‘النيوسبيك’ كلمة صاغها أورويل ليسخر من الاشتراكية الإنكليزية، وهي تشي بلغة موهِمة، تلك التي تقر بشيء وتنفيه في الوقت ذاته.مسرح يجعل العيون محملقة من حولك، الألسنة تهمس في أذنك بالإشارات والألغاز، فلا تفهم ويحل الصمت على القُعُود. تتجنب السير مع ثلتك، فتجمُّع ما يزيد على ثلاثة أفراد جريمة يعاقَب عليها القانون. سماعة هاتفك متصلة بما لا تبصره أو ترغب فيه. تسير، إن كنتَ مواطنا مصريا، مطأطئ الرأس على الرصيف “المضاد” لقسم الشرطة، ولو تيسَّر لك، لا تقْطع الشارع ذاته.عالمك سري، وإنما واقعي. الأخ لا يأمن على سر عند أخيه في سوريا الأسد، والجار رقيب مدفوع الأجر -موظف حكومي- على جاره. أُذُنا الحاكم في حجم الأطباق الهوائية وكفاءتها، وكاميرات المراقبة التلفزيونية تتسلط بلا خجل على نوافذ الحجرات المغلقة، لتتآكل المساحة الفاصلة بين العام والخاص. لستَ -ولن تكون- وحدك قط.ومَن زل لسانه، كمن جلب على نفسه التهلكة من وسع. ومهما بلغتْ بك الحيطة، سوف يرصدك الأخ الأكبر بعيون خبيرة ونفس شرهة إلى الإيذاء. ألم يتغير الوضع منذ عام 1949 حين كتب الإنكليزي جورج أورويل روايته “1984” بعد الحرب العالمية الثانية؟!على ما يبدو، الفارق هو اختلاف الوسائل، إنها الآن تقنية وتكنولوجيا، والتجسس كله يجري بضغطة زر من كمبيوتر على بعد أميال.كان إدوارد سنودن، الواشي الأكبر، قد صدمنا عام 2013 بأن المخابرات الأميركية بمقدورها الحصول على بريدك الإلكتروني وكلماتك السرية وسجلات هاتفك وأرقام كروت الائتمان! وفيما تتصفح الإنترنت، تتتبع مؤسسات الأمن القومي تحركاتك ثم تخزِّنها لتستخدمها في رسم نسخة رقمية منك.وعلى النقيض من سنودن، هناك مَن لم يسعه تحمل صفعات الأخ. فقد اعترفت الجندية تشيلسي ماننج المدانة بانتهاك قانون التجسس الأميركي في قضية موقع ويكيليكس، المعادي لسرية الحكومات وتلصصها على المواطنين، أنها تنظر إلى أفعالها و”أتساءل كيف أني حسبتُ، بحق السماء، أني سأغير العالم!”
إن عالم 1949 هو عالمنا إذن، أو أنه صار، بالأحرى، امتدادا لعالمنا. لا تراودنا حقا أية غربة فكرية عن أجواء رواية الأربعينات الكلاسيكية ونحن نتفرج على هذه الديستوبيا الراديكالية على مسرح القرن الواحد والعشرين.كتب الرواية للمسرح روبرت أيك المختار عام 2014 كواحد من أبرز المبدعين وأشدهم تأثيرا في مجال الصناعات الإبداعية ببريطانيا.تعاون معه في كتابة المسرحية وإخراجها دانكان ماكميلان الفائز بجائزة بيرسون عام 2008. العرض نفسه حاز جائزة ليفربول بوست لأفضل مخرج عام 2013 وجائزة أفضل مخرج من جوائز المسرح البريطاني عام 2014. كما ترشح لجائزة أوليفيه لأفضل مسرحية جديدة عام 2014.
قلب الآية
بعد نجاح ساحق على مسرح ألميدا، انتقلت مسرحية “1984” إلى مسرح بلايهاوس اللندني. وعلى مدار مئة دقيقة، لا ينقل أيك وماكميلان تلك الرواية الأيقونة نقلا حرفيا أعمى، وإنما يقْلبان الآية ويبدآن من النهاية. ونهاية الرواية هي الملحق المعنون بـ”مبادئ لغة النيوسبيك”.
فليسقط الأخ الأكبر
يدور الملحق عقب عام 2050 وإن استحضر ديكورُ النص أربعينات القرن الفائت وموسيقاه حين يتقاطع الماضي مع المستقبل، ويتوه منا الواقعي المتقلِّب في زحمة الخيالي. وأورويل، العالِم بالغيب، يعلن فيه هزيمة الأخ الأكبر، ربما في بلاد الإنكليز غير أننا لن نشهد ولا شك اندحار الشرير في بلاد العرب.و”النيوسبيك” كلمة صاغها أورويل ليسخر من الاشتراكية الإنكليزية. وهي تشي بلغة موهِمة، تلك التي تقر بشيء وتنفيه في الوقت ذاته. يستغلها الساسة عبيد الأيديولوجيا في أعمال البروباغاندا وخداع الجماهير. كان الرفقاء الكبار قد ركَّبوا مفرداتها كي تفيد بتعبيرات في غاية الدقة لكل معنى قد يرغب الحزب في التعبير عنه بينما تستثني أية معان أخرى أو حتى احتمالية فهم لأية إيحاءات مخالفة. وهكذا تطورت اللغة ليضيفوا إليها كلمات جديدة ويحذفوا منها أخرى “ضارة”.كانت كلمة “حُرّ” على سبيل المثال واحدة من الضحايا. رغم أنها لم تزل في القاموس، تقلَّص مغزاها لتنم عن تعابير جبانة، كأن تقول، “ذهَبٌ حُرٌّ” أي “لا يشوبه معدن آخر”، أو “طينٌ حُرٌّ” أي “لا رمل فيه”، أو “عسلٌ حُرٌّ” أي “صاف غير مخلوط”. أمَّا التلازم بين “حر” وحقوق الإنسان والديمقراطية، فلم يعد قائما لأن حقوق الإنسان والديمقراطية ذاتها كأفكار رفستها السلطات خارج القاموس وانتهى بها الحال إلى كلمات هرطقية منفية من ألسنة الناس.
ارتداد عن العقيدة
يطرح المشهد الافتتاحي للمسرحية قضايا فكرية ملهمة وعويصة. إليكم ستة أفراد بلا هوية معلومة، يتخذون مجلسهم إلى طاولة خشبية في حلقة لقراءة الكتب. يتحدثون حديثَ مُعْجَميين رجعيين تلم بهم الحيرة وهم يلوكون سيرة كتاب لا يصرحون باسمه. لعلها الرواية ذاتها، ولعلها يوميات البطل السرية، “كتبتُ ليلة أمس أن هناك ما يسمى بالحقيقة. الحقائق ما هي إلا حقائق. والواقع واقع. واثنان زائد اثنان يساوي أربعة”.ولعلنا نُلحق بعقولنا الإرهاق بحثا عن عنوان كتاب مجهول. ثمة إيحاء بأنه عمل أدبي، ولكن ماذا يعني هذا الكتاب الملغز بما يحويه من أسئلة لانهائية وما يعدمه من أجوبة؟ هل يحْمل أي مدلول تاريخي؟يتشكك الستة في حقيقة الرجل المرتد عن عقيدته والمنخرط في حرب ضد السلطة، فيحاولون سبر إذا ما كانت قصته أدبا أم أنها تاريخٌ وقع بالفعل. أعاش المتمرد بحق في جيل استفحلت فيه الشيوعية أم أنه محض خيال؟
الحديد والنار
تتوالى المشاهد فنتعرف على دولة تسلطية مستقبلية -وقتذاك- يحكمها الحديد والنار. في الساعة الواحدة ظهرا من شهر أبريل، عام 1984، يشرع ونستون سميث الرفيق 6079 -لفظ مذكِّر بالدكتاتوريات البائدة، والرقم يوحي بأنه ترس في آلة- في كتابة يومياته. يسأل محتارا في أول صفحة، “لمن أكتب؟”.ينهمك في علاقة غرامية مآلها الإخفاق مع جوليا، شريكته في الجريمة والمتواطئة على ارتكاب سلوكيات تعكس تحديا يستخف بالسلطة الاستبدادية بينما يتوقع الدكتاتور منها، ومن الرفاق جميعا، مؤازرة الحزب الحكام في مقاطعة “إيرستريب وان”، المعروفة سابقا ببريطانيا العظمى!
جو موبوء بالخطر الفاشي
استغلت مصممة العرض، البريطانية كلوي لامفورد، الخشبة خير استغلال. إذ ترددت أعيننا بين شقة ونستون ومكتبه في “وزارة الحقيقة” وغابة رعوية يلتقي فيها الحبيبان سرا في مشاهد ترين عليها الغَشْية.كما يتقابلان في غرفة فوق أحد المتاجر حيث يحسبان أنهما بمنأى عن عيون الأخ الأكبر. وفي حركة غير مسبوقة على المسرح البريطاني نرى المشاهد الحميمية على شاشة غائمة تعتلي الخشبة الشاغرة. نخالها بحواسنا المخدوعة مقاطع مسجَّلة، وما هي في الحقيقة إلا مناظر حية تنفضّ في خلفية المسرح.وعلى الشاشة ذاتها تصطدم الأبصار بفيديوهات من تصميم البريطاني تيم ريد. تُظهر إضاءات خافقة براقة من كلمات “الخوف”، “الكراهية”، “مذنب”، “مجرم الفكر”، “قهر”، “حرب”، وفي إحدى الإضاءات ماعز ناعسة العينين تلتهم عشبا!
مَن الواشي؟
الحق أن للمحقِّق عينين لا تنامان، ومكبِّرات صوته تلهج بنبرات تنزع إلى السيطرة، ومناهجه في الانتقام الجسدي والعقلي لا تنضب. وفي النهاية يعاند الحظُ المحتجَّين على السلطوية، فيقعان في فضيحة تجسس مدوية تحت أنياب موظفين مدنيين يديرون قناة بي بي سي. وونستون لا يمسك عن ترديد، “أين أنا؟” مَن وشى بهما؟ ولكن مَن كان ليجرؤ ألا يشي؟!وبغتة يصير الجوُ موبوءا بخطر الفاشستية. نشاهد المسرح يتمزق ركنا ركنا، والجدران تتهاوى، فتتسع أعيننا على خشبة أرحب. والرحابة هنا لا تنبئ عن أمن، وإنما تكْشف عن سجن يلم العاشقين، ويا لوحشية العقوبة.لا يلبث السجن أن ينقلب غرفةَ تعذيب، “والباب المفضي إلى الغرفة رقم 101 قد ينفتح في طرفة عين” كما تقول هذه المسرحية الرمزية. وعندئذ ينسل النص بسلاسة من الأربعينات إلى عصر الإنترنت. يؤكد المحقق الأشبه بالصقر الشرس، “لن يقُوم الناس بثورة. لن يرتقوا بأعينهم عن شاشات الكمبيوتر بما يكفي لإدراك ما يجري”، في إشارة إلى أن مواطني بريطانيا المعاصرة، غير السالمة من الرقيب، يستعصي عليهم هم أيضا تصديق الجريدة ومذيعي الأخبار.وعقب العتمة التامة المصاحبة لضربات الأجراس المخيفة في بداية المسرحية، تبهر مصممة الإضاءة ناتاشا تشايفرز أعيننا بضوء أبيض نتبين معه دماء غزيرة، تنزف من ثغر البطل على يد معذبيه. المحزن أن الدماء المهدورة تستجلب اعترافا، بل وخيانة للأصدقاء. والبطل اللاعب دوره البريطاني سام كرين الفائز بجائزة نيكولاس هيتنر، هذا البطل المصنوع من ورق لم يعد يساوي بَصَلَة.