يجتمعون ببيت أحدهم للعب ألعابهم المفضلة بجهاز (ألبلي ستيشن) كمنفذ للتخلص من ضغوط العمل بأجواء تسودها المودة والرفقة الطيبة والشقاوة المرحة وسط ضحكات هذا ومزاح ذاك .. كانوا يتفقون بين فترة وأخرى على هكذا لقاء ليخرجوا من روتين يومياتهم الممل .. وسط ضجيجهم رن جوال احدهم مُعلناً استلام رسالة جديدة في الواتس اب ..نظر لجواله ولم يُبد أي اهتمام وأعاده بجيبه ليكمل سهرته مع الأصدقاء , كان الوقت يشير للتاسعة مساءً, وبعد ساعة عاد كل منهم إلى بيته .
حين وصل صاحب الرسالة منزله ذهب لوالدته ليطمئنها بوصوله, ثم غير ثيابه وفتح التلفاز وهو مُستلقي في فراشه .. بعدها فتح موبايله وقرأ بريد الواتس آب وتمتم بشيء من الضجر .. نفس الرقم!
قرأها بلا مُبالاة ثم تنقل دون اهتمام للتي قبلها .. وقبلها .. كانت هذه الرسالة الثالثة التي تصله من هذا الرقم الغريب .وبينما يتنقل بين محادثات هذا الرقم جذبه شيء بتلك الرسائل لم ينتبه له من قبل .. لاحظ أن التوقيت نفسه, ثم تمعن في التواريخ ليدرك أنها متسلسلة الزمن بعد أن تأكد من أيام تاريخها في الروزنامة .. الرسائل الثلاثة أرسلت له بيوم سبت في التاسعة مساءً ، استياءه تحول إلى تساؤل عن سبب هذا التوقيت وهل هو مصادفة أم لا؟
أعاد قراءة الرسائل التي كانت عبارة عن أبيات قصيدة وجدانية لشاعره المفضل مُقطعة إلى ثلاث أجزاء ، نظر لحالة المرسل فكان وقت اتصاله الأخير يُشير لوقت إرسال الرسالة .. فكتب له ( من تكون؟؟) وبعد لحظات تم قراءة رسالته لكن لم يأتيه رد .هو لم يكن من النوع الذي يستثير فضوله عابر الأمور ولم يعط اهتمام اكبر له واكتفى بخزن الرقم باسم (المجهول المزعج)يومياته مرت كالعادة متنقلاً بأوقاته بين البيت ومكتب الطباعة الذي يعمل , به ثم قضاء الوقت أحيانا مع أصدقائه وهكذا ..مرت الأيام وجاء السبت وفي تمام التاسعة مساءً وصلته رسالة عبر الواتس اب!فتح جواله ليرى بريده الجديد من رقم ( المجهول المزعج)لم تظهر هذه المرة علامات الاستياء على وجهه كالسابق .. كانت الرسالة أيضا مقطع شعري باسمه .. حين قرأ اسمه بين كلمات القصيدة ارتسمت على وجهه ابتسامة من غير شعور.. حضت كلمات القصيدة بشيء من إعجابه ربما لأنه تحمل اسمه , وأعادها أكثر من مرة ثم تنقل بينها وبين الرسائل السابقة مُستحوذاً عليه سؤال : أترى المُرسل بنت أم شاب؟ أم هو شخص قريب يحاول اللعب معي واختبار صبري ؟ .. أياً كان فلا يهمني أمره ..اهتمامه سرعان ما تلاشى .. وترك جواله جانباً وعاد يتنقل بين محطات التلفاز .كان حقاً جلد الطباع, فهو لم يدفعه الفضول حتى إلى فتح المحادثات وإعادة قراءة رسائل المجهول أو حتى الاتصال به لمعرفة هويته..أيام الأسبوع تمضي ليأتي السبت وفي تمام التاسعة يصله بريد جديد من ذات الرقم حاملا معه كلمات بدت له ليست كالكلمات .. أمعن النظر فيها وأعاد قراءة أبياتها التي كانت :
عيناك ليالٍ صيفية
ورؤىً وقصائد وردية
ورسائل حبٍ هاربةٌ
من كتبِ الشوقِ المنسيةْ ..
رغم عذوبة مفردات قصيدة شاعره المفضل نزار قباني إلا إنها لم تؤثر به , على العكس بدا يتضايق من الرسائل وتكرارها بهذا التوقيت , وأخيرا قرر أن يخطو خطوة لمعرفة من يكون المُرسل فادخل الرقم في برنامج خاص بكشف اسم الأرقام الغريبة , لكن ما من تعريف له!مضت الأيام ومن غير أن يشعر استحوذ البريد على تفكيره, وتمكن من جذب اهتمامه مما دفعه للشك بمن يكون صاحب الرقم المجهول , أصابع الشك أشارت للمقربين منه لكن هذا الشك سرعان ما تلاشى مع ورود الرسائل التي توحي إلى أن صاحبها يمتلك ثقافة أدبية وخيال واسع , وهذا ما يفتقر إليه أصحابه كما أن هذا الإحساس لا يمكن أن يكون لغير أنثى .. لكن .. من تُراها تكون..؟تغير مضمون الرسائل بين قصائد وقصص قصيرةتأتيه أحيانا على جزأين, تجعله ينتظرها بشوق فهي تُضفي على لحظاته الرتيبة الباردة شيءٌ من الدفء .بعد مضي ثلاثة أشهر تغير اهتمامه بها عن ذي قبل مما دفعه لتغيير الاسم من ( المزعج المجهول) إلى (المجهول) . انخفاض درجة الحرارة كان بداية الأسبوع الجديد وبما انه ليس من مُحبي الملابس الثقيلة, أصبح فريسة سهلة لانفلاونزا شديدة أجبرته على الرقود بالفراش, أسير حُمى تأبى مفارقته مما أثار قلق والدته التي تخشى عليه من ابسط الأمور كونه وحيدها اليوم بعد أن قرر شقيقه الذي يكبر بعامين العيش خارج البلاد، هو بدوره اعتاد أن لا يرفض لها طلب فاتصل بصاحب المكتب الذي يعمل فيه طالباً منحه إجازة حتى يتحسن ، البقاء بالمنزل ممل ومعظم ساعاته كانت تحت اللحاف مأسوراً بنوم لا يقوى على الصحو منه ..أربعة أيام وهو بهذا الحال , بلحظات صحوه إما يتناول الحساء الدافئ وبإجبار والدته بالطبع , أو يقرأ بريده في الواتس آب بدافع إحساس داخله يحاول إنكاره .. إحساس لهفةٍ لانتظار شيء ما .في صباح اليوم التالي والذي كان السبت وضعه الصحي أفضل حالاً إلا انه لم يخرج فالإقامة الجبرية لم تنتهي بعد .رأى الجو مُشمسا دافئا فقال بصوت مسموع : كم جميل لو يبقى الطقس هكذا كل الأسبوع .. سمعته والدته التي كانت قريبة منه وقالت : بالطبع لن يكون فأحداث يوم السبت تختلف عن سائره .
خفق قلبه لكلامها وتساءل مع نفسه : أتراها علمت ببريد المجهول؟
ثم رد عليها بسؤال ليتأكد : وما الذي يميز هذا اليوم عن غيره ؟
ابتسمت وقالت له : هو اليوم الذي وهبني الله به أجل وأثمن شخصين .. أنت وأخيك .. فكلاكما كانت ولادته يوم السبت رغم فارق العمر بينكما .
ابتسم قائلاً : أهاا إذا هو حقا يوم مميز يا غالية .
حديث أمه سرعان ما أثار سؤالا عصف بفكره : أترى المُرسل المجهول يعلم أن ولادته كانت يوم السبت فاختاره من بين الأيام ؟ أم هي مصادفة ؟؟
سؤال جعل أمواج الحيرة تأخذه وتعيده ليزداد الأمر غموضا .قضى بعض النهار بطباعة المواد التي جلبها معه للمنزل قبل وعكته الصحية.. بقي أمام الحاسوب لمدة ساعتين متواصلة, مما سبب له الشعور بالدوار لذا ترك ما بيده وذهب لفراشه ليريح جسده, ويغمض عيناه حتى يتخلص من الدوار الذي يشعر به .. بعد لحظات اخذ جواله لينظر للوقت وكأنه بانتظار موعد . اهتمامه بمضي الوقت أزعجه فهو يسيطر عليه رغما عنه , انتفض من مكانه كأنه يهرب, منه وذهب لوالدته يسألها إن كانت بحاجة لشيء .بحلول المساء شعر كأن دقات قلبه ازدادت قليلاً .وفي الثامنة والنصف اخذ جهازه الذي كان مُتصلاً بالشحن, ووضعه في جيبه وهو يتابع برنامجاً بإحدى القنوات لا يعلم ما هو فتفكيره لم يكن معه .. بعد مرور عشر دقائق أخرجه وتفحصه ليتأكد من اتصاله بشبكة الانترنت ثم أعاده لجيبه , بدت العشرون دقيقة أطول من أيام الأسبوع التي قضاها بين جدران البيت, وبات التوتر يسيطر عليه مما دفعه أن يُخرج الموبايل من جيبه, وينظر لمستوى الصوت خشية أن يكون في وضع الصامت, ونظر للوقت وتمتم مع نفسه (بقي عشر دقائق) أراد إعادته بجيبه لكنه فضل أن يضعه بجانبه لتبقى نظراته مُتسمرة عليه .. بعد انقضاء الدقائق العشر رنت نغمة البريد!
كان تأثير صوت الرسالة مختلف عن كل ما مضى, حتى أن خفقات قلبه تسارعت وسرت رعشة بكل أوصاله . أخذ الموبايل وفتح الرسالة .. اعتاد بريده أن يحمل له كلمات منسوجة بعذب المفردات, لكن هذه المرة محتوى البريد خلى من الكلمات, فلم يكن به سوى رابط يحمل سرا داخله ..أول الأمر تردد بفتحه, فطالما تجاهل الروابط التي تُرسل إليه من الكل , لكن بالطبع البريد الذي يأتيه من المجهول مُختلف عن بريد الكل .ضغط الرابط لتُفتح صفحة اليوتيوب وتظهر له أغنية كاظم الساهر(سلامتك من الآه .. قبل متنزل صدرك أحسها بصدري والله) .هذه الأغنية جعلته يضحك بصوتٍ عــــــال ..ضحكة جمعت معان كثيرة بين الهزيمة والدهشة والإعجاب ..استمع للأغنية مُستأنساً بكلماتها الشفافة ذات الإحساس المرهف الحنون, بوجه لم تُغادره الابتسامة .رسائل المجهول كانت جزءً من يومياته يتلوها دوماً ويتمعن بمفرداتها ومعانيها , وبكل مرة يشعر كأنها تحمل معنىً جديد .ينظر للرقم الذي حفظ رسم أرقامه وتمعن باسم (المجهول), رآه اسم غير لائق للرقم الذي استحوذ عليه , فقرر تغييره لاسم جديد هو (الخاص) .خمسة شهور مضت وهو يستقبل كل أسبوع بريد الخاص بلهفة تتجدد عن سابقتها , ومع ذلك لم يُبادر يوماً بالإرسال! عاشق الكلمات اعتاد على الظهور أنيقاً بقامته الطويلة الجذابة وبشرة وجهه المائلة إلى السمرة, وأحلى ما فيه (السكسوكة) أسفل وجهه التي زادت من جماله ورجولته, لاسيما لونها الكستنائي المتناسق ولون عينيه النرجسية التي تحمل بأعماقها أسراراً سرمدية . كان يُعرف بين بنات حيه بالمغرور ! ومن شدة غيظهن بتن يمقتن جماله لعجزهن عن مناله .. فقد كان عصي القلب لا يهز طرفه شيء .تغير بريد الخاص ولم يعد يقتصر على قصائد شاعره المفضل نزار قباني فحسب, إنما حمل له أيضا روابط لأغنيات تأخذه كلماتها بعيداً معها, ليراقص خيالاً أعتقل لحظاته وجعله خاضعاً له يعجز عن الهروب منه.وللمرة الرابعة يغير الاسم مُستبدلاً (الخاص) بـ (كلمات) .. وما لبث أن أعاد تسميته من جديد ليكون (كلمات دافئة) .أدمن وقت التاسعة مساء كل سبت ورغم إدمانه كان مُصرا على أن لا يرد أبدا ..رفضه هذا أثار تساؤلاته التي لم يجد لها مُبرراً .. أتراه يأبى الضعف ؟
لكن أي ضعف والشوق يجتاح العروق ؟
لا يعرف سبب قراره بعدم الرد, لكن الذي يعرفه أنه بات مدمنا للكلمات التي أحكمت تشييد سورها حوله, لتجعله يشتاق أيام حريته قبل احتلالها حياته .. حتى أنه نسج لصاحب (الكلمات الدافئة) صرحا من طوب خياله, يكون له الملاذ الذي يهرب إليه من واقع مرير .. يشكو له ألما استوطن أرضهم وبات ينهش أبناء بلدهم دون اكتفاء .. يخاطبه ويسأله بسرهِ : أترى سيأتي زمانٌ يعود عراقنا كما كان ..؟ هل سينهض ليكون قِبلة الحضارات ورمز الأمجاد ..؟يتنهد بعمق ويُكمل وفي النفس ألم ومرار : بودي لو أغمض عيني وافتحها وقد أشرقت شمسُ الحرية لتغسل عن شوارعنا بصمات الموت , وتُحيي فينا روح الغيرة العراقية .. كلمتاه الأخيرة أشعرتاه بشيء من الغصة اعتصرت فؤاده, وأثارت فيه ألم على ما آل إليه بلده اليوم .. تمضي الأيام وطيف صاحب الكلمات يتعمق بوجدانه فرسَم ألف صورة بخياله عن ذلك الوجه البعيد القريب الذي علمه ما الهذيان .. يتأمل بين وجوه المارة متسائلا : أتراه رأى صاحب الكلمات ..؟ هل هي أنثى كما يحسها؟ وإن كانت كذلك أتراه التقاها دون أن يعرفها ؟ وكيف يكون وجهها ؟ كيف هي خصلات شعرها .. قوامها .. عطرها .. نبرة صوتها ..؟
وما لون عينيها ؟ أهي كزُرقة السماء .. أم بلون المساء ؟
للقيا ذاك الخيال يعتصره الحنين .. ورياح التساؤلات تعصف به كل حين .. نصف عام مضى وهو يعيش موعد أدمن انتظاره وسلب فكره .. كان له كالغيث الذي يروي ظمأ الأرض دون مقابل .. يتوسل الأيام أن تُسرع ليأتي مساء السبت ويبحر ببحر كلمات تأخذه لعالم بعيد كل البعد .. يعيش فيه أميرا بمملكةٍ خُلقت له وحده .. ومن دون سؤالٍ يُعطى ..كلمات تجعله يبتسم برضا وسعادة غمرت روحه وتوغلت بعروقه ليشعر أن هذا الخيال هو توأم روحه .يبزغُ فجر السبت والعين ترقب الساعة التي بدأت تُبطئ المسير, كأنها تعبث به ..كل شيء يعمله باستعجال لينهي مشاغله, ينعزل وحده كناسكٍ بمحرابه كما اعتاد, منتظراً موعد التاسعة لتجمعه بكلماتٍ يُناجيها سراً ويقول : أيا من حكمتِ عليّ بالنفي إلى أوطانك البعيدة .. قد عشقت جبروت سجنك, وأدمنت نغمة رسالتك كما يعشق المُدانُ صوت عصى السجان على قُضبانه, مُعلناً أن وقت الطعام قد آن . باقتراب الموعد يأخذ الجوال بيده ليكون اقرب إليه.. تأتي التاسعة وعينه تستوطن جهازه ..