صدرت عن ” دار الآداب البيروتية مؤخرا ً ، رواية ” خان الشابندر ” لمحمد حياوي ، بعد مرور أكثر من ثلاثين سنة على صدور روايته الأولى ” ثغور الماء ” ( 1983 ) ، التي تلتها أربعة أعمال قصصية وروائية أخرى .تقع هذه الرواية في فصول لا تحمل أرقاما ً، ربما بهدف التعتيم على واقعيتها . وعلى الرغم من إنها بدأت بمقاطع من خارج التسلسل السردي الزمني الواقعي للأحداث ، فإننا نرى أن بدايتها الحقيقية كانت في المقطع الاستهلالي الذي يقول ” اجتزنا أول الأمر أزقة ضيقة تملأها الأزبال وأنقاض البيوت المهدمة ..ثم سرعان ما صرنا نخترق خرائب آيلة للسقوط وبقايا بيوت بغدادية قديمة هدّها الزمان ، فاتكأت على بعضها بعضا ًفي مشهد مرعب .. وسرعان ما حجبت عنا تلك الهياكل نور الشمس ” ، فيقترن الخراب بالعتمة ، لرسم صورة موحية للمكان. ومن الواضح ان الاستهلال ” يعرّفنا على المكان باعتباره العنصر الفاعل في الروايات الواقعية والرمزية ” كما يقول الناقد ياسين النصير في كتابه ” الاستهلال : فن البدايات في النص الأدبي “، وللمكان حضوره عنصرا ً فاعلاً حقا ًفي هذه الرواية ، إذ يقدم الروائي سياحة مكانية تتجول بالقارىء في العديد من مناطق بغداد ، ( القديمة منها على وجه الخصوص ) ،حيث دارت الأحداث ، ولهذه السياحة المكانية باختيارها المقصود بعناية ، دلالتها بالارتباط مع طبيعة الأحداث والشخصيات . فهي تكشف عن نمط الحياة الخربة التي يعيشها ، في الغالب ، أناس محاطون بالخراب الأخلاقي والاجتماعي والعتمة الروحية معا ً. أما لغة السرد في الرواية فهي رقيقة تبدو وكأنها تستلهم روح الشعر في مفاصل منها ،على الرغم من خشونة الواقع الذي تتعامل معه ، إن جاز التعبير . فهاهو صوت الراوي يتهدج وهو يتحدث عن هند ( إحدى شخصيات الرواية ) : ” كان لسان حالها يقول ، ما الذي أتى بك إلى غابتي وغوايتي ؟.. تمتع الآن باشتعالك . ابتكر سقوطك وشغفك وأنت تجثو عند قدميّ . لكنني مع ذلك ، لن أدعك تهوي وحدك ، سأنتشلك وأحلّق بك في سمائي، وأنا أخفق بأجنحتي الجبّارة ، حتى ترى ما لم تره من قبل ! ” .وعلى الرغم من أن الرواية حاولت أن تجنح نحو التغريب في بعض مفاصلها الثانوية ،لاسيما من خلال شخصياتها الذكورية الحقيقية أو المتخيلة ، بتصرفاتها الغريبة وبما يحيط بها من غموض ( “مجر عمارة ” و”سالم محمد حسين” بشكل خاص ) وهي شخصيات ثانوية أو هامشية باستثناء شخصية الراوي ، فإنها ظلت رواية واقعية في الغالب تتخللها شطحات خيال : واقعية في أحداثها وشخصياتها وزمانها ومكانها ، وفي الهدف الذي عملت على النهوض به والمتمثل بالكشف عن مستور وسوءات الواقع الاجتماعي وتعريتها وفضحها .يجري السرد بضمير المتكلم على لسان الراوي “علي موحان ” الذي هو الروائي نفسه حيث تتماهى شخصيته بشخصية الراوي الذي اختاره . وعلي موحان هذا صحفي عاد إلى العراق بعد غياب ربع قرن في الخارج ليكون شاهدا ً على الواقع المأساوي الذي تعيشه بلاده . تقوده رغبته في إجراء تحقيق صحفي عن النساء اللاتي يمارسن البغاء ، إلى منزل مشبوه في إحدى مناطق بغداد القديمة ، بصحبة صديق له ، بهدف الكشف عما يجري في مثل هذه المنازل ومن يشغلنها ممن شاء الواقع الاجتماعي المتردي ، مثلما شاء حظهن العاثر ، أن يمارسن هذا العمل المبتذل . وبدا الوصول إلى هذا المنزل محفوفا ً بمخاطر القصف وإطلاق الرصاص والمعارك الطاحنة بين الميليشيات المتصارعة بهدف السيطرة على تلك المنطقة ، وكان السير في الأزقة الضيقة التي تؤدي إليه ، مثل التخبط في متاهة ،العنصر النسائي له الغلبة كما تقتضي طبيعة الأحداث ، سبع نساء وصبيّة ، تتفاوت أعمارهن و مستويات أهمية حضورهن في مجرى الأحداث ومدى تأثيرهن فيها <تعرّف الراوي في البداية على( ضوية ) وهي إحدى النساء الثلاث اللاتي يعملن في المنزل ، ورغم محاولة استدراجه ظنا ً منها انه طالب متعة ، شأنه شأن زبائن المنزل ، فإنه استطاع أن يتملص منها وأن يستدرجها هو للكشف عن خفايا حياتها والظروف التي قادتها إلى هذا المنزل : ” كانت لهجتها جنوبية مثل سحنتها السمراء، ولأول مرة لمحت خيط حزن في عينيها الواسعتين ” . وكان خيط الحزن هذا هو المفتاح الذي فتح به باب أسرارحياتها المغلق فباحت له بسر رهيب حين اعترفت له أن أباها كان قد اغتصبها وهي صبية : ” أتاني في الليل وأنا نائمة ، ورفع ثوبي وأخذني .. كنت لا أعرف شيئا ً .. وكان يشخر فوقي وأنا أرتجف مرعوبة .. وعندما انتهى مني انسلّ إلى سريره ونام بجانب أمي ” وظل يفعل ذلك معها أربعة أشهر ، وحملت منه ، فأمر زوجته، التي وقفت ضد ابنتها وهي في محنتها ، أن تأخذها إلى بغداد وتتركها هناك وتعود ، للتخلص من العار الذي سيلحق بالعائلة ! ثم تواصل سرد رحلة عنائها وعذابها قبل أن ينتهي بها المطاف في هذا المنزل . وكان واضحا ًأن هذه البائسة ، ورغم مظاهر المرح البادية عليها ،تمارس هذا العمل المنبوذ ، ضد رغبتها الحقيقية وكأنها تسعى للانتقام من أسرتها ومن أبيها بوجه خاص ، وهو انتقام مشروع ، لكنها في الوقت نفسه ، تسعى للتكفير عن ذنب لم ترتكبه هي شخصيا ً، لذلك تقنع الراوي على أن يأخذها إلى دجلة لتمارس عملية التطهر بالماء الجاري في طقس من طقوس الصابئة المندائيين ، وهي ليست مندائية .وعلى الرغم من أن الراوي تملص من الوقوع تحت سطوة إغراء جسد ضوية في المرة الأولى فانه لم يستطع الإفلات منها في مرة تالية محكوما ً بسطوة الجسد . وكانت ضوية هذه قد صعدت به إلى غرفة صاحبتها في المنزل ” هند “، المرأة الأكثر تأثيرا ً على بطل الرواية والأكثر حضورا ً في حياته خلال مكوثه في ذلك المنزل الملوث أو تردده عليه ، وكانت لها حكايتها الرهيبة هي الأخرى ، وما يميزها عن الأخريات أنها متعلمة ومثقفة وهاوية قراءة وكانت تعمل مدرّسة جغرافيا من قبل، ولم يكن غريبا ً أن يجد الراوي خارطة العالم معلقة على جدار غرفتها ، وكأنها تختزل العالم كله ، أو عالمها الخاص ، بهذه الخارطة .وحكاية هند التي قادتها إلى هذا المنزل هي الأخرى ، أنها جنوبية ،كانت متزوجة من رجل يحبها ولها بنت منه . وحدث أن مرضت البنت في أيام الانتفاضة الشعبية عام 1991 فقرر أبوها أن يأخذها إلى بغداد ليعرضها على الأطباء، وقرب الكوت ، أوقفت الركاب نقطة تفتيش عسكرية : ” أنزلونا جميعا ً من السيارات الآتية من الجنوب وجمعونا قرب ساقية قديمة للبزل . كان هناك أكثر من مائتين من الرجال والنساء والأطفال ، وكان الليل حالكا ً.. وفجأة ، ومن دون سابق إنذار ، أخذوا يطلقون النار علينا من رشاشاتهم ” ، لتنجو هي وابنتها ويقتل زوجها الذي كان قد حماهما بجسده . وتسرف هند في سرد تفاصيل ما حدث بعد ذلك وقادها إلى منزل العاهرات : ” كانت دموعها الحارة تسيل على كتفي وجسدها يرتجف ، وكنت بين الحين والآخر أمسح دموعها بيدي وأحتضنها بقوة .. وطلبت منها أكثر من مرة أن تتوقف عن سرد الحكاية ، لكنها في كل مرة تصر على المواصلة ” .أما ” إخلاص ” ، المرأة الثالثة في المنزل ، فقد كان دورها هامشيا ً تقريبا ً. كانت تتنكر بزي متسولة لاصطياد الزبائن من شارع المتنبي وقد تعرف الراوي عليها حين كان قد أضاع طريق الوصول إلى المنزل فقادته إليه ، في واحدة من بضع مصادفات وظفها الروائي ، تشابهها مصادفة التعرف على الصبية زينب ، بائعة الكعك المتجولة ، وهي صورة بائسة أخرى من صور الواقع الاجتماعي . لقد التقاها الراوي في أحد الأزقة الضيقة عندما كان يبحث عن الطريق إلى شارع المتنبي فدلته عليه : ” انعطفت في زقاق فرعي ، بدا أضيق من سابقه ، لكنه أنظف قليلا ً ، وواصلت السير .. لاقتني صبية تحمل صينية تحمل فيها بعض الكعك . كانت في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من العمر ، شعرها منفوش ، وترتدي ثوبا ً متسخا ً وكنزة صوفية مرقعة ” ، ضحية من ضحايا الواقع الاجتماعي هي الأخرى : ” كان خط سيرها اليومي يبدأ من الصدرية ، حيث البيوت الفقيرة مرورا ً بمنطقة الفضل ثم الشورجة وصولا ً الى شارع المتنبي .. هذه الرحلة اليومية المضنية تستغرق منها النهار بطوله ” .، وكانت بعملها المضني هذا تعيل اخوتها الصغار ، فتعاطف معها ، وما لبثت أن غابت عن مجرى الأحداث ليلتقيها الراوي في مقبرة الشيخ عمر السهروردي وهي تقود اخوتها الصغار بحثا ً عن قبر أمها ، دون أن نتبين المناسبة التي جمعتها مع الراوي في المقبرة ، أو لعل ذلك حصل باتفاق مسبق معه وجد نفسه مدفوعا ً إليه من باب التعاطف معها . ونزعم ان الروائي قدّم هذه الشخصية ببؤسها وثيابها الرثة وتجوالها اليومي، ليوحي بأنها مؤهلة لأن تكون مشروعا ً للانحراف هيب الأخرى.وعلى النقيض من هذه الشخصيات البائسة ، وفي الطرف الآخر من المدينة ( في الكرادة تحديدا ً ) كانت نيفين ( وهي صحفية )، تذهب إلى الجريدة التي تعمل فيها أو تنزوي في شقتها القريبة من شقة علي موحان ، زميلها في الجريدة ، وهي حالة مغايرة لحالات ( بنات ) أم صبيح . و” لنيفين هذه قصة أخرى أثارت تعجبي وإعجابي معا ً ، فقد هجرها زوجها السابق وسافر إلى استراليا منذ بدأت الحرب ،مصطحبا ً معه ولدهما الوحيد سامي، وعلى الرغم من انه أرسل لها دعوة للحاق به ألا أن كرامتها لم تسمح لها بذلك كما تقول ، فاختارت البقاء مع أمها المسنّة ” ولأنها مختلفة عن نساء الرواية الأخريات ، فقد ظلت في عزلة ولم تلعب دورا ً مؤئرا ً في سيرورة الأحداث الرئيسية ، تشغل نفسها بالرسم وعنايتها بطيورها الملونة .لقد وضع الروائي خاتمة مأساوية لأم صبيح و ( البنات ) حين قضى عليهن القصف ، وقد نجد من يذهب به الاعتقاد ، ( وهو ما لا نتفق معه ) بأنه عمد إلى ذلك بفعل وازع ديني أو أخلاقي ، وهذا لا يتفق مع المنحى الفكري الذي يؤمن به . لقد أبدى تعاطفه معهن وتعامل معهن بحسٍ إنساني ، وما أراده في هذه الرواية تمثّـّل في رسم صورة لبغداد ( وهي صورة قاتمة ) في ظل الاحتراب الداخلي والانفلات الأمني وغياب سلطة القانون ،وهذه هي بعض مفرزات الحرب والاحتلال ، وهو ما زالت بغداد تئن تحت وطأته حتى الآن !