علي لفته سعيد
دائما ما يأتي السؤال المنبثق من عملية التلقي للروايات التي تأخذ فكرتها وحكايتها وأبطالها من واقع سياسي: هل يتمكن الروائي من التخلص من شبح الواقعية الصرفة ويمنح سردياته مفعول التوثيق، مثلما يمنحها مفعول الدهشة، حين يلتقط ما لم يره أحد من قبل، ويتوج تدوينه بجمالية إبداعية بعيدا عن المباشرة؟في رواية «أزَزْلفْ» للروائي التونسي فتحي بن معمر، تبدو الثيمة السياسية واضحة. ولأننا العرب في الجهة الأخرى من الخريطة المكانية، نستقبل النص على أساس أنه عالمٌ جديد لا نستطيع إحصاء سيئاته أو حسناته، فإن أول ما يستفزنا ويدهشنا، في الوقت نفسه، هو العنوان الذي لم يتركه بن معمر طارئًا، أو تائهًا لكي تتلاعب الظنون والشكوك، فهو يعطي دليل الفهم، حين يضع كلمة بين قوسين لتكون ترجمة للعنوان الأصلي (حرقان) فينتبذ المعنى في تقشير الدال والمدلول، الذي لا تكتمل صورته إلا من خلال قراءة المتن، ومعرفة أصول ومرجعيات العنوان المأخوذ من اللغة الأمازيغية، وقد وضع الروائي عناوينه الداخلية بهذه اللغة، وكأنه يريد من المتلقي معرفة القصدية السياسية من الفكرة، ومعرفة أهمية اللغة ذاتها، من أن لها ناطقين رغم الانصهار.
الفكرة والعتبات
هذه الشيفرات أو العتبات النصية، لم تأتِ لفهم الحركة التأويلية للنص والفكرة والبناء التدويني، كبنيةٍ كتابية، بل لفهم الحركة السردية الغائية التي تأتي من حاصل جمع القصديات المبثوثة في النص ذاته، وحين يتمكن المتلقي من وضع الخطوط الطويلة والعريضة تحت كل أسطر التأويل، التي تمنحها الرواية في بعديها التشويقي القصدي والسياسي، وهي أي الرواية تنطلق بمساحاتها التاريخية على حياة أجيال من الواقع التونسي، والصراع بين الخفاء والعلن، بين السياسة والدين، بين السلطة والقوة، بين القوة والانهيار وبين الشعب والجذور. فالراوي الذي قشّر العنوان بتلك الكلمة التي وضعها بين قوسين، لتكون قريبةً لنا نحن العرب، ليس في الداخل التونسي، بل في الخريطة العربية، على أنها الحموضة أو حرقة الأمعاء والمعدة، وهو عنوان شامل ومحق ودال، وجامع ومنسق لثيمة الرواية، وكأنه ينطق بلسانٍ سياسي، نيابةً عن كل المتجرعين للواقع السياسي.الرواية كفكرةٍ وثيمة وحكاية تناقش واقعًا سياسيًا مغلفًا بالواقع الاجتماعي، واقعًا تونسيا بامتياز، في زمنين تناوبا على السطوع والوضوح والهيمنة أيضا، فخلف كل منهم إمتاع، والرواية تتبع الواقع الجديد، الذي حصل ما بعد الزمنيْن (الرجُلُ الذِي قَاوَمَ أكثرَ منه بٍكَثِير. رجُلٌ قاوَمَ الاسْتِعْمَارَ ببِسَالَةٍ وعَايَشَ الصراعَ الذِي نَشَبَ بينَ أتْبَاعِ الحَبيبِ بورقيبة، وأتباعِ صالحٍ بن يوسف، واكْتَوَى بِنَارِ هَذَا الصرَاعِ وسُجِنَ وعُذبَ وَعَرَفَ التشْرِيدَ والمَنْعَ مِنَ العمَلِ وَالجُوعَ) ليتنقل بين أزمان حكم وصراعات متعددة، حتى في زمن الترويكا واللعبة الانتخابية في تونس.الرواية وبعيدًا عن فكرتها السياسية، وقريبًا من بنائيتها الكتابية ارتكزت على خاصيتين مهمتين.. الأولى اللغة، والثانية التصوير الذي يقترب من المشاهد السينمائية المتابعة، لكل حركةٍ ومشهدٍ ومكان، ولم يغفل الروائي في توصيف الزمن في تبويب المتن.
اللغة
اللغة في الرواية هي الروح، فكان السعي لإظهار الانبهار باللغة، لذا كان الروائي حريصًا على أن يحرك الحروف في الكلمات، كيْ لا تستنطق إلا ما يريد هو من استنطاق الكلمة داخل الجملة، فيضع علامات الرفع والسكون والتشديد والكسر والتنوين، وكأنه يرسم تلك العلاقة بين اللغة كأداة توصيلٍ، واللغة كمرادفٍ للغة الأصلية، التي وضع لها عنوانها الرئيس وعناوينه الفرعية، لذا فهي جملةٌ تحمل روحًا فائقةً في التصوير والتصدي للعبارات، وترسم أيقونة المعنى، والراوي الذي يسيطر عليه الروائي المحنك في تصدير لغته، لتكون قادرةً على توهج الصراع بين الشخصيات من جهة، والفعل الدرامي للحدث/ الحكاية / المتن السردي من جهةٍ أخرى، المراقبة لمحاور القلق الاجتماعي/ السلطوي/ السياسي. وهذا الصراع ليس صراع حكاية، بل هو صراع فكرٍ ووجودٍ ومعنى مخبوء مرة في اللغة، ومرة في قصدية الروائي، وهو يبث على لسان راويه ما يريده من متابعات التصوير المشهدي للقصة الواحدة، المتكونة من تصوير ولغة. ولهذا فإن اللغة في الكثير من الأحيان تأخذ المستوى التصويري الوصفي الذي يقرب الكلمة من صوريتها للمتلقي: (عَادَ الشيْخُ يَغُط في نَوْمٍ عَمِيقٍ، وغَلَبَ النعَاسُ أبَا القَاسِمِ، وانْصَرَفَ البشِيرُ نَحْوَ رُكْنِهِ وَجَلَسَ إلى المِنْضَدَةِ يُرَاجِعُ بَعضَ دَرُوسِ الفَلْسَفَةِ، وقدْ تَذَكرَ أن امْتِحَانَ البكالوريا سيَبْدأُ اليومَ، في حِينِ انْغَمَسَتْ سَلْمُونةُ في مَطْبَخِهَا تُعِد فَطُورَ الصبَاحِ).ومرة يستخدمها لتكون دالةً على دليل المقدرة اللغوية للروائي، خاصة في ما يتعلق بالجانب الحواري، الذي يُعد صوت الشخصيات، وحامل لواء الراحة للراوي لكي ينيب عنه الشخصية: (الأفْضَلُ ألا تُخْفِي عَنا شَيْئًا فَنَحْنُ قَادِرُونَ علَى مَعْرِفَةِ كُل شَيْءٍ حتى النمْلَةِ السوْدَاءِ على الصخْرَةِ الدهْمَاءِ فِي الليْلَةِ الظلْمَاءِ فَحَذَارِ… حَذَارِ).اللغة تتنقل بين ثيمات متعددة، سواء تلك الحالة المهيمنة على الواقع السياسي، أو القاع المتأثر بهذا الواقع، الذي يريد المتلقي العربي أن يفهمه ويصل إليه، سواء من كان في تلك الفترة موجودًا، أو الجيل الجديد الذي لم يعش محنة الحكام العرب. لذا فاللغة هنا اعتمدت على حركتين رئيسيتين، بدون إغفال وجود حركات فرعية.الرواية تحفل بسبعة وعشرين مشهدًا، هي هنا تحمل دلالات كثيرة، لو تم ربط المشهد الثامن والعشرين على أنه يقع على المتلقي، فإنها أي المشاهد تكون تأويلا لعدد حروف اللغة العربية.الأولى: كلغة روي متسلسلةٍ قادرةٍ على متابعة الحدث، وتثوير الصراع، ومنح الفعل الدرامي هويته، وبالنتيجة منح الرواية هويتها الإعلانية. والثانية: جعل اللغة هي المحرك الدلالي، الذي يقود عجلة الروي الدائري، الذي يشبه آلة جلب الماء من النهر إلى المناطق العليا التي نسميها في المشرق العربي (الناعور) فإذا ما انقطع أي جزءٍ من أواني جلب الماء، تأثرت عملية إسقاء الفعل السردي، وبالتالي التأثير في ديمومة اخضرار الفعل التشويقي.
التصوير وفعل التثوير
الرواية تحفل بسبعة وعشرين مشهدًا، هي هنا تحمل دلالات كثيرة، لو تم ربط المشهد الثامن والعشرين على أنه يقع على المتلقي، فإنها أي المشاهد تكون تأويلا لعدد حروف اللغة العربية. فمن خلال الشخوص تنطلق الحكاية، ومن خلال الراوي ينطلق الروائي في رسم مشاهده بطريقة الاعتماد على خاصية التقطيع السينمائي، ليس بمهنية السينما، بقدر ما هي خاصية التوليف الروائي، الذي يريده أن يكون وكأنه ما شهد من قبل المتلقي هو ما كان واقعًا من قبل الراوي، وإن كانت هي مختصرا لعائلةٍ أو حادثٍ مرتبطٍ بأحداثٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ وحتى دينية. وهي تأخذ مساحات ليست وليدة سلطةٍ واحدةٍ، بل سُلط متعددة. لذا فإن المستوى التصويري هو اللاعب الأول في عملية ربط اللغة بالمشهد الدرامي، الذي يفعل الحدث ويثوره كفعلٍ مطلوبٍ في متابعة الأحداث، التي تحفل بها الرواية، والتي تكون ملاحقةً من قبل الراوي الذي يروي للمتلقي. فجميع المشاهد كانت عبارة عن جملٍ وصفيةٍ، ومتابعةٍ للحركة، وهذه تحتاج إلى مقدرة صناعية ليس للمشهد الواحد، بل قدرة على إبقاء اللغة في المستوى التصويري وكأنه عامل مشترك لقوة الفكرة.إن بنية الكتابة تتبين لها وجود العلاقة الرابطة، بين اللغة المشهدية السينمائية، أو المستوى التصويري، فيكون فعل اللغة هو حرثها المتسارع وضربتها التي تشبه من يصف الأشياء، والحركة التصويرية التي تمنح المقطع اللغوي ليتحول إلى مقطعٍ صوري (كَانَتْ الأبْوَابُ تُضْرَبُ بأحْذِيةٍ بُولِيسِيةٍ غَلٍيظَةٍ، فَتتَهَاوَى مُحْدِثَةً فَرْقَعَةً قَوِيةً مُفْزِعَةً. وَكَانَتْ الأصْوَاتُ تَزْدَادُ حِدةً وَتَقْتَرِبُ، حتى انْقَذَفَ بابُ الغُرْفَةِ إلى أَقْصَاهَا ودَخَلَ عَشَرَاتُ الأعْوَانِ مُدَججِينَ بأَسْلِحَتِهِمْ). (خَرَجَ إلَى مَقْهَى «الشكيف» جلسَ مع بعض زملائه، وكان النقاش صاخبا، يتجولُ فيه المتشاكسون بين الأحداث التي تهمي على البلاد، ويؤولون كل حسب ثقافته وموقفه وفكره وتَمَوْقِعِه في الساحة سياسيا).إن الإمساك بهذه العلاقة يعطينا أيضا الصراع الداخلي للشخصيات، الذي اعتمد على مفعولين.. أولهما المفعول الداخلي الذي يمثله منولوج الشخصية، سواء الذي جاء على شكل حوارٍ أو متابعةٍ لحركة التصوير عبر اللغة. والثاني المفعول الخارجي الذي يرسم علاقة الصراع بالمكان من جهة، والفترة الزمنية من جهة أخرى، لربط فعلها السياسي، الذي انبنت عليه فكرة الرواية، وهو ما يجعلها تكون وكأنها فعلٌ واقعي، أو هي كذلك، ولكنها ترتدي ليس الجانب التوثيقي، بل السردي الإبداعي.