Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

الهجرة وورطة الوجود والهوية في رواية «طشاري» للعراقية إنعام كجه جي

الهجرة وورطة الوجود والهوية في رواية «طشاري» للعراقية إنعام كجه جي
ادب وثقافة - 3:10 - 01/03/2016 - عدد القراء : 2274

يَعبُر سؤالُ الهوية روايةَ «طشاري» للكاتبة إنعام كجه جي من أولها إلى آخرها، ويحكم حبكتها، ويصوغ استراتيجياتها في توجيه تلقي النص وفعل القراءة: ما الذي يحدد هوية الإنسان العراقي اليوم، سواء في الداخل أم في شتات المنفى؟ فإذا كانت الهوية «لا يمكن أن تبنى إلا في إطار تفاعل رمزي مع الآخرين»(George Mead)، بما أنها ليست جوهرا ثابتا يولد مع الإنسان، أو استعدادات ذاتية تلازمه طيلة حياته في معزل عن الوسط الاجتماعي الذي تتشكل فيه الذات وتنمو وتتطور، بل عملية بناء مستمر في تفاعل دينامي مع الآخرين؛ فمن هم هؤلاء الآخرون؟ وما دورهم في تشكيل هوية الإنسان العراقي المعاصر الثقافية والجماعية؟لقد تحولت الهوية في عراق ما بعد الغزو الأمريكي، عراق الاقتتال الطائفي، حيث يستوقفك عند كل مفترق طرق أو حاجز «طائفيون يسألونك عن مذهبك قبل السلام عليكم»، تحولت إلى ورطة وجودية تضع الفرد العراقي، حقيقةً لا مجازاً، أمام سؤال «هاملت» الوجودي: أن يكون أو لا يكون. تتخبط شخصيات الرواية أمام سؤال الهوية، بين الحنين والخوف والأمل، وتتلون الإجابات والمواقف بتغير الزمان والمكان. قبل الحرب وانحدار الوطن إلى «هوّة سوداء»، كانت الهوية لا تنحصر في الانتماء الديني والطائفي الذي يقسم البلد الواحد إلى كانتونات متقاتلة. كانت أجهزة الدولة القمعية تستبِدّ بأحوال الناس ومصائرهم، يعيشون بين خوف من الوطن وخوف عليه، مثل علاقة شخصية أم إسكندر بجواز السفر «أخاف عليه ومنه» كانت تقول. لكن الناس، عموم الشعب، كانوا أمام كل ذلك سواسية، لا يفرق بينهم دين ولا مذهب ولا لون. كان الوطن هوية؛ في الرواية تشرح الدكتورة العجوز «وردية»، وهي في المنفى، للصبي «إسكندر» أن «الأمور لم تكن كذلك في السابق… أنهم كانوا جميعا إخوة وأحبابا وأبناء وطن واحد. تروي له كيف كانت، وهي المؤمنة بيسوع وبشفاعة مريم، تحضر القرّايات على الحسين في عاشوراء… وحتى حين انتقلت إلى بغداد، ظلت تتردد على الموالد التي تقيمها أم محمد، جارتها في شارع 52، وعلى القرايات في الكرّادة، حيث بيت الأهل وجيران العمر». تعلمت «وردية» في الثانوية معنى حبّ الوطن، وهي تجمع، في الأربعينيات، التبرعات لضحايا المظاهرات من الطلبة الجرحى برصاص الشرطة. لكن ما حدث بعد ذلك مزّق وحدةَ الوطن، وانقسم أبناؤه شيعاً، كلٌّ يلوذ بانتمائه إلى طائفته خوفاً من الآخر، «يشعر الذين يتشاطرونه [الانتماء الطائفي] بالتعاضد فيجتمعون ويتجندون ويتبادلون التشجيع ويهاجمون الذين في المواجهة. بالنسبة لهم يصبح «تأكيد هويتهم» اضطرارا عملا شجاعا وعملا محرِّرا». يصير الأهل لا يلتقون إلا في الجنازات، والنزهات غير مأمونة، والمناطق مقسمة. وعندما يعمُّ الجنونُ الوطنَ يتشتّت أبناؤه «طشّاري» في جهات العالم الأربع. يهاجر الإخوة والأبناء والأحفاد إلى الخليج وكندا وأستراليا وفرنسا… وتبقى الدكتورة «ورديّة» صامدة في بيتها وعيادتها، لكنها في الأخير لا تجد بدّا من الاستسلام وتلبية نداء أبنائها لتلحق بهم في منافيهم أو ملاجئهم البعيدة؛ ما دفعها إلى القبول بالهجرة نحو فرنسا، لم يكن الخوف من الموت الذي صار شبحا مقيما، إنما «هو اليأس والكثير من القرف» وتلك الكوابيس التي استبدّت بلياليها منذ أن اقتحمت عيادتَها فتاةٌ مفخّخةٌ مرعوبة تطلب نجدتها لأنها لا تريد أن تموت.وفي بلدان المهجر يتعقّد أمر الهوية، وتصبح أكثر هشاشة، فيختلط الحنين بالغضب، واليأس بالأمل. يصير جواز السفر (العراقي) بالنسبة إلى البعض، مثله مثل مفتاح البيت الذي خلّفوه خاليا في البلد، رمزَ هويّة مهدَّدة ومنفلتة: «أفقد بصري ولا أفقده ـ تقول إحدى الشخصيات ـ هذا الجواز الذي كان هويّتي الوحيدة في هذا البلد ودليل وجودي». ينتقي المهاجِرُ الأشياء التي يستحضر امتلاكُها ذكرى الوطن، ليس وطن الاقتتال والموت، بل وطن التعايش والحب. تُعلِّق هندة في صدر بيتها في «تورنتو» صورة أخيها: «ولد بشعر أشقر طويل، يتدلّى من عنقه صليب ذهبيّ، يمشي مع ضاربي القامات وأصحاب الرؤوس المدمّاة في الموكب الحسينيّ.». تنتقي تلك الصورةَ بالذات من بين ركام الصور لأنها «تُلَخِّصُ أجمل ما غاب عن حياتهم»، تعايشٌ بين الطوائف والديانات في ظل وطن واحد.في المهجر يصبح السرد بناءً للهوية وحفظا لها من الاندثار؛ الجميع يحكي عن ذكرياته، ويعيد الحكي على مسامع الأجيال الجديدة التي لا تعرف الوطن إلا من خلال صور الدماء والأشلاء والدمار والأنقاض في القنوات العالمية. وتصبح اللغة ذاتها هويّة تشدُّ الصبيَّ إسكندر إلى وطن لا يعرف عنه إلا محكيات الأهل والمعارف: «لهجات متعددة، وخلطة بهارات شرقية تؤجج رغبته في اكتشاف تلك العوالم. يحس لذعها على لسانه رغم المسافات». يستلزم بناء الهويّة، بالضرورة، استحضار «الآخرين»، إما باعتبارهم شركاءنا في موروث ثقافي واجتماعي وتاريخي رمزي، نحرص على تأكيد انتمائنا إليهم وتماهينا مع آلامهم وآمالهم، وإما باعتبارهم أغياراً نودُّ الاختلاف والتميّز عنهم ثقافياً، ويصير الأمر أكثر تعقيدا بالنسبة إلى المهاجر؛ من جهة تدأب شخصيات الرواية على التواصل مع الأهل والمعارف من المهاجرين العراقيين من أجل استحضار وطن بعيد وهويّة مهدَّدة، ومن جهة أخرى تجد تلك الشخصيات نفسها مطالَبة بالاندماج في وطن جديد، أن تبني لنفسها هويّة جديدة تشترك في قيمها مع آخرين قد لا يبادلونها الترحيب والقبول. إن تراجيديا الأجيال التي عاشت تجربة الهجرة والاقتلاع لا دواء لها؛ تعترف هندة الطبيبة لصحافي كنديٍّ، تصف وضعها، رغم ما حققته من نجاح في مهنتها: «لكن لا، هي غير سعيدة ولن تكون، في أي يوم، سعيدة تمامًا. ثمّة مرارة تحت اللسان. هناك غبن سيبقى كامناً في موضع ما، من تاريخها الحميم، لأن يداً سلختها عن حياة سابقة وزلزلت ركائزها. هل تعرف جنابك، حجر الأساس الذي يحتفلون به عند البدء بتشييد المباني المهمّة؟ لقد اهتزَّ حجر أساسها في اليوم الذي حملت جنسية ثانية».ولعل أشد الصور إثارة للحزن والألم في الرواية تبقى تلك المقبرة الافتراضية التي صمّمها الصبيّ «إسكندر» ليجمع فيها شتاتَ الموتى العراقيين؛ يقتل الوطن أبناءه في حفل موت مجنون، ويقذف بمن أفلت «طشّاري» إلى المنافي والملاجئ البعيدة، فلا يجدون من مكان يؤويهم ويجمعهم سوى مقبرة افتراضية! غير أن شعاع أمل قد ينبعث من تراجع بعض الشخصيات في الأخير عن فكرة القناعة بحيِّز في مقبرة افتراضية، حيث لا بديل عن أرض الوطن مهما قسا ومهما طال الزمن.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

ملحق العدالة

Screenshot 2024-06-17 at 04.54.21

استبيان

الطقس في بغداد

بغداد
31°
42°
Sun
44°
Mon
الافتتاحية