تراكمت وترسخت اخلاقيات جمعية ورسمية تستسهل الاقتراض وتستصعب السداد. فالمديونية والأسر كانتا تاريخياً اساس استرقاق البشر واستعبادهم. لذلك حارب الاسلام الربا، وشجع المرابحة والقرضة الحسنة الهادفة. في بداية التغيير الغينا الديون الداخلية.. اما الديون الخارجية (120 مليار دولاراً)، فلا يوجد مفهوم “عقود الاذعان” التي تنظم علاقة الدولة بالاخر الداخلي، فكان لابد من خوض مفاوضات مضنية وقاسية مع الدائنين الخارجيين. قسمنا الديون لاربع جبهات. 1- جبهة الدائنين من دول نادي باريس.. 2- الدول خارج نادي باريس.. 3- الشركات والمؤسسات الخاصة.. 4- دول الخليج. بدأنا بدول نادي باريس الـ18 يومها و22 حالياً. والنادي جماعة غير رسمية لدول دائنة. توصلنا في 21/11/2004 لاتفاق بالغاء 80% من الدين، وجدولة المتبقي لمدة 23 عاماً، وبفترة سماح 6 سنوات.. وبموجب الاتفاق لا يمكن منح اي من الدائنين الاخرين شروطاً افضل من الاتفاق مع النادي. وهو ما سمح لنا باتفاقات ثنائية مع بقية الدول الدائنة، وقمنا بشراء دين الشركات والمؤسسات الخاصة بواقع 10 سنت لكل دولار دين، وبقي دين الجبهة الخليجية، الذي منعت التوترات السياسية من معالجته اسوة بالاخرين.
تشرفت بادارة الملف بصفتي وزيراً للمالية في حكومة الدكتور علاوي.. يساعدني الدكتور الشبيبي وفريق من المالية والبنك المركزي. وكما يحصل عادة زايد المزايدون، لكنه كان واضحاً انه بدون حسم الملف كان من المتعذر تصدير النفط بسبب الحجوزات المتوقعة، او الخروج من نظام العقوبات واعادة العلاقات الطبيعية مع الدول والمؤسسات العالمية. وبعدنا تابع الموضوع الاخوان علي علاوي وباقر صولاغ وزيرا المالية على التوالي. فكان الأمر برمته انجازاً كبيراً للعراق، وبلغت نسبة الخلاص من الدين بحدود 90% لتنازل بعض الدول كلياً عن ديونها، فاعتبرت العملية الاكبر تاريخياً للتخلص من دين بهذا الحجم، خصوصاً وان نسبة 80% لم يسبق ان اعطيت لدولة متوسطة الدخل كالعراق.
وبدل الاستمرار بتحرير انفسنا من الديون، او الجدوى في استخدامها، خصوصاً مع تحسن موارد الدولة (2004-2014) فان سياسات الصرف غير الراشدة، وعدم استثمار الاموال لانطلاق القطاعات الحقيقية المنتجة للثروات، والايغال في الموازنات المضخمة وكثرة التوظيف والنفقات الاستهلاكية، اضافة لكلف الحرب وانهيار اسعار النفط، عادت لتثقل علينا الديون الداخلية والخارجية مجدداً. فصار الكلام عن الاستدانة والاقتراض والدفع بالاجل وكأنه الفوز العظيم دون التفكير بالنتائج.. فحسب الاحصاءات الرسمية للربع الاخير للعام المنصرم انخفضت احتياطات البنك المركزي من 77 مليار دولار الى اقل من 50 مليار دولار، وارتفعت الديون الى معدلات مرتفعة. اذ يقدر الدين الداخلي 46، والخارجي 23 مليار دولار، يضيفون اليهما حوالي 41 مليار دولار من الدين الخليجي. لتصبح الديون بحدود 110 مليار دولار حسب وزارة التخطيط. لكن طرح الارقام بهذا الشكل يفتح الباب للتكهنات والحسابات الخاصة.
ان الشفافية والحقائق الكاملة افضل وسيلة لمواجهة تطورات هذا الملف الخطير والمقلق. ومهما كانت الحقائق قاسية، لكن شرحها للجمهور والبرلمان بهدف المعالجة، افضل من تركها للهواة والمبالغات. فكبريات الدول والشركات مدينة بديون هائلة، لكنها تنتج عموماً ما يفوق مبالغ السداد. والخشية، ان ترهننا ديوننا بسدادات تتجاوز مواردنا.
عادل عبد المهدي