Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

أنسي الحاج في ذكراه… العالم قد يحتاج الشعر كثيرا

أنسي الحاج في ذكراه… العالم قد يحتاج الشعر كثيرا
ادب وثقافة - علي حسن الفواز - 0:11 - 25/02/2016 - عدد القراء : 820

تمرّ هذه الأيام ذكرى رحيل الشاعر أنسي الحاج، الذكرى التي تستفزنا بأثرها وبأسئلتها، لأننا نفتقد مع استعادتها شيفرة القصيدة التي تُحرّضنا على الوعي المفارق والجمال المفارق، وبقدر كراهيتي للاصطدام بالأشياء، لكنني أجد في قصائد أنسي ما يثير الجدل حول هوية القصيدة، بدءا مما يتعالق بفكرة المعنى، وانتهاء بـ(أسلبة) الشكل الذي وضع مفهوم (التجديد) على طاولة التشريح، وأعطى للنقد هامشا مفتوحا لتفجير الأفكار ومراجعة التاريخ.. غواية الكتابة هي ما يمكن أن يكون مقترحا للحديث عن أنسي الحاج، فهو يجد في القصيدة لذة التشهي، والخروج بوعي قلق من زُحمة التشاكل فيها، فالقصيدة لم تعد كتابة في البراءة، بقدر ما أخذت تنحو بـ(الخبرة) حدّ المواجهة مع عالم لم يعد بريئا، وأفكار وأيديولوجيات لم تعد هي الأخرى بريئة..
صحيح أن مغامرته الشعرية ظلت محفوفة بالشكوك، شكوك من خارج الشعر طبعا، على مستوى الشك بـ(جماعة شعر) وبرسالتهم الثقافية، والشك بهوية القصيدة الجديدة، والشك بالمرجعيات التي اتكأت على التناص مع سوزان برنار صاحبة الكتاب الأثير «قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا»، لكن ذلك لا يعني وضع الشاعر خارج سياق المغامرة، إذ كان الأكثر جرأة في (بيان) الاشتباك، وفي الوعي بضرورته، وفي الإفصاح عنه عبر كتابة (البيان/ المقدمة) لمجموعته «لن» بوصفه إفصاحا عن وجود مضاد، وعن نزوع باهر للكشف عن روح الشعر، عن أشيائه وسرائره، فهو يقول فيه «شاعر قصيدة النثر، شاعر حر، وبقدر ما يكون إنسانا حرا، أيضا تعظم حاجته إلى اختراع متواصل للغةٍ تحيط به، ترافق جريه، تلتقط فكره الهائل التشويش والنظام معا، ليس للشعر لسان جاهز، وليس لقصيدة النثر قانون أبدي». هذا الفهم الفائر للشعر، وضعه خارج السياق، وأطلقه مثل متمرد على محابسه البلاغية القديمة، إذ كشفت شراهته عن وعي متماسك، وعن رغبة في المواجهة، ومقاربة لتلمّس ما تحيله القصيدة للعالم، كون هذه القصيدة ممارسة فائقة في الوعي وفي الحميمية، قصيدة لها مزاج الأنوثة الانيقة، وربما (البرجوازية) في قاموسها، التي ينعتق فيها الكلام من أوهام التاريخ والبلاغة، وحتى من وحشة الاستعارات المقيتة، إذ تنقل القارئ إلى الغيمة والسرير والحقل والاستعارة دونما حرج كبير.قرأته بكثافة لأكتشف السر والهوس بالتجديد والحب واللذة، الهوس بالصوت الفيروزي، الهوس باللغة الرسولة، التي تضع أي مشغل نقدي تحت هاجس لعبة الكشوفات السرية، والمعاينة التي تبغي بحثا عما تحت قميص الجسد، عن نبضه، عن اصطداماته الصغيرة، لكنها المدهشة، التي توخز الأصابع، مثلما تستنفر القلب..أنسي شاعر مثقف بالمعنى المهني والعرفاني، وما أحدثته قصيدته منذ «لن» إلى «الرأس المقطوع» و»ماضي الأيام الآتية»، و»ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة» و»الرسولة بشعرها الطويل حنى الينابيع» و»الوليمة» و»خواتم» كان تحوّلا في الدهشة الشعرية وفي الذائقة والتلقي، مثلما هو تحوّل أيضا إلى رهان على الجمال الشعري، أكثر من الرهان على التاريخ ذاته، فالنثر الشعري كان أيضا استشرافا لواقع شعري عربي، مشوش ومضلل، وغامر بالكثير من المركزيات، والغبار الطللي، والروح التي ظلت تتناغم مع رتابة المقامات..وبهذا كانت مغامرة أنسي محاولة واعية للتجاوز وللتمرد على سلطة (النحو الشعري) وعلى الخوف العالق بشروط الكتابة الشعرية، بوصفها عالقة بالتاريخ و(الديوان)، لذا خضعت قصيدته إلى قراءات متقاطعة، ومتناقضة أيضا، فهو كان جريئا في التعالق مع الروح المدينية، حيث التفاصيل والتنوع والتعلّم، وحيث المجاورات الثقافية اللغوية والإنسانية والحكائية الكثيرة، فضلا عن كونه الأكثر تمثّلا لأسئلته الصادمة، أسئلة الوعي والجسد والفكرة والمقدس.يمكن أن نقول غن قصيدته كانت تأسيسا لنوع غير مألوف في المفارقة الشعرية العربية، ليس لأنها خارجة عن النمط، بل لأنها أكثر احتجاجا على النمط ذاته، والتوق إلى هاجس الحرية، ولذائذها وغواياتها، التي يمكنها أن تكون أكثر تماسا مع اللغة والجسد والتفكير والعلاقة مع الآخر.جملته الشعرية تصويرية، لا حدود لها، مسكونة بالمزاج، جملة أكثر تمثلا للتركيب، ولأن تكون الأقرب إلى جملة (كلمات) وهو ما جعلها مستغرقة بالضرورة باستدعاء رؤية الوجود، دونما أساطير أو أسحار، وبطرائق أكثر خفّة في مواجهة المهيمنات الحاكمة في النحو والصرف، وبما يعطي للجملة التعبيرية زخمها، مثلما يعطي للكلمة ذاتها كوحدة صرفية حضورا في بنية الجملة النحوية، وفي بنية القصيدة العضوية، وهذا يفترض مهارة خاصة ومتعالية لشاعر جسور، شاعر تزدحم في أعماقه الكثير من النقائض، والكثير من الشهوات والصخب الغامر.
الخمسينيات والستينيات من قرننا الماضي بقدر ما فيها من إرهاصات (ثورية) كانت أيضا تنفتح على أفق طبقي استثنائي، أفق لحريات غير صالحة للشارع، هي حرية الغابة، والحفلة والأزياء والأصوات، وأحسب أن أنسي كان يتكئ في لغته الرقيقة والأنيقة على هذا الهاجس الخفي، هاجس اللذة التي تتفجر من الأجساد البضة، ومن الحكايات الساحرة، ومن الطقوس التي تعزز فكرة الاحتفال في الكتابة، وحتى المقاربة النسقية لمفردة «لن» عنوان مجموعته الشعرية، لا تحمل رفضا لوضع سياسي، بل لوضع ثقافي يخص التفكير والبلادة، وهو تعبير عن توق أكثر سحرا للحياة، ولعل ديوانه الآخر «الرسولة……» أكثر تعبيرا عن هذا الشغف، فهو يوائم بين القصيدة والصوت الفيروزي، الصوت اللاطبقي واللاثوري، إذ هو الصوت الإنساني المهووس باللذة والحياة والفكرة الجبرانية عن الوجود..

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

ملحق العدالة

Screenshot 2024-06-17 at 04.54.21

استبيان

الطقس في بغداد

بغداد
30°
42°
Sun
44°
Mon
الافتتاحية