كان ثمة ظلامٌ خفيفٌ يبتعد عن مطار العين شيئاً فشيئاً، حاملاً معه حفنةً من نجوم الليلة الماضية، مفسحاً الطريقَ لفجرٍ صغيرٍ، يتجمع على مقربةٍ من المطار، ويتقدم شفافاً دافئاً، في اتجاه صالة المسافرين. لم يكن ذلك الفجر قـد اكتمل، تماماً، في تلك اللحظة، بل كان في بداياته الأولى، خليطاً من ظلامٍ يبتعد وفجرٍ دافئ في بداية تكوينه. وكان ذلك في آب اللهّاب، كما نقول في العراق، من عام 1997.لم يكن المطار كبيراً. لكنه كان متوهجاً، وملموماً على ذاته. يذكرني، إلى حـد ما، بمطار صنعاء، الذي اعتدت السفر منه وإليه طوال سنواتٍ ستٍ عملتُ خلالها أستاذاً في الجامعة هناك. ومع أن مطار العين كان أكثر حداثة، إلاّ أن المطارين، كليهما، يوحيان بحميميةٍ واضحة. لم يكن لي خيارٌ آخر غير الحجز على تلك الرحلة المبكرة لطيران الإمارات المقبلة من عمان، فقد كنت في طريقي إلى أبوظبي للعمل أستاذاً في جامعة الإمارات. لست قادراً، في مساحةٍ كهذه، على الحديث، باستفاضةٍ، عن هذه المدينة، فتنةٌ لا افتعال فيها، وألفةٌ تغمر القلب بالطمأنينة والبشاشة. كان جبل «حفيت»، بعزلته المهيبة وكبريائه المحببة، واحداً من فضاءاتنا المبهجة دائماً. وفي المساءات كان الطريق الصاعـد إليه يتلوى كنهرٍ من الذهب المشتعل متجهاً إلى آخر الليل. وقبل الوصول إلى هذا الجبل، وفندقه الجميل المطل على المدينة عن بعد، تواجهنا «المبزرة» بمياهها المعدنية الحارة، وتلالها التي تم تصميمها وانشاؤها ثم زراعتها لاحقاً.هكذا هم الناس في هذه البلاد، يغيرون تضاريس الأرض كي يزيدوها جمالاً ولطفاً: ينشئون التلال والبحيرات والمراعي، ويربون الأشجار كما يربون الأطفال تماماً. يدفنون البحر لتتسع المدينة وتسترخي، ويصنعون البحيرات كي يخففوا من وحشة الإسمنت وصلابته. منازلةٌ باسلة بين الإنسان والطبيعة لتكون في خدمة البشر، مشهدٌ كان يبعث النشوة في كياني كله. غير أنني أصحو أحياناً كالملدوغ، فأجدني فريسةً لتساؤلاتٍ لا جواب لها: أيّ مدنٍ تنهض من أعماق الصخر وكثبان الرمل فتيةً مزدهرة، وأيّ بلادٍ عريقةٍ تلك التي أضاعها الجهلة واللصوص وأعداء الحياة.وفجأة يحدث، وأنا في هذه المدينة الشبيهة بالجنة، ما يفوق أشد الكوابيس ضراوةً. ثمة دبابتان كانتا تدوسان على حلمي، وتعبران الجسر متجهتين إلى قلب بغداد. كانتا بداية الزلزال، وشارة انهدام البلاد على أهلها. وكانتا مزهـوّتين بباطلٍ أعـدّ له بعناية. وكان ذلك في عام 2003.لم أكن قادراً حينها على التماسك، لولا هذه المدينة التي أعانتني على ما أنا فيه، بدا لي العالم وكأنه يتكالب كله على بغداد لإطفائها، وإلى الأبد. وبدا لي أن الإنسان، هناك، يطرد من جنته القاسية مرة أخرى. كانت مدينة «العين» تريني، وأنا في محنتي تلك، أجمل ما يمكن تخيله من المباهج، فتحتْ لي قلبها الفياض بالشباب والفتنة، وأعانتني على أن أندفع في فضاءاتٍ شتّى: الشعر، والتدريس، والمحبة، والإسهام في الحياة الثقافية العامة.وهكذا كنت أعمل بشهيةٍ لا تعرف الارتواء، مندفعاً، مع مجموعة من زملائي، لنذهب بطلبتنا إلى ذائقةٍ جديدة، تصغي إلى الشعر بمحبة، وترى الحياة نصاً يمور بالرموز والدلالات. وكنت أجـد في القصيدة وفي قاعات الدرس ملاذاً مما أنا فيه من تصدع. عشرون عاماً تقريباً، كانت زمناً فردوسياً، شديد الغنى، حافلاً بالمتضادات الخصبة: متوتراً وحميماً، طويلاً وخاطفاً، كأنه الأسطورة تفيض شباباً، أو النهر المتوحش لا يمكن الإمساك به. وإذا كانت الجغرافيا قد حرمت هذه المدينة من مجاورة المياه، فقد اختارت قدرها الجميل بثقة، أن تقف بعيدة عن غابات الإسمنت، وأن تحتضن الجامعة الكبرى في الإمارات. لم تكن مدينة العين في طفولتها غير واحةٍ منعزلة، لا يحيط بها إلاّ الرمل اليابس والريح التي تجوب الصحارى. ولدتْ هذه المدينةُ ربما من حفيف نخلتين وحيدتين، أو بئرٍ مسيجةٍ بالوحشة. لكنها تقف اليوم ريانةً، مشرقة. يتهدل فيها الشجر على الأسيجة، ويصغي العشب إلى خطوات المارة، مدينةٌ تقتحم الحياة العصرية بوعيٍ ورشاقة، لتختار حداثتها التي تبقيها وفيةً لتراثها الجميل من جهة، ومنفتحةً، من جهةٍ أخرى، على العالم وتحولاته التي تبهرنا كل يوم.