«فهرس» هي الرواية الأخيرة التي كتبها الروائي العراقي سنان أنطون، وهي نص تتابعي لمشروع سنان الروائي، القائم على وصف الواقع الذي يعيشه بلده العراق، وجاءت هذه الرواية بأسلوب سردي مغاير عن أسلوب الكاتب المتعارف عليه في نصوصه السردية السابقة؛ حيث اعتمد فيها على محورين سرديين وصفت أحداثهما على لسان ساردين مختلفين، الأول ـ نمير ـ العــراقي الذي هاجر إلى أمريكا بعد عام 1993 مع عائلته، والثاني ـ ودود ـ الشخصية العراقية البسيطة والمثقفة التي تعيش في العراق، وكان لكل محور من هذين المحورين سمته الفنية التي تعكس الأفكار الرئيسة المطروحة في النص الروائي كله. أما المحور السردي الأول فيمثل المشهد الاسترجاعي، الذي تحدث فيه (نمير) عن مراحل مهمة من حياته، موظفا تقنية «الاسترجاع الزمني» التي أسهمت في إبطاء الزمن الروائي العام، لتكون أحداث نمير الأكثر ظهورا في الرواية، ولكنها ليست الأكثر أهمية فيها، رغم ذلك فإن لمذكرات (نمير) دلالات مهمة تساعد في تفسير جماليات السرد في هذه الرواية، ولعل أهم هذه الدلالات أن ما ورد على لسان نمير يمثل جانب «الرواية السيرية» حيث تماثل الأحداث التي مرَّ بها نمير الأحداثَ التي حصلت مع سنان أنطون نفسه، فنمير هو المرآة الحقيقية العاكسة لوجه سنان، فثقافته ومنصبه الجامعي واهتماماته كلها عائدة إلى شخصية الكاتب، ومن العلامات النصية الموحية إلى ذلك، حديث السارد عن جمع ملف حول تغسيل الموتى، للقيام بمشروع روائي يتحدث عن المغسلين، ورأى فيه موضوعا مناسبا لوصف الواقع الذي يعيشه العراقيون، يقول (نمير) متحدثا عن مشروعه الروائي: «تخيلت أن سارد الرواية سيكون من عائلة تمتهن هذه المهنة، وسيكون بغدادياً من الكاظمية.. ولكنه سيتجه نحو الفن منذ طفولته وسيرفض أن يكون مغسلجياً وسيسبب هذا صراعاً مع والده»، يشير السارد بهذا القول إلى رواية «وحدها شجرة الرمان» التي قامت على فكرة تغسيل الموتى، وجعلها مهنة يرفضها جواد ابن المغسل؛ لأنه يريد أن يكمل دراسته في كلية الفنون، وبالتالي يشكل هذا المحور «حكاية الذات» التي طرح فيها السارد أيضا رؤيته لحال بعض المثقفين العراقيين المنسيين، الذين فقدوا الأهل والسكن ولم يجدوا موئلا إلا شارع المتنبي ليلتحفوا بالكتب ويتغذوا من جمال سطورها، ليصبحوا بذلك رواد فكر نسيهم الزمن، فأراد (نمير) أن يحيي شخصية نموذجية منهم، جعلها جزءا مهما من حياته، حتى أنها شكلت هوسا وهذيانا له؛ لأنها تمثل جانبا مهما من جوانب الموروث العراقي الذي دُفن نتيجة الحروب المتعاقبة. ومن المعاني الإيحائية لمذكرات (نمير) توضيح صورة العراقيين خارج حدود بلادهم، وإظهار موقف الآخر من قضيتهم، فالعمل الأكاديمي الذي شغله (نمير) أحاله إلى معرفة مواقف الكثيرين من الحروب المتعاقبة على بلده، والمشاهد الحوارية الحاضرة في تلك المذكرات مشاهد تضمينية، تحيل القارئ إلى تفكير غير العرب إزاء القضية العراقية. أما المحور السردي الثاني فيتمثل في تضمين مخطوط سردي لشخصية عراقية يغلب عليها حُبّ المعرفة وتذوق علوم الفلسفة والأدب، إلا أنها تعيش حياة البؤس والفقر، نتيجة فقدان الأهل والبيــــــت، فكانت مُلخص النتائج الظاهرة للحروب المتعاقبة على العراق، أطلق الكاتب على هــــذه الشخصية اسم (ودود) الاسم المحوري والأساسي في الرواية؛ حيث ينتـــمي (ودود) وفق تصنيف (فيليب هامون) إلى الشخصيات «المرجعية» التي تحيل إلى الهيكلية العامة في الرواية، وتعكس الجوانب الثقافية والفكرية فيها، وقد حضر (ودود) في الرواية كمؤلف ضمني لمخطوط أطلق عليه اسم «فهرس»، يتضمن مقتطفات سردية لبعض الشخصيات العراقية البسيطة، التي تمثل الوجه الصارخ لعذابات العراقيين ومعاناتهم، كما تكونت من شذرات فلسفية عنون كل جزء منها بــ«المنطق» وهذا يشير إلى العمق المعرفي الذي اتسم به (ودود)، كما احتوت على هلوسات فكرية تدلل على متاهة ذات (ودود) وحيرتها، وتعكس الجانب المهم من حياته الاعتيادية. إن فكرة تضمين «المخطوط» في السرد الروائي وجعله جزءا من الحكاية السردية فيها يعد تقنية سردية معاصرة، يعبّر فيها الكاتب عن دلالات النص العامة، ويشير من خلالها ـ في بعض الأحيان ـ إلى الفكرة المهمة في الرواية، كما تعد هذه التقنية الجزئية المهمة للعبور إلى متاهات السرد النصي والتعبير عن اللعبة الفنية التي يوظفها الكاتب لتفسير العناصر الأساسية من كتابة الرواية؛ فمخطوط (ودود) تضمن الدلالات والمعاني التي أرادها الكاتب، ولعل أهمها ـ كما أرى ـ التعبير عن الموروث الشعبي العراقي ووصف حال العراقيين بطريقة سردية ممزوجة بالأبعاد الفكرية والفلسفية والتجربة الحياتية القاسية التي عاشها (ودود). جاء تصوير الموروث العراقي من خلال أنسنة الطبيعة والأشياء كالتنّور وشجرة السدر والطوابع البريدية والجنين في بطن أمه… وغيرها، ويعود أنسنة الأشياء – كما يرى عالم النفس الألماني (فرويد) إلى رغبة الذات في تملك الأشياء التي فقدها، فيحاول من خلال أنسنتها أن يحصل على ما يريده؛ ليشعر براحة نفسية كانت مضطربة بسبب فقدانها، ففي «منطق السدرة» تسرد الشجرة حكايتها مع المواطن العراقي الذي زرعها، وكيفية اهتمامه ورعايته لها؛ لأن شجرة السدر ـ كما يقول بعض العراقيين ـ حظيت بمكانة مهمة في الفكر العراقي القديم، «فهناك بعض المعتقدات التي تحثهم على الاعتناء بها ويستفيدون من ثمرها وظلها ولا يقبلون قطعها؛ لاعتقادهم أن مَن يقطعها يُبشر نفسه بالموت»، إلا أنها في المستقبل وبعد هرمها تُقطع ولا تموت، ويبقى جرحها نازفاً، حتى تبدأ الحروب المعاصرة على العراق لتحرق الشجـــرة وكل ما يحيط بها، فيصور السارد من خلال هذه الشجرة معاناة العراقيين نتيجة الحروب المتتالية عليهم، وفــــي «منطق التنّور» يرسخ السارد علاقة التوأمة التي كانت تربط الأم العراقية بالتنور الذي تخبز عليه، فأنطق السارد التنور ليعبر عن جمال الحياة العراقية مع تلك المرأة التي كانت ترعاه وتحافظ عليه؛ لأنه يمثل بالنسبة لها التراث الذي تناقلته عن أجدادها، إلا أن الحروب كانت قاسية على التنور وصاحبته، كما لجأ (ودود) إلى اقتباس بعض الأغاني الشعبية ودمجها في المتن السردي؛ ليعزز مفهوم الموروث العراقي وجمال أثره على مستمعيه. لقد كان «فهـــرس» (ودود) العلامة النصية المهمة في هذه الرواية، لأنه كان النص العاكس لحياة (نمير)، والمرجعية الحقيقية لأحداث الرواية كلها، ويمثل الفضاء الرحــــب فــــيها، الذي عبر الكاتب من خلاله عن تأثره ببعض المصادر التراثية العربية ككتــــاب «الفهرســت» لابن النّديم، وبعض مؤلفات الكاتب الألماني فالتر بنيامين مثل كتاب «طفولة برلينية في مطلع القرن العشرين»، وغيرها من المصادر التي أشار إليها الكاتب في آخر صفحات الرواية.