تعودنا في التفكير الأدبي في المنطق العربي، اعتماد الرؤية التجزيئية في التعامل مع القضايا الأدبية والمعرفية. ولهذا، ينفلت- في كثير من الأحيان- البُعد التاريخي للظاهرة، وما عرفته من تحولات وانتقالات. لأن الوعي بالتشكل التاريخي – الثقافي لقضايا الأدب ومظاهره، يُنتج تفكيرا متسلسلا، ومرتبا، من دون أن يعني الترتيب منطق التدرج التاريخي الصرف، إنما يُقصد به الوعي بنظام التحول والتطور في إطار مبدأ الاستمرارية. فالتفكير ينبني على شكل الاستقبال للمعرفة، ومنهجية التلقي، وطريقة تصريف القضايا. قد تتأخر عملية الوعي بحالات التحول التي تعرفها المعرفة الأدبية، عندما يظل المنطق التجزيئي هو المهيمن في مستوى تلقي الأدب. عندما نستعرض اليوم الأدب الروائي في التجربة العربية، نلاحظ تحولات مهمة تحدث في الخطاب الروائي في علاقة متوازية بما يحدث في الواقع السياسي – التاريخي العربي. ولعل من أهم عناصر هذه التحولات، التي تُساهم في جعل الروايات العربية حاضنة للحظة التاريخية التي يمر منها الواقع/الوعي العربي هو هذا التداخل التفاعلي- الوظيفي بين الواقعي بالتباسه السياسي، والاجتماعي بأفقه الغامض، وبين الخيالي بمساحته التي بدأت تتقلص أمام انفجار الواقع. كلاهما (الواقع/الخيال) يُحققان معادلة صعبة، لكنها ممكنة في تحقيق التخييل الروائي، بعيدا عن إكراهات الواقع، وانتظارات الخيال. ولعل المعادلة تحدث بفعل طبيعة واقع اللحظة التاريخية العربية، التي تُربك المفهوم المألوف للواقع، حين تجعله يتجاوز بأحداثه وتحولاته السياسية والجغرافية السريعة الخيال. ما كان يُعتبرا خيالا في زمنٍ، أصبح واقعا ملموسا. لهذا، يمكن اعتبار الرواية العربية من خلال الكثير من نماذجها، وبأصوات جديدة، حالة ثقافية تتحرك في هذه المنطقة، حيث الواقع يتجاوز الخيال، والخيال يُعيد تنظيم عوالمه ومواده. إن الحالة الروائية الراهنة، التي تفرض منهجية جديدة في القراءة والتحليل، تستدعي-بالتوازي- استحضار بعض نصوص الذاكرة الروائية العربية، من أجل التمثل التاريخي لزمن التحول الروائي في التجربة العربية، من أجل إعادة ربط الراهن بالذاكرة، في محاولة لتجاوز الرؤية التجزيئية في التعامل مع المعرفة الروائية. من بين نصوص الذاكرة الروائية، التي بإعادة قراءتها، نُعيد التواصل مع تاريخ العلاقة بين الخيال والواقع في بناء الرواية، نلتقي برواية «بديعة وفؤاد»( 1906)، للكاتبة السورية عفيفة كرم (1883-1924). جعلت المؤلفة لروايتها مقدمة، وضعت فيها تصورها للكتابة، ومفهومها للرواية، وافتتحتها بالمقطع التالي: «ومعلوم أن الروايات إنما هي المرايا تنعكس عليها صور أعمال وحوادث كل إنسان تقريبا، فيقرأ من بين تضاعيف سطورها وخلال حوادثها ما يمثل له نفسه في بعض الأحيان». يقدم هذا المقطع وعي المؤلفة بالرواية باعتبارها مرآة عاكسة لحياة الأفراد وأفعالهم. ومن ثمة، يستطيع كل إنسان أن يجد نفسه في ثنايا سطورها. وبهذا المفهوم للرواية، تأتي «بديعة وفؤاد» عملا انعكاسيا لطرح المؤلفة، التي كانت تهدف بروايتها إلى بث الأفكار الإصلاحية التهذيبية الانتقادية، تماشيا مع تصورات سؤال النهضة. وقد تجلى هذا البعد في ترتيب الحكاية، وفق منطق يجعل نهايتها، تتماشى والهدف الإصلاحي التهذيبي، والذي تحقق بالحضور الذي يكاد يكون مباشرا للمؤلفة/عفيفة كرم. فعلى الرغم من كون الرواية قد ضمنت للحكاية بعدها التخييلي، بالاشتغال بمستويات سردية عديدة، فإنها اخترقت التخييل بالوعي الجاهز. اعتمدت الرواية استثمار تقنية الحكي الشفهي، ما أنتج تعدد الأساليب، وسمح بحضور ضمير المُخاطب، الذي تم توظيفه باعتباره ذاتا تتلقى الحكاية من جهة، ومن جهة ثانية تُشغله الرواية تقنية سردية بواسطتها ينتقل السرد من حدث إلى آخر، ما دامت حركة نمو الأحداث والشخصيات تعرف إما بُطئا، أو جمودا. تكثر المقاطع التي يوجهها السارد إلى المُخاطب/ المستمع، مثل « لندع الفتاتين الآن تجري بهما العربة إلى بيروت يرافقهما والد لوسيا وأخوها من أبيها ومنها إلى ظهر الباخرة (…) ولنُعرف القارئ بهما»، و»ولنتركهما الآن ينمو حبهما». كما يدعم السرد هذه التقنية بتعبيرات وتراكيب لغوية، يجعل الخيال الروائي يستقبل الواقع، ويعيد تركيبه وفق طرحه الجاهز، مثل «في الحقيقة»، و»الحق يقال». إن في هيمنة هذه التراكيب التي تفيد الحسم في الشيء، وتكاد تغلق باب الشك، أو التأويل هيمنة لبنية فكرية مقبلة من الواقع. من أجل ضمان استقبال الخيال لهذه البنية، وإعادة تخييلها بشكل يحافظ على أفقها. جاء نظام السرد خاضعا ليوجه طرح الإصلاح، ويظهر ذلك في عدة علامات، منها تقييد الشخصية بصفات مثالية، تُخرجها من حركتها التاريخية. فالسرد قدم شخصية «بديعة» عبر صفات تقترب من المثالية في السلوك والانفعال والعمل. كما حمَلها وعيا أكبر من موقعها، وجعلها حكمة لا تُخطئ. تصبح «بديعة» بهذا الشكل مُقيدة بتركيبة ليست من صنع المنطق التخييلي، وطبيعة نمو الأحداث، وإنما حسب اختراق كلام/صوت المؤلفة عفيفة كرم السرد، وتوجيه نظامه. يدخل خطاب المؤلفة إلى السرد بقوة الطرح الجاهز، مثل قولها في موضوع التمدن، «إن التمدن والترتيب مفيدان جدا ولا شيء مثلهما ولكن بشرط أن يكونا في كل شيء. والذي يستدعي الأسف أننا كدنا نسبق الإفرنج بتقليد العوائد المُضرة فقط كعادة.. «الموضة» بكل شيء حتى بلعب القمار.. فإن الإفرنج قوم درسوا قواعد تمدنهم أجيالا، أما نحن فلم نعرف إلا من سنين. وقد كنا نسبقهم بالتقليد». يشتغل الطرح على مستوى مجموعة من مواضيع ذات علاقة بسؤال النهضة، مثل الأصالة والمعاصرة، والتقليد، والتفاوت الاقتصادي- الاجتماعي، والجمال الجسدي- الفكري للمرأة، وأمريكا بلد المال والهجرة. كما أن المؤلفة أدخلت شخصية «الشاب» إلى الحكي، من دون سند سردي، أو تطور موضوعي لمكون الشخصية، لتوظفه صوتا تقريريا، للحديث عن التمدن الحقيقي، الذي يحققه نموذج المرأة العربية متمثلا في السيدة «مريم» التي استطاعت أن تحافظ على ملامح المرأة العربية وفي الوقت ذاته تستفيد من التمدن الغربي. فالمؤلفة تكسر نظام السرد، بخطابها المباشر، الذي يتحكم في قرارات الأحداث وسلوك الشخصيات، تقول «والحق يُقال بأن بديعة لم تكن مذنبة»، أو باستعمال تقنيات مُساعدة، أو إدخال أصوات عبرها تمرر تصوراتها التي تظل خاضعة لمنطق الخير والشر. لا تخرج الكاتبة عفيفة كرم في روايتها عن المنظومة الثقافية التي عرفتها المرحلة التاريخية، والتي تميزت بالمطلب الإصلاحي. عندما نستحضر اليوم رواية عفيفة كرم، ونتأمل مستوى اشتغال التخييل، وإكراهات تحقق التشخيص، وحضور الوعي القبْلي باعتباره طرحا ثقافيا واجتماعيا جاهزا، فإننا نتمثل مسار العلاقة (الواقع/الخيال) في بناء الرواية من جهة، ومن جهة أخرى في صياغة مفهوم الوعي الروائي الذي تتبناه التجربة الروائية مع كل لحظة تاريخية. وإذا كانت الرواية في «بديعة وفؤاد» تحضر وسيطا فنيا لتصريف رؤية سابقة عن الخيال، وتُنتج تصورا عن مفهوم الروائي، باعتباره ممتلكا لحقيقة الوعي المُنتظر، مما يحول الخيال إلى مساحة طيعة، تستقبل هذا الوعي المقبل إليها من الواقع، وتُعيد إنتاجه وفق منطق تخييلي يخترقه مفهوم الانعكاس، فإن الرواية اليوم تشهد تحولا بنيويا في مستوى هذه العلاقة، تجعلها تنتقل من الوسيط إلى الموضوع، وتُحول الروائي من ممتلك حقيقة الوعي المحتمل إلى الباحث عنه عبر الرواية. بين التصورين عرفت الرواية العربية انتقالات في هذه العلاقة، تُشخص – في معظمها- طبيعة التحولات السياسية والتاريخية. ولهذا، فإن عملية إحياء النصوص الأولى التي أسست الحالة الثقافية والفنية للرواية العربية، لا تشكل فقط شرطا معرفيا وظيفيا، من أجل إعادة ترتيب الذاكرة الروائية العربية، والبحث عن مظاهر الأصل وشكله، ولكنها، تشكل ـ في الوقت ذاته – إمكانية ثقافية للتعرف على موقع الإبداع خاصة الرواية في الوعي العربي.