نتابع الملف النووي الايراني لانه من صلب واجباتنا كعراقيين. وما قمنا ونقوم به لا يتعلق فقط بقضية بين جار لنا وبلدان اخرى، بل ايضاً لها علاقة مباشرة باوضاعنا وحاضرنا ومستقبلنا.. ومضاعفات وتداعيات حسب الوجهة التي سيسير بها هذا الملف نحو التهدئة او التصعيد. فالملف يخص غيرنا ويخصنا، ومن واجبنا المتابعة والاهتمام. وساشير لمثالين فقط، وهناك اخرى.
المثال الاول.. يمكن للعراق ان يلعب الدور الذي تلعبه عُمان.. وجرت محاولات عديدة. وبالفعل عُقدت جولة مفاوضات في بغداد في ايار/2012 بين 5+1 وايران دليلاً لمكانة ودور العراق ليس من باب الوساطات فقط، بل لانه صاحب مصلحة مباشرة ايضاً.
المثال الثاني، واذكره للتاريخ، اذ كنت شخصياً طرفاً فيه. كنت نائباً لرئيس الجمهورية وكانت لي سفرة لطهران. وفي 8/6/2006 طلب سفراء بريطانيا وفرنسا والمانيا لقاءاً عاجلاً. حضر السفير البريطاني “وليم بيتي” والفرنسي “برنارد باجولية”، ولم يحضر الالماني لاسباب امنية. طلبا نقل مقترحات للجانب الايراني تؤيدها امريكا ايضاً، ملخصها: 1- حق ايران في تطوير استخدام الطاقة النووية لاغراض سلمية، ورفض انتاج القنبلة.. 2- التوقف عن التخصيب الى ان تعاد الثقة، وضمانات قانونية لتزويد ايران بالوقود والتسهيلات لاغراض سلمية..4- حوار سياسي في كل الشؤون.. 5- انفتاح تجاري وفي التكنولوجيات الحديثة.. 6- ايقاف اجراءات مجلس الامن. شاورت الرئيس واخواني المسؤولين. في يوم 9/6/2006 سافرت الى طهران والتقيت بمستشار الامن الوطني معالي الاخ “لاريجاني” المسؤول يومها عن الملف، ورئيس مجلس الشورى حالياً. نقلت له الرسالة، وشرح “لاريجاني” مفصلاً وبالارقام، ما خلاصته: اتفقت ايران في فترة الشاه مع الامريكيين والفرنسيين والالمان لبناء منشآت للاغراض السلمية وامداد ايران بالوقود النووي.. بعد الثورة لم ينفذوا التزاماتهم وتدهورت الثقة بيننا.. بدأنا العمل واستغرق الامر 15-16 عاماً لكي نصل لدورة الوقود. طالبوا تحديد اجهزة الطرد بـ10 فقط والتوصل الى معادلة خلال المفاوضات وتعليق التخصيب لعدة اسابيع، واستغرق الامر 2 سنة ولم نحصل على شيء.. اقترح لاريجاني نقل رأي ايران: 1- يؤكدون حق ايران بالطاقة النووية السلمية، لكنهم يقصودون المحطة وليس انتاج الوقود، وهذا مرفوض.. 2- ايران مستعدة لتطمينهم بخصوص القنبلة وان نعيد بناء الثقة.. 3- القلق متبادل، فهم يشغلوننا بهذه المواضيع، ويحرموننا من التخصيب، وبعد عقود تنتهي موارد النفط، ليمتلكوا هم شريان الوقود النووي.. 4- تقترح ايران بدء المفاوضات بدون شروط مسبقة، وارجاع الملف للوكالة، وعدم تعليق التخصيب بل يبحث خلال المفاوضات، ووضع جدول زمني، وبعد اتفاق الاطار الاولي، نبدأ بتفاصيل الاتفاق النهائي. اخبرني انه سيبلغ القيادة الايرانية، وسيبلغني بجواب نهائي من احد مساعديه. وبالفعل التقيت بالاخ (ج. و.) في 15/6/2006 في فرنسا، واكد مجدداً عدم قبول اية شروط خصوصاً بتعليق التخصيب سواء كشرط او كنتيجة.. وجدد استعداد ايران لازالة اي غموض فيما يخص القنبلة، الخ. ذكر الايرانيون انهم خلافاً لكوريا الشمالية ملتزمون بمعاهدة الحظر، ولديهم مفتشون دوليون، ولا يملكون القنبلة. نقلت للمسؤولين الفرنسيين والامريكان و”خافير سولانا” ممثل الاتحاد الاوروبي يومها، الردود الايرانية، وسجلت ردودهم، وحملتها للايرانيين مما لا مجال الان لتفصيله. كان هذا جهداً متواضعاً، لا يقاس بالجهود المضنية التي بذلت من الاطراف المعنية وأوصلت لاتفاق تموز 2015، الذي جرى بمرحلتين، اتفاق الاطار اولاً، والنهائي ثانياً.
سيحقق العراق منجزات استراتيجية لا تتعلق بالامن والاستقرار فقط، بل ايضاً بمصالح المواطنين وبالاقتصاد والبيئة وتقريب وجهات النظر السياسية وغيرها، آن استثمر مكانته وعلاقاته. خارجنا هو داخلنا ايضاً، ولابد من فهمه والتعامل معه برؤى تتجاوز الخلافات والجزئيات في سياسة يسميها الامريكان bipartisan (سياسة يؤيدها الحزبان). وهذا السلوك ليس غريباً عن العراق. ففي الفترة الملكية كان البلاط يستدعي ممثلي القوى الفاعلة للوصول لرؤية مشتركة في المنعطفات الكبرى، وهو ما اصبحنا نسميه بسياسة “توافقية”، لم نطبقها دائماً في الاستراتيجيات، بل صرنا نستخدمها في الجزئيات، فصارت تعطي مقلوب النتائج.