

استبيان

الافتتاحية