هل المحاصصة المصدر الاساس للفساد، كما تطرح اجتهادات محترمة؟ فالمحاصصة وأي شكل من اشكال التجاوز على المؤسساتية والحقوق العامة سيخلط الاوراق ويشيع الفوضى ويشجع الفساد. لكننا قبل كل شيء لابد الاتفاق، ماذا نعني بالمحاصصة والفساد، لكي لا نخلط بدورنا المفاهيم، وبالتالي علاجاتها.
المحاصصة هي تقاسم احزاب وجماعات محددة مواقع الدولة من ابسط موقع الى اعلاه وحصرها في محازيبهم على حساب المواطنين.. بل وتقاسم المجتمع مناطقياً واجتماعياً واقتصادياً، والتحكم بحياة الناس. فلا تعتبر محاصصة حكم حزب او ائتلاف احزاب.. فهذه ممارسة ديمقراطية لا غبار عليها نجدها في جميع الدول، ما دام الحزب او الائتلافات تحترم مساحاتها المخصصة حصراً في البرلمان والحكومة والعمل السياسي، وتحترم حرية الانتخابات ونزاهتها وتداول السلطة والفصل بين السلطات.
اما الفساد فهو اكثر من السرقة بمعناها المعروف، اي وضع اليد على الاموال العامة او الخاصة.. . الفساد الذي يتم الكلام عنه، هو ظاهرة اجتماعية ادارية بنيوية مفاهيمية مهيمنة، تضيع فيها الحدود الفاصلة بين الحقوق والواجبات والمسؤوليات والحقائق. فتختلط الامور، فيصبح الفاسد مصلحاً والمصلح فاسداً، والحلال حراماً والحرام حلالاً، والصواب خطأ والخطأ صواباً.. فلا يميز الناس والعاملون بين ما لهم وما عليهم. انه الدولة المترهلة بـ 7 مليون موظف ومتقاعد والذين يستهلكون نصف الموازنة تقريباً، مقابل عمل لا يعادل 17 دقيقة في اليوم للفرد، تقابلهم اعداد مماثلة من العاطلين لانهيار النشاطات خارج الدولة.. انه الفضائيون والمطلبيات والموارد غير المبررة.. انه الانفاق والعقود المضخمة مبالغها بعشرات المرات، عن كلفها الحقيقية.. انه المشاريع غير المنجزة، والتي لن ينجز معظمها، والبالغة في 2015، حسب وزارة التخطيط حوالي 9000 مشروع قيمتها حوالي 300 مليار دولار.. انه الرواتب والامتيازات المفرطة للمسؤولين والهدر العام للاموال والموجودات.. انه التشريعات المتضادة والمتراكمة من عهود المركزية والاستبداد والاقتصاد الموجه، والدعاوى الكيدية والتي تسمح بتبرأة المجرمين وادانة الابرياء.. انه الاحباط الذي يشعر به المخلصون الذين يقومون بواجباتهم بهمة وابداع، ليلاحقوا لاخطاء تافهة تلازم كل عمل.. انه “الاقطاعات الادارية” والشبكات المستفيدة داخل الدولة وخارجها، وداخل البلاد وخارجها، والبارعة في الغش والتزوير والرشاوي، والبارعة بتكييف اوضاعها ومعاملاتها مع كل غهد وتغيير.. ليتحول الانتهازيون الى شرفاء والشرفاء والمضحون الى انتهازيين.. انه تعطيل التجديد والابداع والمشاريع المثمرة والناجحة، مما يفقد البلاد فرص التقدم والمكاسب والارباح…. انه ضعف الحوكمة والعصرنة والنظم الالكترونية، وسرعة تقلب التعليمات والقوانين وفقدان الشفافية وعدم السماح بالمعلوماتية، وعدم تعريف وتطبيق شروط كل واجب وعمل وحق ليعرف اصحاب العلاقة ما لهم وما عليهم. انه هذه الاشياء وما هو على نسقها.. انه باختصار فساد نظام ومنظومات ومفاهيم يقود لفساد المجتمع والافراد.
لم يبدأ الفساد مع المحاصصة بل سبقها بكثير.. شجعه حكم العسكر والحزب الواحد والدكتاتورية.. وفي فترة الحروب والعقوبات والحصار.. واثناء الاحتلال.. وهو ما زال قائماً ويتعمق باستمرار، ما دامت الدولة الريعية المحتكرة المتغولة هي الحاكمة. ودور المجتمع معطلاً وتابعاً وثانوياً.. وما دامت القوة او القوى السياسية والعشائرية والمناطقية تتجاوز اطاراتها وتفرض نفسها.. وما دامت التشريعات والنظم لا تنظمها فلسفة موحدة ومرجعية متناغمة ومعاصرة ودستورية.. وما دام القضاء والامن وقوى الرقابة والردع ضعيفة وعاجزة، او منشغلة بالهوامش وتاركة المتن.. وما دامت السياقات والاجراءات متقلبة ومتناقضة، بعيدة عن المؤسساتية والقواعد الواضحة والعملية والشفافة لحدود وافاق الواجبات والمسؤوليات والحقوق.