موقف ابن خلدون من المنهج الأرسطي :يتأسس تقدير وتقييم الوردي للنظرية الخلدونية على مرتكز مركزي حكم جوهر مشروعه النظري ، وهو رفض المنطق الأرسطي . فالوردي يرى أن ابن خلدون الذي ولد بعد أربع سنوات من وفاة “ابن تيمية” ، كان متأثرا بالكثير من آرائه بآراء “الغزالي” في نقد العقل والمنطق .ففي مجال مبدأ “السببية” يخالف الوردي رأي الدكتورين : جميل صليبا و كامل عياد ، في تحقيقهما لكتاب الغزالي : ( المنقذ من الضلال ) ، والذي يريان فيه أن ابن خلدون خالف رأي الغزالي في السببية . وهذا ما ذهب إليه بحماسة الدكتور طه حسين أيضا ، والذي يعلّق الوردي على رأيه بالقول :(( .. لكن طه حسين يعود فيعترف بأن ابن خلدون جعل لمبدأ السببية استثناءات وهي تلك التي تحدث في المعجزات والكرامات وأعمال السحرة .. ولست أدري كيف يوفق طه حسين بين القول بهذه الاستثناءات الخارقة للعادة وبين القول بمبدأ السببية الذي تؤمن به الفلسفة العقلية ؟ )) وعلى العكس من ذلك يرى الوردي – وحسب تحليله لشواهد من مقدمة ابن خلدون – أن أثر الغزالي في موقف ابن خلدون كان واضحا ، ولكن ابن خلدون امتاز على الغزالي من حيث تأكيده على عجز العقول البشرية أن تفهم كيفية تأثير الأسباب في الحوادث . فهنا يقترب ابن خلدون من الاتجاه العلمي الحديث . إنه يقول كالغزالي إننا عرفنا مبدأ السببية من طريق العادة ، ولكنه يعود فيقول بأن هذه العادة قد تكون مُخطئة لأن علمنا بالأسباب محدود . ولهذا وجب علينا أن نقطع النظر فيها ونتوجه إلى الله خالق الأسباب .أما بالنسبة لمبدأ “العقلانية” ، فيبدو تأثّر ابن خلدون بالغزالي أكثر وضوحا في هذا المجال حتى في مجال الصياغات الفظية ، حيث يقول ابن خلدون :(( ولا تثقنّ بما يزعم لك الفكر من أنه مقتدرٌ على الإحاطة بالكائنات وأسبابها ، والوقوف على تفصيل الوجود كله ، وسفّه رأيه في ذلك . واعلم أن الوجود عند كل مُدركٍ في باديء رأيه منحصر في مداركه لا يعدوها )) .ولكن ابن خلدون يذهب في نقد العقل أبعد مما ذهب إليه الغزالي ، فالغزالي يعتقد أن العقل عاجز عن فهم الأمور الإلهية ، أما ابن خلدون فيعتقد أن العقل قاصر عن فهم الأمور الاجتماعية علاوة على الأمور الإلهية .. كما أن ابن خلدون يعلن رأيه بجلاء أكثر في فصل من مقدمته عنوانه : ” في إبطال الفلسفة والرد على منتحليها ” وفيه تصحيح للشطط الكبير الذي وقع فيه المفكّر الراحل الدكتور “محمد عابد الجابري” في اعتبار ابن خلدون تلميذا ” أرسطيا ” ، حيث يرى ابن خلدون أن المنطق الذي يتبعه الفلاسفة قاصر من ناحيتين : الأولى من ناحية النظر في الإلهيات ، والثانية من ناحية النظر في الموجودات الجسمانية وهي التي يسميها الفلاسفة بـ “العلم الطبيعي” . ووجه قصور المنطق في هذه الناحية أن النتائج الذهنية التي تُستخرج بالحدود والأقيسة غير يقينية ، وهي لا تطابق ما هو موجود في الخارج ، ” اللهم ما يشهد به الحس من ذلك فدليله شهوده لا تلك البراهين ، فأين اليقين الذي يجدونه فيها كما يقول ابن خلدون )) .ومن هنا يقدم الوردي استنتاجا مُربكا للقناعات القديمة والحديثة في موقف الغزالي وابن خلدون من الفلسفة والمنطق في الثقافة العربية على حد سواء فهو يقول :(( الظاهر أن الغزالي كان يريد للأمور الاجتماعية أن تكون كالعلوم الطبيعية خاضعة لمنطق أرسطو . ويأتي ابن خلدون فيقول إن هناك من العلوم ما يخضع لمنطق أرسطو كعلم الهندسة والحساب وما أشبه ، ومنها ما لا يخضع له كعلم الاجتماع . ففي رأيه أن المعرفة الاجتماعية يجب أن تكون مُستمدة من المحسوس ولاصقة به ، فإذا كثر فيها ” الإنتزاع ” والبعد عن المحسوس ، كانت غير مأمونة العواقب ))
ويستنتج الوردي من ذلك نتيجة مفادها :
(( إن الحس عند ابن خلدون أصدق من القياس المنطقي والتجريد العقلي في فهم الأمور الاجتماعية . ويبدو من هذا أن ابن خلدون كان يؤمن بوجود ثلاثة أنواع من المنطق :
أ-المنطق الكشفي : وهو الذي يصلح للبحث في الأمور الإلهية والروحية وما أشبه .
ب-المنطق العقلاني : وهو الذي يصلح لبحث الأمور القياسية كالهندسة والحساب وما أشبه .
ج-المنطق الحسي : وهو المنطق الذي يصلح لبحث الأمور الاجتماعية والسياسية وما أشبه .
وسنرى في بعض الفصول القادمة كيف أن ابن خلدون استعمل هذه الأنواع المنطقية الثلاثة في حياته الفكرية . فهو يعترف أولا أنه كتب مقدمته تحت تأثير الإلهام الآني كما يفعل المتصوفة ، ثم نراه ينسّق كثيرا من فصول مقدمته على نمط من ترتيب الأدلة يشبه ما يفعله المناطقة وعلماء الهندسة ، وهو أخيرا يحاول استقراء معظم أفكاره من الواقع الإجتماعي المحسوس ))
نقد ابن خلدون لقوانين أرسطو في الفكر: في الفصل الرابع من كتابه : ” منطق ابن خلدون ” ، يواصل الوردي كشف الموقف النقدي لابن خلدون من قوانين الفكر حسب منطق أرسطو الذي جعله محمد عابد الجابري – خطأً – أستاذا لابن خلدون . فنظرية ابن خلدون – حسب الوردي – تنقض قوانين المنطق الأرسطي الثلاثة وهي : قانون الذاتية (الهويّة) ، وقانون عدم التناقض ، وقانون الوسط المرفوع ، وخصوصا القانونين الأول والثاني . فبالنسبة لقانون عدم التناقض فقد أكد ابن خلدون في الجانب ” السكوني ” من نظريته أن فئة معينة من البشر مثل البدو قد يجمعون صفات متناقضة تجمع الحسن والقبيح معا . أما بالنسبة لقانون الذاتية فابن خلدون ينقضه تماما وذلك في الجانب ” الحركي ” من نظريته حيث يؤكد على أن المجتمع البشري في تغيّر مستمر جيلا بعد جيل ، وليس هناك حد يقف فيه هذا التغيير . فالخصائص التي يتسم بها البشر ليست من الطبائع البشرية الثابتة بل هي نتاج الأحوال التي عاش فيها الناس . وعلى أساس هذه الفرضية أقام ابن خلدون وجهة نظره في ” الدورة الاجتماعية ” التي هي محتومة تخضع لها جميع الدول ، فكل دولة تبدأ فتية لتنمو وتصبح في قمة شبابها لتذوي وتموت في النهاية . وفي ما يخص قانون الوسط المرفوع الذي يقوم على التصنيف الثنائي فإن ابن خلدون قد نقضه من خلال إيمانه بقانون التدريج وهو منطق علمي حديث الآن يضع الأشياء عند تصنيفها على شكل مدرج – continuum أو سلّم تتوالى الدرجات فيه . .نظريّة ابن خلدون ليست تجميعاً لآراء سابقيه ومعاصريه :وفي الفصل التاسع : ” بين الكل والأجزاء ” يردّ الوردي على الباحثين الذين اتهموا ابن خلدون بأن نظريته ما هي إلا تجميع من أفكار سابقة . والوردي يقرّ بأن ابن خلدون قد اطّلع على كثير من المؤلفات والأفكار السابقة عليه ، ولكنها كانت تختمر في عقله الباطن لتظهر في النهاية كنظرية جديدة ذات تركيب جديد : استفاد ابن خلدون من “القرآن” خصوصا في ذم الترف وتبيان أثره في هلاك الأمم ، ولكن بعد أن حوّل مفهومه من المجال الديني إلى المجال الإجتماعي .استفاد من “الفارابي” ولكنه يختلف عنه في مجالات كثيرة : فالفارابي يرى أن الناس يتعاونون لكي يقيموا أود حياتهم أولا ، ولكي ينالوا الكمال الذي فطرت عليه الطبيعة البشرية ثانيا ، في حين أن ابن خلدون يرى أن البشر يتعاونون لكي يحصلوا على القوت أولا ، ولكي يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم ثانيا . والفارابي يجعل الناحية المادية من حياة الناس وسيلة للوصول إلى الكمال المعنوي في حين يجعل ابن خلدون الناحية المادية أهم من الناحية المعنوية . والفارابي يرى أن الرئيس الصالح في المجتمع هو كالقلب بالنسبة للبدن ، ويحدد له صفات مثالية ، ولكن ابن خلدون – رغم أنه لا ينكر دور الرئيس في المجتمع – إلا أنه يعتبره نتاجا للظروف الاجتماعية . إن الفرق بين منطق الفارابي ومنطق ابن خلدون هو أن الأول يبحث في ” ما هو واجب ” ، بينما يبحث الثاني ” في ما هو واقع ” . ومن “ابن سينا” اقتبس فكرة أن الشر في العالم ضروري لا بد من وجوده لضرورة تقتضيها طبيعة الخير . ولكن الفارق هو أن الأول يبحث مشكلة الشر في الكون بوجه عام ، والثاني يبحث فيها كما هي في المجتمع حيث يقع الظلم من بعض أفراد المجتمع على بعضهم الآخر . ومن “إخوان الصفاء” استمد فكرته عن الدورة الاجتماعية في حياة الأمم والدول ، ولكنه نقلها من المجال الميتافيزيقي المرتبط بحركة الأفلاك السماوية لدى إخوان الصفاء إلى المجال الإجتماعي المرتبط بالترف وضعف العصبية . ومن “أبي حيان التوحيدي” أخذ ابن خلدون مساويء الحضر التي ذكرها التوحيدي في رده على الجيهاني الشعوبي الذي أفرط في ذم البداوة ، ولكن ابن خلدون يختلف عن التوحيدي في أنه ذكر تلك المساويء مرتبطة بالمحاسن وأنه لا يرى وجود مقياس مطلق تتفاضل به الأمم . والوردي يرد هنا على من يتهم ابن خلدون بالشعوبية لأنه ذمّ العرب ووصفهم بالوحشية وأكثر الأمم بداوة ، بأن حكم ابن خلدون جاء على القبائل العربية في المغرب وكانت أكثر من غيرها تمسّكا بالخصال البدوية ، وأنه ذكر للعرب الصفات الممدوحة للبداوة مثلما ذكر الصفات المذمومة . وعن “ابن الهيثم” أخذ التأكيد على وجود القوانين التي تتشابه في كل زمان ومكان ، وإذا كان ابن الهيثم يقصد بها قوانين الطبيعة ، فإن ابن خلدون يقصد بها قوانين المجتمع وهو يسميها ” العوارض الذاتية ” أو ” ما يلحق المجتمع من العوارض لذاته ” . وابن خلدون مثل “لسان الدين ابن الخطيب” حاول إبعاد الطب عن الدين والشريعة ، ولكنه يمتاز عليه بكونه يعترف بما للإيحاء الإيماني من أثر في علاج الأمراض ، فهو يشير بوضوح إلى أن التبرّك بالمأثورات الدينية ليس فيه فائدة طبيعية ، إنما تأتي فائدته من أثر ” الكلمة الإيمانية ” في النفس .ومثل ذلك يقوله الوردي عن تأثر ابن خلدون بـ “ابن عربي القاضي” صاحب كتاب ” العواصم من القواصم ” والغزالي و “الطرطوشي” صاحب ” سراج الملوك ” .في موقف الفلاسفة من “العامّة” :ولعل من أكثر الفصول إثارة للإنتباه هو الفصل العاشر : ( ابن خلدون والفلسفة ) وفيه رد واضح ومحكم على أطروحات بعض الباحثين الذين عدّوا ابن خلدون متفلسفا أو نصيرا للفلسفة أو تلميذا لأرسطو ( من المتأخرين الذين أخذوا بالرأي الأخير الراحل الدكتور محمد عابد الجابري ) ، وفي هذا الفصل موضوعات تناولها – بتمامها – باحثون في بداية القرن الحادي والعشرين ، أي بعد الوردي بأربعين عاما . ويختار الوردي مقتربا اجتماعيا لدراسة أثر الفلسفة في تفكير ابن خلدون ويتمثل في موقف الفلاسفة من ” العامة ” الذين يشكلون أهمية كبرى في فكر ابن خلدون فهم الذين يؤلفون كيان المجتمع البشري في الغالب ، وينتجون معظم الظواهر الاجتماعية التي عُني بدراستها .يبدأ الوردي باستعراض رأي المعتزلة في العامة ، وهم الذين تبنوا الفلسفة الأغريقية منذ بداية دخولها الإسلام ، وقد اتخذوا نحو العامة موقفا لا يخلو من احتقار وذمّ لأنهم يسلّمون ويصدقون بكل ما جاء من الآباء ، في حين أن المعتزلة عقليون يستخدمون العقل والمنطق في كل شؤونهم الدينية والدنيوية . وفي الصراع بين المعتزلة والمحدّثين بزعامة ” أحمد بن حنبل ” ، انحاز العامة إلى جانب المحدّثين طوال عهود المأمون والمعتصم والواثق ، حتى إذا انقلب المتوكل على المعتزلة وانتهت ” المحنة ” سيطرت النزعة الغوغائية على شوارع بغداد بصورة تشبه في وجه من الوجوه – كما يقول الوردي – ما حدث في العراق مؤخرا في عامي 1958و1959 ( 213 ) . (تناول الأستاذ جورج طرابيشي الدور الخطير للعامة في تحديد الحركة السياسية والدينية في بغداد في كتابه “من أسلام القرآن الى إسلام الحديث – النشأة المستأنفة ” تفصيلياً وهو صادر في عام 2010 عن دار الساقي) .وبعد محنة المعتزلة ظهر فلاسفة كبار كانوا يتجنبون العامّة ، وينزوون في أبراجهم العاجية من أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وابن مسكويه . وقد استمر العامّة في النظر إلى الفلسفة كأنها مرادفة للزندقة . ثم يشير الوردي إلى ظاهرة خطيرة شاعت آنذاك وهي عادة إحراق الكتب الفلسفية في الشوارع والميادين العامة . .أما الشيعة الاسماعيلية التي ظهرت بعد المعتزلة واستفادت من درس ” المحنة ” فقد اعتبرت الناس فريقين : خاصّة وعامة ، والخاصّة وحدهم القادرون على النظر العقلي ، أما العامة فليس عليهم إلا أن يتلقوا التعليم من الخاصة ويقلدوهم من غير جدال . وقد جعل الإسماعيليون الخاصة على درجات … واعتقدوا أن لكل شريعة ظاهر وباطن . وهاجم المحدّثون الإسماعيلية واتهموها بالزندقة ، وساعد على ذلك أمران : الأول أن الإسماعيليين جعلوا تنظيمهم سريا ، أنهم كانوا يقومون بالثورات على الخلافة العباسية.بعد ذلك جاءت ضربة الغزالي القاصمة ضد الفلسفة ، ولكن من المفارقات التي تلفت النظر – كما يقول الوردي – هو أنه بمقدار ما انخذلت الفلسفة تجاه هجمات الغزالي عليها ، انتصر المنطق الأرسطي وعمّ بين الفقهاء ورجال الدين . فقد أصبح المنطق بتأثير الغزالي من العلوم الشرعية التي يجب أن يعرفها كل فقيه ، وإلا لا ثقة بعلومه أصلا . فالغزالي كان يرى أن هناك كلّيات عامة في الشرع لا يجوز التمنطق فيها .. والمنطق يُستخدم لاستنتاج الجزئيات الخاصة من تلك الكليات العامة . ونظر الغزالي إلى العامة نظرة قريبة من نظرة الإسماعيليين . وقد جاءت ضربة الغزالي مفيدة للمتصوفة الذين وضعهم محل الفلاسفة . فقد بدأ التصوف ينتشر في الإسلام بصورة واسعة .. وبدأ السلاطين بإنشاء التكايا .. وتمادى المتصوفة في احتقار العقل حتى أن ابن عربي افتخر بأنه أصيب بالجنون غير مرة .. وقد وضع المتصوفة نظاما “طبقيا” لهم مثل الإسماعيلية .