لو بحثت عن أفضل مُقترب لإيضاح دور الرقيب الذاتي للمثقف العربي، الذي يهجع تحت جلده لما وجدت أفضل من تلك الحكاية التي قد تبدو في ظاهرها مؤلفة، وأقرب إلى مسرحية تراجيكوميدية تُضحك حتى البكاء، ففي إحدى الندوات التي كنت مساهما فيها ضمن مشروع اليونسكو كتاب في جريدة، قرر المشاركون أن يختاروا كتبا منها، روايات ومسرحيات ودواوين شعرية، وحين بدأت الاقتراحات كانت على النحو التالي:نشر مسرحية سعد الله ونوس «الفيل يا ملك الزمان»، واعترض على الفور ثلاثة من المشاركين لأنهم يعيشون في ممالك، وحين تم استبدالها بمغامرة رأس المملوك جابر اعترض على الفور أحد المساهمين لأمر يتعلق بالعنوان، وأذكر أن الراحل لطفي الخولي اقترح مسرحية «السلطان الحائر» لتوفيق الحكيم فجاء الاعتراض أيضا للسبب ذاته، وهو العنوان. وتكررت الحكاية عندما اقترح أحد المشاركين نشر رواية الطيب صالح «عرس الزين»، فلم يسلم الاقتراح من الرفض الفوري بسبب العنوان أيضا، وهذا ما حدث بالحرف الواحد في ندوة استغرق انعقادها ضعف الزمن المقرر، لأن عناوين الكتب المقترحة تمسّ من قريب أو بعيد ألقابا من طراز ملك وسلطان، أو اسماء كالزين وجابر.منذ ذلك الصباح أدركت أن ما يكتب بشكل مجرد عن الرقيب الذاتي لدى المثقف العربي يحتاج إلى تجسيد، وهذا ما كان والسبب في ذلك كله أن هناك ميراثا من الزجر والقهر نحمله على ظهورنا، كما تحمل السلاحف أصدافها فهي بيوتها وقبورها معا ومهودها وتوابيتها، ومن سمعوا أن رواية فكري أباظة «شيء من الخوف» التي تحولت إلى فيلم سينمائي وجدت من يشي بها للرئيس الراحل عبد الناصر، لا بد أنهم سمعوا أيضا ما قاله ناصر بعد قراءتها ومشاهدة الفيلم قال بالحرف الواحد: إن من قاموا بتأويل شخصية عتريس التي جسّدها محمود مرسي على أنها عبد الناصر، والتي ترمز إلى الاستفراد والاستبداد والاستبعاد، هم الذين يفكرون بذلك، وينطبق عليهم المثل الإنكليزي الشهيرDirty Mind وهؤلاء هم الذين منعوا أغاني أم كلثوم بعد ثورة يوليو/تموز، لأنها غنّت في العهد الملكي، وكان موقف عبد الناصر صادما لهم فهم ملكيون أكثر من الملك، وكاثوليكيون أكثر من البابا. قال لهم عبد الناصر: استأصلوا الأهرام وأبا الهول لأن هذه الآثار موجودة قبل ثورة يوليو، وكانت سخريته المريرة اللاذعة بمثابة إفراج عن العديد من الكتب والأفلام المصادرة.إن ما يعانيه المثقف العربي من فائض الخوف يصل حدّ الحذر الذي يؤدي بالضرورة إلى التعثّر، فهو مسكون بأشباح وفوبيات لا سبيل إلى التحرر منها في المدى المنظور، والثقافة التي تبيح لعسس الرقابة معاقبة معلم استخدم رمز الماء في حصة الكيمياءH2O لأنه كما قالوا في وشايتهم يرمز إلى حميد الثاني الذي يساوي صفرا، لا بد أنه رزح تحت حمولة باهظة من الاحتراز والخشية من التأويل.وأقرب مثال إلينا هو ما تتورط به الثورات أو الحراكات العمياء التي تحمل هذا الاسم مجازا من مضاعفة أخطاء وخطايا من ورثتهم، وهناك مفارقة في تاريخنا تستحق وقفة مطولة في مقام آخر هي أن الفترات التي شهدت إنجازات سياسية ومشاريع وحدوية بدءا من التجربة الأيوبية شهدت في الوقت ذاته وبتزامن عجيب انحسارا في الحريات وفي مقدمتها حرية التعبير، فالسهروردي والحلاج وابن المقفع وسائر السلالة كانوا ضحايا تلك المفارقة. حتى بعد ثورة يوليو في مصر تعرض شعراء الحداثة، وفي مقدمتهم عبد الصبور وحجازي إلى تضييق وترهيب ثقافي حال دون مشاركتهم في مؤتمر أدبي عُقد في سوريا، ومن مارس هذا التضييق ليس جنرالات بل أدباء لكن ممن رأوا في التجديد عقوقا للأسلاف.إن تجليات المكارثية في مختلف الثقافات كان لنا كعرب نصيب منها، لكن ما نمتاز به هو أن شبه المثقف يناط به دور الرقيب الصارم الذي يهز غربالا أعمى كي لا يتسرب منه شيء، لهذا علينا أن لا نستغرب مساحة القارة المسكوت عن كائناتها وما يجري فيها من اشتباكات واستباحات، فهي أضعاف مساحة العالم العربي، الذي لو أردنا تقديم إحصاء ديموغرافي دقيق له لقلنا إنه أكثر من نصف مليار نسمة، فالشيزوفرينيا تضاعف من عدد السكان في أي مكان في الجغرافيا، وحين تتحول الشيزوفرينيا من إصابة نفسية لنسبة من الأفراد إلى وباء، فالأمر يستحق إعادة نظر في كل شيء حتى الجذور, وحين نجد في ثقافتنا رجالا ونساءً لكل العصور، يزاوجون على نحو غير مسبوق بين الليبرالي والأصولي واليميني واليساري في كيان واحد وجسد واحد، فإن الحاجة تصبح أكثر إلحاحا لاستخدام المجهر السايكولوجي، لأن ما يطفو على السطح من ظواهر ومشاهد سياسية، ليس سوى طفح أشبه بالطفح الجلدي أو البثور، أما الداء فهو في الداخل وفي صميم الدورة الدموية، ولو كتب المثقف العربي واحدا بالألف مما يقوله بلسانه لاختلف المشهد كثيرا، لكن هناك كلاما للورق وكلاما آخر للناس، والثقافة التي أفرزت عبر مختلف الأجيال آلاف المواعظ والأمثال التي تحرّض على الصمت وإيثار السلامة، لا بد أنها مشحونة بالهلع والترويع، بحيث تصبح كما قال ميلان كونديرا عقابا جاهزا يبحث عن متهم، وحين لا يجده يخترعه، كي لا يبقى العقاب ممنوعا من الصّرف. لهذا فالصمت من ذهب أما الكلام فهو ليس فضة، بل من قصدير مغمور بالصدأ.