تنشر صحيفة «الغارديان» البريطانية تباعاً مراجعات لأهم مئة كتاب غير قصصي، بيد أن الاختيارات تأتي تبعاً لمسوغات أهمها التأثير الذي مارسته هذه الكتب على الثقافة الإنسانية، فضلاً عن مدى استمرارية طرحها تاريخياً، وتتنوع بين أكثر من حقل معرفي لتشمل موضوعات في البيئة، والعلوم الاجتماعية، والاقتصاد والتاريخ والسياسة والثقافة، ومن هنا فإن بعضاً من هذه الكتب قد جاء من لدن علماء فيزياء كالبريطاني ستيفن هوكينغ. تبدأ القائمة بكتاب «الانقراض السادس» للأمريكية إليزابيث كولبرت، ومما يلاحظ أن القائمة تنطوي على الكتب الأكثر ارتباطاً بالسياقات المعاصرة، أو الحديثة، أو ذات التأثير، ولهذا نجد أن بعض أعمال داروين، وفرويد، وكارل ماركس تتأخر في القائمة التي تبدأ من الحاضر فالماضي. فبعض هذه الكتب – وبوجه خاص- تلك التي تتصدر القائمة، تحتمل وعياً بعالم اليوم، كما المستقبل، علاوة على ما تنطوي عليه من تشكيل لقيم عالمنا المضطرب، ومن ذلك كتاب «الاستشراق» 1978 الذي حل في المرتبة الثامنة من حيث التأثير والقيمة، وهو للناقد والمفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد (1935-2003)، والكتاب ترجمه للعربية الناقد السوري كمال أبو ديب. يُنظر إلى كتاب «الاستشراق» في الأوساط الأكاديمية والثقافية الغربية بوصفه العمل الأكثر أهمية ومركزية في الثقافة الغربية المعاصرة، لا تبعاً لدوره في تأسيس خطاب ما بعد الكولونيالية والنقد الثقافي فحسب، بل يتعداه إلى ما هو أبعد من ذلك. تقدم الصحيفة مراجعة لكل كتاب، تبدو أقرب إلى بيان مسوغات هذا الاختيار الذي يتأسس على ما تتميز به هذه الكتب من قدرة على توجيه منظور الثقافة الغربية خاصة، والبشرية عامة إلى بعض القضايا المصيرية، ولا سيما أن عالمنا اليوم، يتعرض إلى العديد من الإشكاليات البيئية والاقتصادية، والثقافية والسياسية… ومن ذلك انبعاث مجال الإرهاب، وأزمة اللاجئين، وبروز الإسلاموفوبيا، فضلاً عن النزاعات الدائرة في منطقة الشرق الأوسط، وقبل كل شيء مركزية القضية الفلسطينية، لا شك بأن هذه القضايا تدفع إلى البحث عن حلول لهذه المشاكل من قبل العقل الغربي، غير أنه ينبغي أولاً فهم وتحليل العوامل التي أوجدت هذه المواجهات بين الغرب والشرق، وهو ما يعطي كتاب الاستشراق قيمته ووجاهته المعرفية. تبدأ مراجعة الكتاب من الأجواء الكئيبة المهيمنة على المزاج العالمي نتيجة التفجيرات الإرهابية التي تجتاح العالم في غير مكان، ومن هنا تبرز قيمة كتاب إدوارد سعيد بوصفه مصدراً استثنائياً للمعرفة حول الشرق، أو معرفة الشرق في المتخيل الغربي، بالتوازي مع التوجه الذي يعدّ الكتاب مصدراً لفهم وتحليل تكوّن النسق العدائي المتبادل بين الغرب والشرق، الذي يحال إلى تركة استعمارية. فكتاب «الاستشراق» محاولة لتفسير المعرفة القائمة على المتخيل عبر تمثيلات إنشائية، كما أنه بيان حول نشأة الإمبراطوريات الاستعمارية، وتحديداً بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، كما ذكر واضع القائمة روبرت مِكروم. وإذا تجاوزنا الأطر النقدية والمعرفية الأكاديمية القائمة على إنشاء تيار نقدي، يعد من أهم التيارات النقدية المعاصرة في حقلي الأدب والدراسات الثقافية، فإن قيمة الكتاب تتأتى حقيقة من المنهجية التي تتمحور حول المعرفة القائمة على التحليل المتبصر والعميق، الذي استطاع من خلاله إدوارد سعيد تحليل أنظمة المعرفة الغربية للشرق عبر توصيفات إنشائية خطابية، تشكل مجتمعة خطاباً حول الآخر، وهذا يأتي مع وضع عدد من التفسيرات القائمة على اكتناه مورس فيه أكثر من أداة نقدية تتعلق بمفهوم الخطاب، كما الحفر المعرفي والتاريخ، وغير ذلك، فلا عجب أن ينعت «الاستشراق» من قبل «الغارديان» بأنه الكتاب الأكثر إثارة وجدلاً. يذهب روبرت مكروم إلى بيان أثر المعرفة التي حللها إدوارد سعيد، والتي كان لها الأثر الأكبر في تنميط، وخلق متخيل غربي تجاه الشرق، وهي رؤية تاريخية ارتجاعية، تبدأ من الصراع الذي كان قائماً بين الفرس والإغريق، وصولاً إلى الاستعمار المبطن والسافر، وتلك الأنساق من الهيمنة الغربية على الشرق كما تجلت في حقبة الاستعمار الكلاسيكي. إن القيمة الموضوعية لاكتناه هذا التبادل المعرفي، يتضح عبر الكتاب الذي نشره إدوارد سعيد قبيل الثورة الإيرانية، وما تميز به من قراءة استشرافية للأدوار والتحولات التي سوف يشهدها العالم، وبوجه خاص من حيث التنازع المنهجي الأيديولوجي. لا شك بأن إدوارد سعيد حين كان يؤلف «الاستشراق» لم يكن يدرك بأنه كان يقوم بتأليف أحد أهم الكتب تأثيراً على الثقافة البشرية، فقيمة الكتاب تتخذ يوما بعد يوم أهمية مضاعفة، خاصة في ظل الأزمات المتتالية، واندلاع المواجهة بين الشرق والغرب، وهذا يعني أن ثمة حاجة لمنهج أو وسيط معرفي يتجاوز تلك المعرفة الغربية القائمة على آليات عمل مشوهة، ووسطاء لا علميين، وهذا يجعل من الكتاب مجالاً متفردا في مجال الدراسية السيواجتماعية، كما يذكر روبرت مِكروم. لقد تمكن إدوارد سعيد بوصفه فلسطينياً يعيش في الغرب من التقاط تلك المهيمنات الثقافية التي مارسها المستعمر الغربي للتمكن من الشرق عسكريا وثقافياً، وهنا يحيل روبرت مِكروم إلى الدور الذي كان يمكنه أن يحدثه الكتاب في بيان وتحليل – على سبيل المثال – عواقب الغزو الأمريكي للعراق، الذي نتج بفعل التفكير النفطي الغربي، بالتزامن مع الاعتماد على بيانات ومعلومات مغلوطة، فكان لعواقب هذا الغزو سلسلة من التداعيات، تتحدد بانفلات مقدرات من التفكير المتشدد الذي أفضى إلى التردي الذي يعاني منه العالم. ولعل واضع القائمة أراد أن يشير من خلال اختياره لكتاب «الاستشراق» إلى توصيف الخلل في البنية المعرفية الغربية، أو إلى ذلك القصور الغربي من حيث فهم التكوين الثقافي للشرق، الذي لو تحقق بطريقة صحيحة لكان قد حال دون وقوع هذه الأزمة، والمواجهة بين الشرق والغرب في الزمن المعاصر، عبر تبني قراءة أو معرفة متفحصة للتكوين الشرقي، أو للعقل في العالمين العربي الإسلامي تقوم على توظيف أو اعتماد منهجيات ومصادر واقعية وعلمية. إن نهج التعامل الغربي مع الآخر كان أقرب إلى الغموض والتشويه، ما أنتج الكثير من الأخطاء، لقد استطاع إدوارد سعيد أن يكشف عن مستوى خطابي غربي يتحدد بمفهوم الآخر، أو الآخرية، وبالتحديد في التكوين الخطابي، أي تلك الذات المعرضة لأنماط من التنميط القائم على الصوغ الثقافي (العرقي – التاريخي) العابر لكافة المستويات، إن المعرفة الغربية ما هي إلا نتاج خطابات نشأت من مناطق جغرافية، لم تكن لديها معرفة حقيقية تجاه الشرق، بل كانت عبارة عن وسائط متخيلة، بدأت قديماً مع هوميروس، واتخذت أشكالا أخرى لدى فلوبير، ودزرائيلي، وغيرهم في العصر الحديث، وهو ما أفضى إلى مرحلة استعمارية، ما زالت تلقي ظلالها الكئيبة على العالم. فالإشكالية تكمن في أن الاستعمار للآن، لم ينتهِ من تسديد فاتورة استعماره، التي – على ما يبدو – فإن ثمنها قد يكون المزيد من العداء المتبادل، فما الأفكار سوى ذلك القَدر الذي يحدد مسارات الأمم، والغرب متخم بالتأويل المغلوط، والفهم المنحرف في ما يتعلق بالشرق؛ ومن هذا المنطلق يصف روبرت مِكروم كتاب «الاستشراق» بأنه الكتاب الذي أثار جدلاً في كل زاوية من زوايا العالم. تذهب صحيفة «الغارديان» إلى أن العرب والمسلمين، ما زالوا وقوداً للكثير من الجدل والصراع والحروب، وهذا ناتج، أو يفسر من وجهة نظري إلى هيمنة فكر استعماري متأصل في البنية المعرفية للغرب وعقليته، وهذا يدعوني إلى أن أفسر النزاع المحتدم بين الشرق والغرب، علاوة على تصاعد الإرهاب إلى عدم قدرة الغرب على اتخاذ موقف واضح تجاه القضية الفلسطينية في المقام الأول، فمادام الكيان الصهيوني قائماً – بفعل القوى الغربية – فإن المواجهة سوف تبقى مستمرة. تشير الصحيفة إلى أن إدوارد سعيد كان يعد من أهم المدافعين عن القضية الفلسطينية، وعلى الرغم من ذلك، فإنه كان من أكثر الداعين إلى تهذيب البشرية عبر الدعوة إلى الإنسانية، أو خطاب الأنسنة للتخلص من الكراهيات المتبادلة بين الثقافات. إن دعوة سعيد لمسلك وفكر إنسانيين، يأتي من أجل تحرير العقل من معارف وخطابات مشوهة وتاريخية. لقد باتت معظم الأفكار شرنقات، نعيش فيها، ونتقاتل من أجلها، ولعل هذا ما قاد إدوارد سعيد إلى نفي المقولات الغربية المقبلة من المراكز المتروبوليتانية، وتتمحور حول صدام الحضارات والصراع. إن من أسهم، أو أوجد هذا القدر الكبير من الكراهيات… تلك الأنساق الداعية إلى العزلة والإقصاء؛ ولهذا فقد دعا إدوارد سعيد الغرب إلى تلمس حقيقة مفادها أن الثقافة ما هي إلا فعل هجين، ولذا فهي أبعد ما تكون عن المجانسة، وأبرز مثال على ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، لقد باتت الذوات المنفردة، كما التمحور حول النقاء، وقيم العرق والثقافات المتعالية، مجالاً غير صالح، بل هو فاسد أقرب إلى الأكذوبة، وهو ما سوف يؤدي عاجلاً أو آجلاً إلى فناء بعض الثقافات وضياعها في التاريخ. تؤكد صحيفة «الغارديان» على أن إدوارد سعيد سوف يبقى لزمن طويل من أشد الأسماء أهمية في الثقافة العالمية على مر التاريخ، لقد استطاع مؤلف الاستشراق الخروج من العبارة التراجيدية حتى يمارس حرفته كناقد أدبي عظيم على حد تعبير روبرت مِكروم، فليس ثمة مجالاً، أو وقتاً لترجمة اللغة، أو الإغراق في تناول الأفكار المعقدة والهامشية، فكتاب «الاستشراق» بات لافتات متداولة، كما مقولات، ومراكز معرفية، يتداولها النقاد والمفكرون… غير أن الأهم يتمثل بأن الكتاب قد بات مجالا حيوياً أو مركزا مرجعياً للقراءة والبحث من قبل الساسة، ودوائر الخارجية في بعض الدول الغربية… فالمعرفة الغربية للشرق لم تكن سوى ادعاءات قام بها أناس، لم يمتلكوا ناصية الحقيقة، ولا القدرة أيضاً على صوغ منهجية حقيقية لكونها تأتي من لدن مؤسسات أو أشخاص تظاهروا بمعرفة الشرق، مما يعني أن هذا المجال قد بات حيوياً، بل وباعثاً على المزيد من التنشيط المعرفي، وتحديداً بعد أن غرقت أوروبا والولايات المتحدة في مستنقع الشرق، وحروبه التي بدأت مع غزو العراق، ومن ثم في سوريا وليبيا، وغير ذلك، ومن هنا، فإن أصدق تعبير يمكن أن يلخص كتاب إدوارد سعيد .. ما استعانت به صحيفة «الغارديان» من مقولة الناقد الإيطالي إيتالو كالفينو، حيث قال «إن كتاب «الاستشراق» من تلك الكتب، أو ذلك النوع الذي لم ينهِ ما كان يريد أن يقوله».