لن يموت الشعر كما تنبأ هيغل قبل أكثر من قرن ونصف. ولكن لنعترف أن صحته ليست على ما يرام، لا عربيا ولا عالميا. لم تعد هناك سوى قصائد جيدة هنا وهناك. لكننا نفتقد حالات شعرية تشكل المشهد وتملأه، أو حتى أصواتا شعرية ترتفع فوق الضجيج الذي يصك أسماعنا. هذه «الحالات الشعرية» عرفناها، مثلا، مع معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي ومحمد مهدي الجواهري وغيرهم في العراق. ومع أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومحمود حسن إسماعيل في مصر. وإلياس أبو شبكة والأخطل الصغير وسعيد عقل في لبنان. وفي سوريا مع بدوي الجبل وعمر أبو ريشة.وعرفناها لاحقا في الخمسينات والستينات مع شعراء مثل بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وأدونيس ومحمود درويش، الذين ملأوا المشهد كله، وغطوا سماءه.وما يصح عربيا، يصح عالميا.في المهرجان الدولي للشعر الذي انتهت أعماله في العاصمة البريطانية يوم الأحد الماضي، انعكست هذه الحقيقة بشكل صارخ. فهذا المهرجان، الذي أسسه الشاعر تيد هيوز عام 1967. كان صورة مصغرة للمشهد الشعري العالمي، وأصواته البارزة وتطوراته الجمالية. وكان يشارك فيه شعراء من وزن النوبلي بابلو نيرودا، الذي حضره ثلاث مرات، والنوبولي الآخر البولوني تشيلاف ميلوش، وشاعر الكاريبي دريك والكوت، الحائز نوبل أيضًا، وميروسلاف هولوب، والشاعر الكندي روبرت برينورست، والأسترالي ليز موري، والأميركية ريتا دوف، هؤلاء الذين ملأوا المشهد الشعري، ليس في أوطانهم فقط، بل في العالم كله.لا شيء من ذلك الآن. لقد حل محلهم شعراء على غرار مغني الراب، أو ما يمكن ترجمته بـ«الشعر المؤدى»، المكتوب خصيصا لإلقائه أمام الجمهور، وما يسمى أيضا بـشعر «قوافي الرج»، أي السجاد، وهي القوافي المتلاحقة التي تنتهي بحرف واحد. وبدل «محاضرة المهرجان»، وهي تقليد دأب عليه مهرجان الشعر منذ تأسيسه، وكان يستضيف فيه أهم الأصوات الشعرية والنقدية في العالم، حلت ورش مصطنعة تعلم الناس كيف يكتبون الشعر، وكيف ينظمون «الشعر النضالي»، أو «شعر المشاهدة»، الذي يجمع بين الشخصي والسياسي، أو يكتبون قصائد غزل! وكرس المهرجان لما يمكن ترجمته بـ«الشعر المؤدى»، المكتوب خصيصا لإلقائه أمام الجمهور، أكثر من أمسية، وكذلك لما يسمى بشعر «قوافي الرج»، أي السجاد، وهي القوافي المتلاحقة التي تنتهي بحرف واحد، وما شابه ذلك من فعاليات أقل ما يقال عنها إنها ليست لها علاقة بالشعر.يبدو أن عصرنا عصر نثري، سمعيا وبصريا. عصر يزدهر فيه كل شيء، إلا الشعر الذي يركن شبه مهمل في زاوية من زواياه، غير منظور في المشهد العام. ويبدو أن ثقافتنا المعاصرة لم تعد تسمح بظهور شعر عظيم، وهي ليست قادرة أيضا على إنتاج قراء لهذا الشعر، بسبب طبيعتها، التي تشظت إلى عناصر كثيرة لا جامع بينها كما يبدو. لكن هل حياتنا المعاصرة هي وحدها المسؤولة؟هناك من يلقي المسؤولية، ومنهم، على سبيل المثال، دون باترسون الذي قدم «محاضرة المهرجان» في دورة سابقة من مهرجان لندن الدولي للشعر، على «الأدب ما بعد الحداثي للجوئه للغموض غير المبرر فنيًا، والتعالي على القارئ» وأيضا إلى استسهال كتابة الشعر.هل يمكن للشعر أن يستعيد دوره كحالة ثقافية في حياتنا المعاصرة؟ لنتفاءل مع باترسون بقوله: نعم يمكن ذلك إذا عاد من جديد «فنًا أسود، كالسحر الأسود، قادرا على تغيير إدراك القارئ إلى الأبد بغرس الصور والأفكار في الذاكرة، ومن خلال قوة الخيال التي لا يمكن إبطالها»، رغم «نثر الواقع البغيض»، بتعبير لوكاتش.